وثيقة تاريخية بالفرنسية من أرشيف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن رمضان إبان الاستعمار (1952)

أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/ (الجزء الأول)/ مع كل عام من أعمار البشرية والمسلمين خصوصا، تتوالى الأيام، وتتبدل الفصول، ويبقى رمضان شهرًا متفردًا في أثره، عظيمًا في أسراره، مُشرقًا بنوره على القلوب والعقول، فهو موسم لا يُشبه غيره، تتجلى فيه معاني الروح قبل الجسد، وتُختبر فيه النفوس بين لذة الصبر وحلاوة الإيمان!! في مقالنا اليوم، …

مارس 10, 2025 - 12:21
 0
وثيقة تاريخية بالفرنسية من أرشيف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن رمضان إبان الاستعمار (1952)

أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/

(الجزء الأول)/

مع كل عام من أعمار البشرية والمسلمين خصوصا، تتوالى الأيام، وتتبدل الفصول، ويبقى رمضان شهرًا متفردًا في أثره، عظيمًا في أسراره، مُشرقًا بنوره على القلوب والعقول، فهو موسم لا يُشبه غيره، تتجلى فيه معاني الروح قبل الجسد، وتُختبر فيه النفوس بين لذة الصبر وحلاوة الإيمان!!
في مقالنا اليوم، نتناول كتابًا يأخذنا في رحلة تتجاوز الأحكام الظاهرة للصيام، لتغوص في أعماق مقاصده، وتكشف عن كنوزه الروحية، فهو ليس امتناعًا عن الطعام والشراب فحسب، بل تطهيرٌ للنفس، وتهذيبٌ للروح، وتحريرٌ للإنسان من أعدائه، من خلال صفحاته يعرف المؤمن كيف يكون رمضان بوابةً إلى التقوى، وساحةً لمجاهدة النفس، ومدرسةً ترتقي فيها القلوب إلى معارج السمو، إنه دعوةٌ للتأمل، وفرصةٌ لإدراك حقيقة الصيام لا كعادة، بل كعبادة تنبع من القلب وتسمو بالروح، بل هو «صوم صبر و جهاد»، كما عنون به أحد معاصرينا أحد أنفس كتبه.
طبعا، عنوان هذه المقالة «الصوم تربية وجهاد»، ليس من بنات أفكار صاحب هذه السطور، إذ كما هو معروف لدى الباحث المسلم عموما والجزائري خصوصا، هو عنوان كتاب عريق معروف للعلامة الدكتور محمد عبدالله دراز (1894م-1311/ 1958م-1377)، المصري الأزهري والمعروف بتمكنه أيضا بلغة فولتير (الفرنسية)، حيث درسها في جامعة السوربون الباريسية وتعرف أيامها وزامل المفكر الجزائري مالك بن نبي، وقد طلب منه هذا الأخير تقديم كتابه بالفرنسية «الظاهرة القرآنية»، كما هو معلوم للجميع.

مؤلف كتاب «الصوم تربية وجهاد» في سُطور:
العلّامة الأديبُ الباحث محمد عبد الله دراز المولود عام 1894م بقرية «محلة دياي»، محافظة كفر الشيخ بمصر، نشأ وترعرع في بيتٍ عامرٍ بالتقوى والصلاح، لأب فقيه لغوي معروف، وأتمّ حفظ القرآن الكريم وتجويده وهو دون العشر سنين!!
وفي عام 1916م حصل الشيخ دراز على شهادة العالمية، ثم عمل مدرسًا ﺑ«معهد الإسكندرية الأزهري» حتى عام 1928م، ثمّ محاضرًا في الكليات الأزهرية الناشئة عام 1930م، وقد كان الشيخ دراز محبوبًا بين طلابه وزملائه؛ لِمَا تحلّى به من الأخلاق الكريمة، والتواضع الجم، مع ما شُهِد له به من سعة العلم، وموسوعيّة المعرفة، وصلاح الظّاهر، ونقاء الباطن.
وفي عام 1936 حصل على منحة علمية لدراسة فلسفة الأديان بجامعة السوربون في فرنسا، استغرقت اثنتي عشرة سنة؛ تعرف فيها على مالك بن نبي و بعض رموز العلم و الجهاد من رجال الجزائر الذين يتقنون الفرنسية أحسن من العربية أحيانا، أيامها، ولكن دون أن ينال طول إقامته في فرنسا، مع كثرة احتكاكه بالمستشرقين من أزهريته وثقافته الإسلامية الوسطية الرّصينة..
وقد تميزت كتابات الشيخ دراز المتعددة بعمق التحليل، ودقة الاستدلال، وإحكام الاستنتاج، وكان رحمه الله يؤثر البحث الهادئ؛ طال أمده أم قصر؛ لذا كانت كتاباته وأبحاثه غيث الظمأ لدى الدّارسين، بالإضافة لإجادته الكتابة باللغة الفرنسية، ورده على الجرائد الفرنسية وغيرها؛ لبيان حقائق الإسلام وعدله وسماحته !!.
ولم تكن حياة الإمام العلمية بمعزل عن وطنيته و عروبته وقضايا أمته أيام الحقبة الاستعمارية؛ فقد كان لمحاضراته في السفارات الأجنبية بمصر إبان ثورة 1919م باللغة الفرنسية الأثر العظيم في شرح قضية بلاده أمام مُمثلي الدُّول الغربية، كما كان له دور توعوي رائد في مقاومة الاحتلال البريطاني لمصر، وتأييد حركات التحرر العربية الفلسطينية والمغربية والجزائرية.
وفي عام 1958 توفي عالمنا الجليل في لاهور بباكستان أثناء تمثيله لمصر في مؤتمر الثقافة الإسلامية، رحمه الله رحمة واسعة، ونفعنا بعلومه في الدارين.. آمين.

ولعنوان مقالنا هذا «الصوم تربية وجهاد»، وكاتب هذه السطور القصة القصيرة التالية:
وأنا منهمك هذا الأسبوع في التفكير ماذا أقول في خطبة الجمعة قبيل رمضان، وقبلها ماذا أقول أيضا لطلبتنا في ندوة دعيت إليها لمناقشة موضوع «رمضان في عهد الاستعمار، جزائر الأمس وغزة اليوم نموذجا»، بالعربية والفرنسية عن ذات الموضوع أي عن هذا الشهر الفضيل الذي نأمل أن «يتفق» فيه عموم مسلمي أوروبا، وحتى عالمنا الاسلامي من مشارق الارض الى مغاربها على صيامه في نفس اليوم بما فيه جاليتنا في الغرب، اذ يصادف يوم السبت أول مارس 2025، وهو يوم بداية العطلة الاسبوعية يوم الفاتح من رمضان الفضيل 1446هـ، والجزائر اليوم مستقلة، أما في الضفة الأخرى فغزة هاشم لا زالت تئن، تحت الظلم والاستعمار، فأحببت أن استحضر صورا وبطولات من تراثنا الإسلامي المعاصر في هذا الشهر الفضيل. متسائلا، كيف كان أجدادنا يصومون ويقاومون الاستعمار في الجزائر ودول المغرب الإسلامي و باقي المستعمرات الفرنسية أيامها، رغم قلة ذات اليد لديهم و مشاكل لوجيستية و مادية جمة، فاستوقفني مقال رائع عن رمضان بنكهة خاصة في عهد الاستعمار البغيض لأرض الجزائر، المقال من مجلة «الشاب المسلم»، الجزائرية والتابعة لجمعية العلماء المسلمين، في أول عددها بتاريخ يوم الجمعة 6 جوان 1952، الموافق لتاريخ 13 رمضان 1371 هـ، بعنوان :
«Signification morale du Ramadhan»
معنى « الصوم مدرسة للتربية وميدان للجهاد» في البلدان المستعمرة، خاصة :
يمكن ترجمة هذا العنوان بـ:» الأهمية الأخلاقية لشهر رمضان»، أو «المعنى الأخلاقي لرمضان»، حيث قدم المقال في الصفحة الثامنة بتوقيع ابن الحكيم، وهو الاسم الحركي أيامها الذي كان يوقع به مقالاته أستاذنا الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، شفاه الله وعافاه، في مجلة «الشاب المسلم»
(1952- 1954)، وهو من أقلامها ومؤسسيها، جزاه الله خيرا، حيث كتب يقول (حفظه الله):

بمناسبة حلول شهر رمضان إرتأينا أن نوضح لقرائنا الأعزاء «معنى الصيام في الإسلام». ولكننا لن نستطيع أن نفعل ذلك بشكل أفضل مما كتبه الدكتور محمد عبدالله دراز، في دراسته الرائعة عن «أخلاق القرآن» والتي نقتبس منها المقطع المرفق أدناه.
و يضيف الدكتور الإبراهيمي بقوله: «طبعا الدكتور دراز ليس مجهولاً لدينا نحن (في الجزائر). فهو طالب سابق في جامعة السوربون، وأستاذ في جامعة الأزهر بالقاهرة، ومؤلف، بالإضافة إلى الأعمال المذكورة، فقد كتب مقدمة ممتازة لكتاب «الظاهرة القرآنية» لصديقنا المفكر مالك بن نبي ( …) وقد سعى الدكتور الدراز دائما إلى الدفاع عن الإسلام ضد أولئك الذين يريدون تشويهه بين قوسين (مثل بعض المستشرقين)، كاشفا للأجيال الجديدة عن نور ديننا الحقيقي، مبينا للجميع أن الإسلام ليس دينًا فحسب، بل هو نظام فلسفي كامل شامل، من خلال الاعتماد على هذا الكنز الذي لا ينضب كتاب الله «القرآن الكريم»، والذي يشكل مصدرنا الرئيسي للنور والحضارة، وفي نفس الوقت باعتباره قانوننا الأساسي غير القابل للتغيير ولا التحوير».

الأهمية الأخلاقية لوصفة الصيام في شهر القرآن !!
ثم سرد الدكتور طالب، هذه القطوف عن مدرسة الصيام في شهر القرآن، من مقال الدكتور دراز، منها قوله :
بقدوم اول أيام رمضان، سوف يشهد المسلم نوعاً من الألم الجسدي الذي يحدث أثناء أداء واجب الصيام، لكنه ليس جزءاً منه. فهو بطبيعته لا يمكن أن يكون موضوعا لالتزام؛ لأن، بحكم التعريف، كل الألم هو صبر وليس عمل (..) ولذلك جاءت وصفة الصيام بالنسبة إليه على هذا النحو: «أن تجعل نفسك تعاني من الجوع والعطش بالامتناع عن الأكل والشرب في هذه الساعات المحددة» (…) من الواضح أن المعاناة الجسدية لا تدخل في الحساب هنا كجزء من الواجب، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. في الواقع، فإن الواجب يقع في مكان آخر؛ لأن الجهد الذي نبذله هنا هو في الأساس جهد أخلاقي. إنها أولاً وقبل كل شيء نوع من التدريب المفروض على الإرادة البشرية للحصول منها على انتظام معين، وثبات معين في خضوعها للإرادة الإلهية!!

ساعات الصيام نظام غذائي متوازن مدة شهر كل عام، دون أن يؤثر على كمية أو نوعية الطعام:
ولتسهيل هذه المهمة – يقول الدكتور دراز-: (…) فإن الممارسة المقترحة للصيام بسيطة للغاية. هو نظام غذائي يتم إتباعه لمدة شهر كل عام، وهو نظام ينظم ساعات الصيام دون أن يؤثر على كمية أو نوعية الطعام، « من الفجر لا تأكل شيئاً طيلة اليوم؛ بعد غروب الشمس يصبح كل شيء مسموحا مرة أخرى. وتنطبق القواعد نفسها على العلاقات الجنسية»… وبالتالي، بالنسبة لنفس الفعل، سيتلقى الانسان تعليمات متعارضة مرتين، في اليوم: الأولى بالامتناع، والثانية بالتصرف. فهل سيتحمل المسلم عناء تنفيذ هذين الأمرين في نطاقها الخاص، والبدء في نفس التمرين مرة أخرى خلال شهر كامل، يا له من استرخاء للإرادة! لأنه بالطاعة يصبح الإنسان مطيعًا؛ وبفضل القيادة يصبح الإنسان حرا بل سيدًا حقيقيًا. علاوة على ذلك، لا يهدف هذا التمرين إلى أن يقتصر على الكائن المادي الذي ينطبق عليه؛ فهو يستهدف سلوكاتنا بأكملها».
مستطردا بقوله: «إن الأهمية الأخلاقية للصيام، كما عرفناها للتو، لا تنبع فقط من الإطار العام للتعاليم القرآنية؛ وقد ورد ذلك في نفس النص الذي يأمر بهذه الممارسة: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». ويقول لنا أهل العلم: «أن الله تعالى يكافئ الصائمين بلا حدٍّ؛ وأن الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان»، أو يقول لنا النبي (ص): «الصوم جنة». لا يوجد أي إشارة في هذه النصوص، ولا في أي مكان آخر أعلمه، إلى أن المعاناة الجسدية تشكل واجبًا أو إحدى العواقب التي يشير إليها التشريع الرباني!!
يتبع