أمريكا تريد الدوس على المفاهيم والتشريعات
خلافا لما ظل عالقا بأذهان البعض، فإن الصراع مثلما يولِّد أثارا، فإن أثراه تلك تعيد ليس فقط انتاجه وإنما تشكيل عناصر انتاجه، هذا ما يبدو واضحا من خلال ما يجري بين الولايات المتحدة الامريكية والقوى الصاعدة والصانعة للتاريخ اليوم، والغرض هو الحد من إيقاع تلكم القوى السريع في مطاردة الامريكان باتجاه أعلى هرم الحضارة والسيطرة …

خلافا لما ظل عالقا بأذهان البعض، فإن الصراع مثلما يولِّد أثارا، فإن أثراه تلك تعيد ليس فقط انتاجه وإنما تشكيل عناصر انتاجه، هذا ما يبدو واضحا من خلال ما يجري بين الولايات المتحدة الامريكية والقوى الصاعدة والصانعة للتاريخ اليوم، والغرض هو الحد من إيقاع تلكم القوى السريع في مطاردة الامريكان باتجاه أعلى هرم الحضارة والسيطرة على العالم في اسواقه ومصائره.
ومن عناصر التحول في هذا الصراع المفضية كما أشرنا إلى إعادة انتاجه وتشكيل نمطه، مسألة المفاهيم والتعريفات باعتبارها معايير دولية في ضبط النشاط الإنساني في كل مجالات حياة الأفراد والأمم وشرعنته ووضعه في الإطار الذي من شأنه أن يطلق من قدرات العقل الإنساني كأساس لبلوغ الرفاهية والتقدم.
فالإبداع والاختراع وفق ما سلف من تقديم، هو أسمى نشاط إنساني يشتغل عليه العقل البشري كميزة بشرية وحتمية وجودية لتجاوز متاعب المراحل التاريخية السابقة ببدائيتها وحداثيتها، صار اليوم محل جدل مفهومي وتوظيفي يطال أسسه الفلسفية ودوره التاريخي في القفزة التي حققتها البشرية بفضله على كامل صُعد حياتها فيها، وهذا فقط لأن الصراع حول السوق وحول الهيمنة لم يعد يقبل فيما يبدو بما هو مصطلح عليه من مفاهيم ومنها مفهوم الابداع والاختراع كإطار نظري وتعريفي، فأين تجلى هذا الجدل في نطاق التدافع الكوني بين قوى الهيمنة؟ ما أثره على الدول التي لا يزال فيها العقل الإبداعي في مراحل حبوه أولى؟
في أثناء الثنائية القطبية
معروف أنه حالما تمكن الحلفاء من سحق النازية وحلف المحور الداعم لها، ظهر الشرخ الأيديولوجي فيما بينها وبين الاتحاد السوفياتي، وانقشعت شرارة التحدي التكنولوجي الفضائي والعسكري كمظهر من مظاهر الحرب الباردة الطويلة، أين سيلجأ كلٌ وبدأب إلى محاولة سرقة انتاج الكل والعمل عليه تعديلا أو تبنيا كليا، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى التشكي من هذا “الاستراق المبادل” بين القوتين، حتى وإن حرص كل منهما استخباراتيا على منع الآخر من بلوغ المعلومة العلمية وإن اقتضى ذلك قتل أو سجن عقولها و أدمغتها المتمردة أيديولوجيا كما كان مع ثيودور هول الذي سرب معلومات للسوفيات حول مشروع مانهاتن لصاحبه أوبنهايمر والمعادلة التي توصل إليها للحصول على القنبلة الذرية.، ما مكن ستالين من تحقيق وتوازن الرعب في وقت حيوي من الصراع.
تكنولوجيا السوق وسوق التكنولوجيا
اليوم وفي سياق صراع مستمر لكن بشكل جديد، لم يعد ثمة ما يمكن اخفاؤه والقدرة الاخفاء في ظل سموات مفتوحة، وعقول متنقلة، ورغائب في المال والمادة عابرة لكن اسوار الايدولوجيات والمثاليات، تحولت المعضلة من خطر نقل المعلومة وخطأها إلى ما يتعلق بالملكية الفكرية والابداعية، حيث يستميت الامريكان اليوم في الدفاع عن هذا الحق خارج كل التوصيات والقوانين التي تضبطها، وهي بذلك (الولايات المتحدة) لا تريد أن تكتفي بما صارت إليه سياستها خصوصا منها التي أرسى قواعدها دونالد ترامب، عديد البنى المؤسساتية والقيم والقوانين الدولية، باعتبارها تعيق توجهاتها وإرادتها في الهيمنة وبالتالي كسر كل أطر التنافس مع الغول الصيني الماثل في كوابيس مسئوليها مذ استيقظ هذا العملاق، وإنما باتت تطالب برفض النظام المفاهيمي الدولي كونه لا يحمي حق الملكية الفكرية والابداعية للأمم !
وفي هذا السياق، أشار الدكتور طلال أبو غزالة، الذي كان عضوا بمجلس الملكية الفكرية العالمية التابع للأمم المتحدة، بأن تعريفه المجلس للاختراع بأنه ” أي تطوير أو تحديث في أي شيء يفيد وقابل للتسويق” وواضح من هذا التعريف أنه يروم جعل الحضارة البشرية متصلة فيما بينها عبر خيط واصل بحيث لا يمكن لأي طرف الادعاء بالشذوذ عن الجهود المشتركة بين بني البشر في تحقيق الرفاهية للإنسانية تطويرا وابداعا.
فالرغبة الأمريكية والحال هذه في الانتقال في الصراع من الشيئية إلى المفاهيمية، بغية الحد من قدرة الغير في المساهمة الحضارية، هو خطر على الإنسانية ذاتها، التي سينقطع خيط العقل الإبداعي فيها باعتباره أن المسألة الإبداعية هي تراكمية وتمتد في التجربة الإنسانية إلى كل الحضارات في كل أطوارها ومراحلها، كما أنه خطر على الامريكان نفسهم الذين بسعيهم إلى تغيير مفهوم الاختراع وفق ما حمله النص التعريفي لمجلس الملكية الفكرية المذكور أعلاه، سيكونون بصدد الاكتفاء بما ينتجه عقلهم الإبداعي من أشياء لا يشترك فيها أو لا يماثلها منتوج أو فكرة منتوج خارج الدائرة الامريكية، وهذا أصلا غير موضوعي في التاريخ وغير قابل للتجسد، على اعتبار أن العقل مشترك انساني في الإنتاج وفي التصور والاستيعاب.
الحجر على العقل الآخر
يبدو إذن أن العبث الأمريكي في سعيه للعصف بمنظومات العالم الضابطة لنشاط العقل الإنساني، غير ناظر لحدود أو متوقف عندها، ورغبته في تجاوز نصوص وتعاريف مشتركة لنشاط الإنسانية في الاختراع والابداع، تنم على أن الولايات المتحدة الامريكية تعاني من ثقل مركزيتها في العالم ومتعثرة في إيقاع تقدم هذا العالم المتسارع، وهو ما يعكسه عجزها في إنتاج المفاهيم والمعاني التي تتماشى ونمط الصراع الحالي، فصار الامريكان بذلك يحاولون القفز إلى الأسس التي يقوم عليها جهاز إنتاج المفاهيم، حتى يتوصلوا إلى الحجر على عقل الغير في الحضور بباحة الصراع التاريخي الذي بات يستوعب كل مجالات التاريخ.
هذا الحجر يمكن أن يتضمن عبارة أخرى لما سبق ودرج في مضمون الخطاب الدولي القديم من اشكالية نقل التكنولوجيا، أين كان الأمم المسماة وقتها بالسائرة في طريق النمو تجتهد للحصول عليه، وتشتكي من إرادة عدم بلغوه من قبل الدول المتقدمة، حتى تظل سوقا تابعا لها تستهلك بضاعتها ومنتجاتها من التكنولوجيا.
إذن يبدو أن سخونة ما هو حاصل من صراع دولي، سوف تمتد القوة فيها إلى ما هو تأسيسي غير مادي، من عناصر الصراع هذا، وسوف لن يتم الاكتفاء بمعارك السوق ومعايير دخولها وخروجها عبر ما يحصل من إنتاج الأشياء، بل سيطاله إلى ما يتعلق بمسألة الامتثال من عدمه لما هو محل إجماع مؤسسي دولي يضبط نشاط الاختراع والابداع وإنتاج الأشياء، تماما مثلما يحدث من تنصل بعض الدول من اتفاقيات وأطر قانونية دولية، ترى فيها حائلا دون بلوغ رغائبها حتى وإن شكلت تهديدا للمشترك الإنساني.
بشير عمري