وصية نبوية جامعة لخيْرَيْ الدنيا والآخرة
بقلم: مسعود فلوسي روى الإمام الترمذي في سننه عن معاذ بن جبل وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ». وصية عظيمة: هذه وصية عظيمة أوصى بها رسول الله صلى الله وسلم صحابته، وهي وصية لا يستغني عنها …

بقلم: مسعود فلوسي
روى الإمام الترمذي في سننه عن معاذ بن جبل وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ».
وصية عظيمة:
هذه وصية عظيمة أوصى بها رسول الله صلى الله وسلم صحابته، وهي وصية لا يستغني عنها أي مسلم في كل زمان وفي كل مكان. هذه الوصية جمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيري الدنيا والآخرة، بحيث إذا عمل بها المسلم صلحت علاقته بربه، وصلح حاله في نفسه، وصلحت علاقته بالناس، وبذلك يعيش سعيدا في الدنيا ويكون من الناجين من النار والمنعمين في الجنة يوم القيامة.
تتكون الوصية من ثلاثة بنود، يتعلق البند الأول بإصلاح علاقة الإنسان بربه سبحانه وتعالى، ويُعنى البند الثاني بإصلاح الإنسان في ذاته في علاقته بنفسه، وأما البند الثالث فيختص بإصلاح علاقته بالناس من حوله. فالمسلم مطالب بأن يصلح علاقاته الثلاث إذا أراد السلامة والطمأنينة في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة.
تقوى الله على كل حال:
«اتق الله حيثما كنت»؛ أي مهما كان الحال الذي أنت فيه، ومهما كان المكان الذي توجد فيه، ومهما كانت الوظيفة التي تؤديها في الحياة، ومهما يكن حالك من الصحة أو المرض، أو من القوة أو الضعف، أو من الغنى أو الفقر، فعليك أن تتقي الله.
«اتق الله»، معناها: راقب الله عز وجل في كل أقوالك وتصرفاتك، استحضر أن الله سبحانه وتعالى يراك، ويرى كل ما تفعله، ويسمع كل تقوله، ويعلم كل ما تخفيه في نفسك. وإذا عرفت أن الله مطلع على كل ما تفعله أو تخفيه، ويحصي عليك كل أقوالك وأفعالك، وأنه سيحاسبك على كل كبيرة وصغيرة: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8)، إذا عرفت كل هذا فيجب عليك أن تتقي الله، لأنك إذا لم تتق الله ولم تخشه ولم تحسب حسابا لعذابه وعقابه فأنت تستهين بالله ولا تقدره عز وجل حق قدره، وهذا ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات المشركين، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67).
«اتق الله»، معناها: خَفِ الله عز وجل، وضع في حسابك أن كل فعل أو قول سيحاسبك الله عليه. فإذا أردت أن تصلح علاقتك بربك سبحانه وتعالى، وأن يرضى الله عز وجل عنك، وإذا أردت أن تنجو من غضب الله وعقابه، فعليك بتقوى الله وإصلاح علاقتك به سبحانه وتعالى في كل أحوالك.
وقد جاء الأمر بالتقوى كثيرا في القرآن الكريم؛ موجها إلى الناس كافة، وموجها إلى المؤمنين خاصة، فمن الأول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: 1)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج: 1). ومن الثاني قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران: 102)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 9). وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (الأحزاب: 70).
وإذا تحلى المؤمن بالتقوى وعمل بها في حياته، كان جديرا بنوال ما أعده الله للمتقين من الخير في الدنيا والنعيم في الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل: 128)، وقال سبحانه: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر: 61)، وقال عز من قائل: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر: 73).
محو السيئات بالحسنات:
«وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمْحُها»؛ الإنسان في هذه الحياة معرض للأخطاء، بارتكاب الذنوب والمعاصي، معرض لأن يخطئ بيده أو برجله أو بعينه أو بأذنه أو بلسانه أو بقلبه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ» (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم)، وما ذلك إلا لأن الإنسان ضعيف بخلقته، كما أخبر خالقه عز وجل: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، فهو ضعيف أمام الشهوات والمغريات والملذات، تغره نفسه، يخدعه الشيطان، تغويه الدنيا. والعيب ليس في الخطأ بحد ذاته، وإنما العيب في الاستمرار فيه والإصرار عليه ومواصلة ارتكاب المعاصي والذنوب. ولذلك فالواجب على المؤمن إذا أخطأ؛ أن يتوقف عن الخطأ وأن يندم عليه ويستغفر الله منه ويتوب إليه عز وجل: «وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون»، ولا ينبغي له أن يستمر في غيه ويصر على العصيان والتمرد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للمُصِرِّينَ الذين يُصِرُّون على ما فَعلوا و هم يعلَمون» (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد).
والرسول صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى عدم الاكتفاء بمجرد الندم والتوبة، وإنما ينبغي علينا أن نقوم بعمل إيجابي يتمثل في عمل حسنة تمحو أثر السيئة المرتكبة، فلا بد من القيام بعمل من أعمال الخير نصحح به الخطأ ونمحو به أثر المعصية، وإذا كان المؤمن في كل مرة يرتكب معصية يعوضها بطاعة، فلا يبقى في كتابه سوى الحسنات والطاعات فيكون ممن قال الله عز وجل فيهم : (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة: 8). والحسنات أبوابها كثيرة لا تعد ولا تحصى، منها: إلقاء السلام، إطعام الطعام، صلاة النافلة، الصدقة المستحبة، الصيام المندوب، الابتسامة في وجوه الناس، الكلمة الطيبة، قضاء حوائج المحتاجين، الإصلاح بين المتخاصمين، إعانة من يحتاج إلى العون، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، الاستغفار، قراءة القرآن، الصلاة النافلة، السعي على الأرامل والمساكين، رعاية اليتامى، وغير ذلك من أعمال البر والخير التي نجد تفصيلها في الكتاب والسنة، والتي لخصها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه).
وبما أن السيئات تُرتكب بالجوارح، فيحسن بالمؤمن إذا ارتكب سيئة بإحدى جوارحه؛ أن يفعل الطاعة بنفس الجارحة، حتى يُعَوِّدَها على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، فمن مشى إلى معصية برجليه يحسُنُ به أن يمحوها بأن يمشي بهما إلى طاعة، ومن ارتكب معصية بيده يحسن به أن يفعل طاعة بنفس اليد وهذا حتى تكون التوبة تامة، قال الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ) (هود: 114)، ولذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعمل كل يوم من الحسنات ما يقابل عدد قطع العظام في أجسامنا، حتى إذا عمل أحدنا سيئة بإحدى جوارحه تكفلت الحسنة المقابلة بمحوها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «كل سُلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (متفق عليه).
معاملة الناس بالأخلاق الحسنة:
«وخالق الناس بخلق حسن»؛ هذا البند في الوصية مما يُصلح به الإنسان علاقته بغيره من الناس. ومعناه: عامل الناس بالأخلاق الحسنة ولا تعاملهم بالأخلاق السيئة، وحتى وإن عاملوك هم بالسوء فلا تعاملهم أنت بمثله وإنما عاملهم بما يليق بك كمؤمن وهو الخلق الحسن.
فالخلق الحسن هو أفضل ما يتحلى به المؤمن في هذه الحياة بعد الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا» (رواه الترمذي)، إذ يبلغ المؤمن بحسن خلقه أعلى المراتب وأسمى المنازل، قال عليه الصلاة والسلام: «إن المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ» (رواه أبو داود). وأكثر ما يدخل الإنسانَ الجنةَ حسنُ خلقه، عن أبي هُريرة رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رسولُ اللَّه ﷺ عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، قَالَ: «تَقْوى اللَّهِ، وَحُسْنُ الخُلُق» (رواه الترمذي). وقال ﷺ: «مَا مِنْ شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وإِنَّ اللَّه يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيَّ» (رواه الترمذي). وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ من أحَبِّكُم إليَّ وأقرَبِكُم منِّي مَجلِسًا يَومَ القيامةِ أحاسِنَكُم أخلاقًا» (رواه الترمذي).ويكفي دلالة على عظم مكانة حسن الخلق أن الله عز وجل مدح به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4).
فالمؤمن ينبغي عليه أن يتمسك دائما بأخلاق الإسلام. وبذلك يعيش مرتاحا مع الناس، فلا تكون له عداوات، ولا يتبادل الأحقاد مع غيره ولا يخشى الناس منه، وهذا ما يجعلهم يقدرونه ويهابونه ويستحون منه ويعاملونه بمثل ما يعاملهم به، قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 34-35).
وإنها لوصية عظيمة جديرٌ بكل مؤمن أن يعمل بها ويتخذها منهاجا يسير عليه في حياته، فهي كفيلة – بإذن الله عز وجل – أن تحقق له السعادة والطمأنينة في الدنيا، والنجاة من النار والفوز بالجنة في الآخرة.