أيام خير وبركة.. فلنكثر فيها من الطاعات

بقلم: مسعود فلوسي روى الإمام الترمذي في سننه عَنْ عبدالله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي …

مايو 28, 2025 - 08:37
 0
أيام خير وبركة.. فلنكثر فيها من الطاعات

بقلم: مسعود فلوسي

روى الإمام الترمذي في سننه عَنْ عبدالله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

موسم خير وبر:
يقبل علينا شهر ذي الحجة وهو أحد الأشهر الحُرُم، وفي أوله موسم عظيم من مواسم الخير والبر والبركة، هو موسمُ الأيام العشر الأولى منه، هذه الأيام التي فضلها الله عز وجل على ما سواها، ورفع شأنها، وجعل ثواب العمل الصالح فيها أكثر منه في غيرها، علاوة على ما خصها به من أعمال فريضة الحج التي لا تكون في غيرها.
وقد استحقت هذه الأيام الفاضلة والأوقات الشريفة كل هذا التكريم من الله عز وجل، “لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيرها”، كما ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري. ولأن جموع الحجيج يتوجهون فيها إلى الله ملبين داعين منيبين، ولأن فيها يومُ التروية، ويومُ عرفة، ويومُ النحر وهو يوم الحج الأكبر.
ولذلك يجدر بكل مؤمن أن يجتهد في استثمار هذه الأيام بالاجتهاد في أعمال الخير، فيحرص على عدد من الخصال يتقرب بها إلى الله عز وجل ويرجو بها نوال مرضاته والفوز بمغفرته واستحقاق جنته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولينو بذلك تعظيم شعائر الله، عملا بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32). والتعرض لنفحاته، عملا بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اطلُبوا الخيرَ دهرَكم كلَّه، وتعرَّضوا لنفحاتِ رحمةِ اللهِ فإنَّ للهِ نفحاتٍ من رحمتِه يُصيبُ بها من يشاءُ من عبادِه، وسلُوه أن يستُرَ عوراتِكم وأن يُؤمِّنَ روعاتِكم».

كثرة الذكر:
‪ ‬‬
أول الخصال التي يجدر بكل مؤمن أن يحرص عليها في هذه الأيام العشر؛ كثرةُ الذكر والاستغفار، فقد أمرنا ربنا عز وجل بالإكثار من ذلك في كل الأيام وسائر الأوقات، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الأحزاب: 41-42)، وقال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152)، وقال جل وعلا:﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾ (هود: 3)، وقال عز من قائل: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 199).
وسن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نضاعف في هذه الأيام العشر من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد والدعاء والاستغفار والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وهذا ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف، فقد روى الإمام أحمد عَنِ عبدالله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ». فالتهليل قول “لا إله إلا الله”، والتكبير قول “الله أكبر”، والتحميد قول “الحمد لله”.
ولذلك كان كل من عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما يكثران في هذه الأيام من قول: “الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد”. وكان أبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق فيُكَبِّران، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا. وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يَقْدِر عليه.
ويتأكد الأمر بالذكر أكثر في يوم عرفة، فقد روى الإمام مالك في الموطأ والبيهقي في السنن عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ». وروى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». وما ذلك إلا لأن عرفة هو أفضل أيام العام، فقد روى ابن حبان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الأيام يوم عرفة». كما أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن يومٍ أكثر مِن أنْ يُعْتِقَ اللهُ فيه عبدًا مِن النارِ، مِن يومِ عرفة».

الإكثار من النوافل:
‪ ‬‬
وثاني الخصال المطلوبة من كل مؤمن في هذه الأيام العشر: الاجتهادُ في الإكثار من قراءة القرآن ونوافل الصلاة والصدقة والصيام.
هذه النوافل مستحب من المؤمن الاجتهاد فيها في سائر أيام السنة، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ (فاطر: 29). وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَن صامَ يَوْمًا في سَبيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
وهذا الاستحباب يتأكد أكثر في هذه الأيام العشر الفاضلة، فقد روى ابن ماجه في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامِ‪ ‬الدُّنْيَا أَيَّامٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ فِيهَا لَيَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَلَيْلَةٍ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ».‬
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، قالت أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما: «أربع لم يكن يَدَعُهُنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: صيامُ عاشوراء، والعشرُ من ذي الحجة، وثلاثةُ أيام من كل شهر، والركعتان قبلَ الغداة» (أي قبل الفجر).
ومما ينبغي الاهتمام به أكثر؛ صيامُ يوم عرفة لغير الحاج، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ صِيَامَ عَرَفَةَ؟ فقَالَ: «أَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»؛ أي أنه يكون سببا لمحو الله عز وجل خطايا العبد للسنة التي سبقت صيامه لهذا اليوم، وللسنة التي تليه إذا وقعت منه تلك الخطايا بغير قصد.

ترك خصال الفطرة تشبها بالحجيج:
‪ ‬‬
وثالث ما ينبغي الحرص عليه في هذه الأيام العشر: الالتزامُ بما سَنَّهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين فيها؛ وهو ترْكُ تقليم الأظافر وقصِّ الشعر لمن نوى أن يُضَحِّي، وذلك من ليلة اليوم الأول من ذي الحجة إلى الفراغ من ذبح الأضحية، ولعل في ذلك تشبها بأعمال الحاجِّ وهو في حالة الإحرام، حيث لا يجوز له أن يفعل شيئا من ذلك. روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ»، وفي رواية ثانية عند مسلم: «فَلاَ يَأْخُذَنَّ شَعرا وَلاَ يَقْلِمَنَّ ظُفرا».
وقد اختلف فقهاء المذاهب الأربعة في تكييف هذا النهي النبوي الشريف عن تقليم الأظافر والأخذ من الشعر؛ هل هو على سبيل التحريم أم على سبيل الكراهة أم هو على الإباحة؟ فذهب الأحناف إلى أن الأخذ من الشعر أو الأظافر مباح ولا شيء فيه. وذهب المالكية والشافعية إلى أنه يُستحب عدم الأخذ من الشعر أو الأظافر، ومعنى ذلك أن فعله مكروه شرعا. أما مذهب الحنابلة فهو أنه يحرم الأخذ من الشعر أو الأظافر، ومن فعله كان آثما. والرأى الراجح: أنه يُستحب لمن عزم أن يضحى ألا يأخذ شيئًا من شعره ولا من أظافره إذا دخل العشر الأوائل من ذى الحجة، تشبها بالمُحرمين، فإن فعل ذلك فقد ترك مندوبا من المندوبات، لكنه لا يستحق الإثم ولا تبطل أضحيته.

الحذر من اقتراف المعاصي:
ومما ينبغي الالتزام به في كل أيام السنة، وفي هذه الأيام الفاضلة بصفة خاصة؛ اجتناب المعاصي كبيرها وصغيرها، والحذر من الاقتراب من كل ما يجُرُّ إليها، فهذه الأيام من شهر الله المحرم ذي الحجة، وقد نهانا الله عز وجل أن نظلم أنفسنا في الأشهر الحرم، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: 36)، قال الإمام القرطبي رحمه الله: “لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظَّمَ شيئاً من جهة واحدة صارت له حُرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة؛ فيُضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح”.
فلنجتهد في الطاعات والقربات، ولنجعل من التمسك بها وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل والتحبب إليه. ولنجتنب المعاصي والمنكرات صغيرها وكبيرها، لعل سبحانه وتعالى أن يشملنا بمغفرته ورحمته، فينزل علينا بركاته وينعم علينا بخيراته وأفضاله.