هواجس السيادة القديمة في سياقات دولية متقلبة

ليس يقف الصراع الدولي المتصاعدة حدته ونطاقاته اليوم، في تأثيره على مستوى الرفع من درجات القلق الجيوبوليتيكي وإعادة تشكيل العلاقات بين الأمم والدول سواء كانت ذات الحدود المشتركية أو غير المشتركة، فذاك قد يُرى من زاوية تحصيل حاصل، وإنما ليغدو التأثير تاريخيا وكبيرا على مسارات التنمية بسبب ما يفرضه من سباق تسلح جديد، يكاد الكثير …

مايو 28, 2025 - 08:31
 0
هواجس السيادة القديمة في سياقات دولية متقلبة

ليس يقف الصراع الدولي المتصاعدة حدته ونطاقاته اليوم، في تأثيره على مستوى الرفع من درجات القلق الجيوبوليتيكي وإعادة تشكيل العلاقات بين الأمم والدول سواء كانت ذات الحدود المشتركية أو غير المشتركة، فذاك قد يُرى من زاوية تحصيل حاصل، وإنما ليغدو التأثير تاريخيا وكبيرا على مسارات التنمية بسبب ما يفرضه من سباق تسلح جديد، يكاد الكثير من الملاحظين يعتبرونه أسوأ وأوسع وأبشع مما عرفه زمن الاستقطاب الأيديولوجي الثنائي، إبان الحرب الباردة، وعليه طُرح السؤال الجوهري: أي من هذين العنصرين سيمكن للأمم أن تضحي به في أفق كسب التحدي الكبير الذي بات يفرضه الصراع الدولي حول مناطق النفوذ العسكري والاقتصادي، من أجل ضمان السيادة وبقاء الدولة، التنمية أم التسلح؟

الإرادة الوطنية للدول

هو سؤال إشكالي يكشف بالمرة عن طبيعة الوضع الذي آلت الإرادة الوطنية للدول التي تقع في خطوط المواجهة بين قوى صراع النفوذ الدولي، أين بات هذا الصراع يعيق كل مشاريع التنمية فيها بحجة التهديد الأمني المتأت من الخوف من الحدود المشتعلة ونية ابقائها كذلك في سياق اللعبة التي تحركها أطراف الصراع الحقيقية.
هذا الأسلوب ليس جديدا في تقاليد التاريخ، فعادة ما كانت تستهدف الأمم الصاعدة اقتصاديا من خلال ايقاظ فتن الداخل، ومشاكل الحدود المحيطة بها، ويبرز هنا عربيا لبنان كمثل حي في هذا السياق، حيث يذكر الجميع كيف كاد هد البلد العربي الصغير، أن يستثمر في عناصر ذاتية عدة وفرتها له الظروف التاريخية، أولها نخبه وأطره وتجاره ورجال اعماله من ذوي الكفاءات العلمية والثقافية الكبيرة المتمدرسة في الغرب، أن ينهي طريق النمو الذي تسير فيه الدول العربية دون أن تصل إلى النماء منذ قرن من الزمن، ويدخل حظيرة الدول المتقدمة، حتى أنه لقِّب بسويسرا الشرق، قبل أن يتم الزج به في أتون حرب أهلية طاحنة، أعادته القهقرى بعد خمس عشرة سنة من التدمير التام للبنيتين الفوقية والتحتية معا.
ذات القول ينطبق إلى حد ما على العراق الذي كان أول بلد ينجح في محو الأمية كاملة من على شعبه، وساكنة أرضه، وهو التحدي الذي كان وضعه هدفا له مند ستينيات القرن الماضي، ليشرع بعدها في بناء بينة تحتية واعدة، بفضل علمائه في شتى المجالات والتخصصات، إلا أنه ومع مطلع الثمانينات، ألفى نفسه في قلب حرب ضروس مع إيران لمدة ثماني سنوات كاملة أثقلت ديونه وسببت له حربا أخرى وحصارا دوليا فاق العقد، والنتيجة عراق ما قبل السبعينيات ممزق على كل المناحي الاقتصادية الثقافية الاجتماعية.

رؤية استراتيجية واسعة

مثل تلك التجارب تمنح دروسا فارقة مفادها، أن مسارات التنمية لا يمكنها أن تكتمل إلا من خلال رؤية استراتيجية واسعة يُمسك من خلالها بكل خيوط اللعبة السياسية الداخلية منها والخارجية، الاقليمية والدولية، فالأوروبيون عندما توحدوا في إطار جامع مستند على حدود مشتركة ثقافيا وجغرافيا، رفعا منهم لقواعد الوحدة الأولى التي كانت مؤسسة قبلا على سوق أوروبية مشتركة، أدركوا أن أي تنمية سواء كانت محلية قُطْرية، أو إقليمية جمعية أوروبية، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال حدود سليمة سلمية خالية من كل أسباب قد تدعو إلى عودة إرادة التسلح وبناء القدرات العسكرية ما قد يؤثر على مسار التنمية.
تجربة الأوروبيين توضح بأن موضوع السيادة وحمايتها لا يمكن ضمانه فقط بالقدرات المحلية أو الوطنية، ولعل صرخة النجدة التي وجهتها الدنمارك للأوروبيين بعد تهديد ترامب بانتزاع غويرلندا من سيادتها لدليل على التحول الجديد في مفهوم السيادة من القطرية الى الإقليمية عند الأوروبيين ، وتكون هنا سابق حروبهم، سيما منها الحربين العالميتين، هي من علمتهم ذلك ورسخته فيهم كناقعة دائمة نهائية، ودفعتهم بالتالي نحو تبني السيادة الإقليمية كأولوية استراتيجية على السيادة القطرية، لذلك فهم لا يتلاعبون بمشاكل حدودهم الكبرى إذا ما انفجرت أو تم تهديدها بالانفجار، وموقفهم من الحرب الروسية الأوكرانية الداعم لهاته الأخيرة، على الأقل لوجيستيا، لأبرز دليل على ذلك.
إنها تجربة رائدة في القدرة على كيفية التعامل مع معادلة التنمية والتسلح في حال ساد التوتر الوضع الدولي، سواء بشكل جزئي أو كلي، في ظل هذا التغير الذي صار يكتنف الدولة كمفهوم ووظيفة نتيجة تعدد الفواعل في السياسيات والعلاقات الدولية، وهذا مذ انتهت الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود خلت.
المؤسف عندنا بمنطقتنا الملغومة بكل تناقضات التاريخ وصراعات السياسة، هو أن هذا التطور في التعامل مع أرقام المعادلة التنموية والتسليحية، غير متواجد بل وغير وارد، لأن سياقات التطور الأخرى، سواء على صعيد المفهوم فضلا عن الممارسة، غير موجود أيضا، فالدولة لا تزال في المخيال العام والخاص، هي ذاتها التي ورثناها عن الاستعمار، بينما السلطة فيها تمتد في الوعي مخترقة الزمن والتاريخ مرتجعة إلى البنية الابوية الأولى، ومن ثم لم يتغير مفهوم السيادة ولم يتمدد في الأمكنة المشتركة أو المنفصلة بحدود غير أنثروبولوجية.

التصلب والتعلُّب المفهومي

هذا التصلب والتعلُّب المفهومي للوجود السياسي القطري والإقليمي الذي نعيشه، لهو السبب الرئيس في إهدار الكثير من الجهد والمادة، وما ينجم عنه من تأخر في مسارات التنمية، وذلك ما دامت السيادة القطرية هي التعبير الوحيد للكيانات التي خلفها الاستعمار وغدا من عناصر الفرقة والخلاف بينهما بحيث يستحيل معه الارتقاء في الفكر الاتحادي ذي البعد السيادي الأكبر والاوسع.
فهوس البقاء واستدامة الاسترابة داخل الحيز الإقليمي بين دول المنطقة، واستناده وعييها على الحسابات القديمة التي كان وراءها الاستعمار، هو من سيستمر في فرض التسلح وسباقه بالمنطقة، ويجعله خيارا لا بديل عنه للدفاع عن سيادة جامدة في المفهوم والعناصر وكذا في الأفق الوطني.
خلاصة الكلام هو أنه لا يزال أمام نخب المنطقة السياسية والعسكرية والاستراتيجية، الكثير من التأمل والتدبر والعمل بغرض استيعاب لعبة الأمم المتطورة على طاولتها ورقعة شطرنجها، وأن تجاوز العوائق التي تحول دون بلوغ التنمية التي يفرضها سباق التسلح يقتضي بالضرورة العبور إلى نطاق ومستوى آخر من الوعي، بالذات القطرية وطبيعة تشكلها، وبآليات ومفاهيم تطور فهوم السيادة والريادة الإقليمية التي تتجسد من حولنا في أكثر من تجربة إقليمية لعل الأوروبية التي سقناها كانت الأكمل والأمثل إلى حد الآن.

الأمن لا تضمنه قوى البلد الواحد

فمثلما بات أكيدا أنه لا يمكن لأي بلد اليوم أن يحقق التنمية بوسعه الخاص فقط، نظرا للتحولات التي يعرفها العالم على صعد الاقتصاد والسياسة، بتداخل العنصر الإقليمي مع الوطني مع الدولي، فإن مسألة الأمن العسكري لا يمكن أن تضمنه قوى البلد الواحد مهما راكم هذا البلد من ذخائر وصنوف الاسلحة، وبالتالي سيغدو الانفاق العسكري المهول والسباق نحو التسلح الكبير، عامل مؤثر سلبيا على التنمية، وأوكرانيا التي ورثت ترسانة متقدمة عن الاتحاد السوفياتي، اتضح أنها لم تنفعها في شيء في ضمان سيادتها على بعض من أقاليمها التي اقتطعتها منها روسيا الاتحادية، بعد اذ اعتمدت على دعم الغربيين وأمريكا خاصة، الذين استرهبهم الروس بوسائل ردعه النووية القاصمة.

بشير عمري