احفظ الله تجده تجاهك.. يحبك ويهديك ويوفقك

بقلم: مسعود فلوسي روى الإمام الترمذي في سننه عن أبي العباس عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ. إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ …

يوليو 9, 2025 - 07:30
 0
احفظ الله تجده تجاهك.. يحبك ويهديك ويوفقك

بقلم: مسعود فلوسي

روى الإمام الترمذي في سننه عن أبي العباس عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ. إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».
شرحنا في المقال الماضي الجملة الأولى في هذه الوصية التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ»، حيث بينا كيف يحفظ العبدُ المؤمنُ ربَّه سبحانه وتعالى؛ وذلك أن يحرص دائما على طاعته واجتناب معصيته، وبينا كيف يحفظ اللهُ العبدَ إذا حفظه؛ في دينه ودنياه وآخرته. وفي هذا المقال نشرح الجملة الثانية وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ»، وفي رواية الإمام أحمد في مسنده: «احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ».

معنى “تجده تجاهك” أو “أمامك”:

هذه العبارة معناها أن الإنسان الذي يحفظ ربه عز وجل ويحرص دائما على طاعته ومرضاته والبُعد عما فيه سخطه سبحانه وتعالى، هذا العبد يفوز بمحبة الله عز وجل وولايته، فيكون رب العالمين دائما معه يحفظه ويصونه وينصره ويرعاه ويحيطه بعنايته في كل أحواله، ويحميه من كل سوء، ويوفقه إلى كل خير ويبعده عن كل شر.
ولعل الحديث القدسي التالي يوضح هذا المعنى جيدا، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: «… يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ….».
فالله عز وجل باتجاه عباده المؤمنين؛ يهديهم إذا استهدوه، ويُطعمهم إذا استطعموه، ويكسوهم إذا استكسوه، ويغفر لهم إن استغفروه، ويعطي كل واحد منهم سؤله إذا سألوه. وهو ما تؤكده الآية الكريمة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).

ولاية الله للعبد ومحبته له:

إذا حفظ العبد ربه عز وجل، وجده تجاهه بأن يستحق ولايته سبحانه وتعالى له، قال عز وعلا: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة: 257). وقال تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) (يونس: 62-64).
وإذا تولى الله عبده أحبه وأحاطه بحمايته وأسبغ عليه نعمه، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ. فإذا أحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ…».
وإذا أحب الله عبده جعل عباده المؤمنين يحبونه، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى العَبْدَ نَادَى جِبْريل: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبّهُ جِبْريلُ، فَيُنَادي في أَهْلِ السَّمَاء: إِنَّ اللَّه يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوْضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرْضِ».

معية الله للعبد:
من معاني أن يجد العبد ربه تجاهه؛ أن يكون الله عز وجل معه دائما في كل شؤونه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (النحل: 128). وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153)، أي: إن الله مع الصابرين بمحبته لهم، وعونه وتوفيقه وتأييده لهم. هذه المعية تمنح الإنسان الشعور بالرضا والاطمئنان والهدوء النفسي، كما تجلى ذلك في موقف موسى عليه السلام لما حاصره فرعون وجنوده، حيث قال بكل ثقة واعتزاز: (إنَّ معي ربِّي سيهدين) (الشعراء: 62).
فالإنسان الذي يتقي الله ويحسن في كل شؤونه؛ يحسن في علاقته بربه، يحسن في حياته الشخصية، يحسن في علاقته بأهله وأولاده وجيرانه وكل الناس الذين يتصلون به، الله تعالى دائما معه، ومن كان الله معه لم يحتج إلى غيره. الله هو القوي المتين سبحانه وتعالى فلا يحتاج العبد أن يلجأ إلى غيره. والله هو الرزاق الذي يرزق الخلائق جميعا، فلا يحتاج العبد أن يلجأ في رزقه إلى غيره. والله هو الحفيظ الذي يتولى عباده بحفظه ورعايته، فلا يحتاج العبد إلى غيره ليحفظه ويحميه.

التأمين من الخوف والظلم والحزن:

يكون الله سبحانه وتعالى تجاه العبد إذا حفظه بعمل الصالحات؛ بأن يؤمنه من الخوف والحزن والظلم، قال سبحانه: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾(طه: 112)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت: 30).
نموذج ذلك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاجر من مكة إلى المدينة، واختبأ هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في الغار، وجاء المشركون يبحثون عنهما، وحين وصلوا إلى الغار لم يبق بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر سوى بعض السنتمترات فقط، حتى قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!»، وقد ذكر الله عز وجل هذه الواقعة في كتابه فقال عز وجل: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40)، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي يكر: لا تحزن ولا تخف ولا تخش شيئا فإن الله معنا، ومن كان الله معه لا يخشى أحدا غير الله عز وجل. فالذي يرعى الله عز وجل ويحفظ أوامر الله سبحانه وتعالى ويتقي الله عز وجل في حرماته فلا ينتهكها، يكون ممن يحبهم ربهم عز وجل، ومن أحبه سبحانه وتعالى كان معه دائما يحفظه ويرعاه ويحيطه ويعتني به ويكلؤه بكل خير ويبعد عنه كل شر.

الهداية والحياة الطيبة:

ويكون الله تجاه عبده بأن يهديه في دروب الحياة فيوفقه إلى سبل الخير ويبعده عن طرق الغواية والضلال، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (يونس: 9)، وقال سبحانه: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11)، وقال عز وعلا: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) (طه: 123). كما يهديه إلى أحسن الأخلاق ويحفظه من مساوئها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللَّهمَّ اهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ، وقني سيِّئَ الأعمال والأخلاق لا يقي سيئَها إلا أنتَ» (أخرجه النسائي).
ويكون الله تجاه عبده المؤمن المجتهد في عمل الصالحات بأن يحييه في هذه الدنيا حياة طيبة مطمئنة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، (الأنفال: 24). فالحياة إنما هي في الاستجابة لأمر الله عز وجل والدخول تحت عبوديته، قال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97). ومن دخل تحت مقتضى عبوديته لربه عز وجل، كان قلبه دائم الصلة بالله عز وجل، ثابت اليقين فيه عز وجل، قانعا بما رزقه الله، مطمئنا أن كل ما يكتبه الله عز وجل له أو عليه في هذه الدنيا لابد أن يكون خيرا، روى مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ».

الإخراج من المضائق وتيسير الرزق:

ويكون الله باتجاه عبده المؤمن عندما تواجهه المصاعب والتحديات في هذه الحياة الدنيا، فيجد نفسه في ضيق وحرج، ويحتار في اختيار الصواب من بين الخيارات التي تواجهه، بأن يوجهه إلى أحسن المخارج وأفضلها وأخْيَرِها، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 2-3). وإذا يسر الله الرزق لعباده وجب عليهم أن يشكروا نعمته، قال تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل: 114). فإذا كفروا نعمة الله عز وجل وتركوا حمده عليها يسلبها منهم ويضيق عليهم في رزقهم، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112).