البصمة النفسية التي قد تُستخدم ضدك

‪ ‬‬ بقلم: مراد ترغيني ‪ ‬‬ ‪ ‬‬ في كل مرة تضغط فيها على زر “أعجبني”، أو تكتب تعليقاً ساخراً، أو تشارك منشوراً بحماس، أو حتى تتجاهل آخر بازدراء، فأنت لا تتفاعل مع محتوى رقمي فحسب، بل تترك وراءك فتاتاً من روحك. هذه القطع الصغيرة من البيانات، التي تبدو بريئة، يتم جمعها وتصنيفها وتحليلها …

يونيو 22, 2025 - 08:05
 0
البصمة النفسية التي قد تُستخدم ضدك

‪ ‬‬
بقلم: مراد ترغيني
‪ ‬‬
‪ ‬‬
في كل مرة تضغط فيها على زر “أعجبني”، أو تكتب تعليقاً ساخراً، أو تشارك منشوراً بحماس، أو حتى تتجاهل آخر بازدراء، فأنت لا تتفاعل مع محتوى رقمي فحسب، بل تترك وراءك فتاتاً من روحك. هذه القطع الصغيرة من البيانات، التي تبدو بريئة، يتم جمعها وتصنيفها وتحليلها بدقة متناهية لتشكيل ما هو أخطر من مجرد ملف شخصي: إنها بصمتك النفسية الكاملة‪. ‬فيسبوك، العملاق الذي ربط العالم، يمتلك اليوم مفاتيح فهم دواخلنا، وهو ما يحوله من مجرد منصة اجتماعية إلى أداة قد تكون الأكثر خطورة في العصر الحديث‪.‬‬‬
آلة جمع البيانات التي لا تهدأ
الأمر يتجاوز بكثير الاسم والعمر ومكان السكن. الخوارزميات الذكية لا تسجل فقط ما يعجبك، بل تسجل كيف ولماذا يعجبك‪. ‬هل إعجابك بمنشور سياسي يعكس قناعة راسخة أم تأثراً مؤقتاً؟ هل تعليقاتك الغاضبة نابعة من شعور بالظلم أم هي مجرد وسيلة لتفريغ الإحباط؟ هل تتفاعل بسرعة مع الأخبار المثيرة والمستفزة؟‬
كل هذه التفاعلات تُترجم إلى نقاط بيانات‪:‬‬
ü الإعجاب والرفض‪ (Reactions): ‬ترسم خريطة لميولك العاطفية والسياسية والاجتماعية‪.‬‬‬
ü التعليقات‪: ‬تكشف عن مستوى ثقافتك، وطريقة تفكيرك، ونقاط ضعفك، ومدى قابليتك للاستفزاز‪.‬‬‬
ü المشاركات‪ (Shares): ‬تحدد نوعية الرسائل التي تتبناها وتؤمن بها، وتكشف عن مدى استعدادك لنشر أفكار معينة‪.‬‬‬
ü الاستفزازات والجدل‪: ‬تقيس مدى انفعالك وردود فعلك غير المحسوبة، وتحدد “الأزرار” التي يمكن الضغط عليها لإثارة غضبك أو حماسك‪.‬‬‬
بمرور الوقت، يتكون لدى المنصة ملف نفسي أدق من الذي قد يملكه أقرب أصدقائك. هذا الملف يعرف مخاوفك، وطموحاتك، ونقاط ضعفك، وما الذي يغضبك، وما الذي يجعلك تشعر بالقوة‪.‬‬
من التحليل النفسي إلى التجنيد غير المباشر
هنا تكمن الخطورة الحقيقية. هذه البصمة النفسية ليست مجرد أداة لبيعك منتجاً أو عرض إعلان مناسب. في أيدي جهات استخباراتية أو جماعات منظمة تسعى لفرض أجندة معينة، تتحول هذه البيانات إلى سلاح استراتيجي‪.‬‬
العملية تتم عبر خطوات مدروسة‪:‬‬
1.التحديد‪ (Identification): ‬باستخدام خوارزميات متقدمة، يمكن لهذه الجهات فرز ملايين المستخدمين للعثور على “الشخص المناسب”. هل تبحث عن شخص ساخط على الوضع الاقتصادي؟ يمكن فلترة المستخدمين الذين يتفاعلون بغضب مع أخبار الاقتصاد. هل تحتاج إلى شخص لديه استعداد لتبني نظريات المؤامرة؟ يمكن تحديد من يشاركون الأخبار الزائفة والمحتوى غير الموثوق. هل الهدف هو شخص يشعر بالتهميش ومستعد للقيام بأي شيء ليشعر بالانتماء؟ يمكن العثور عليه عبر المجموعات التي انضم إليها وطبيعة منشوراته‪.‬‬‬
2.الاستهداف الموجه‪ (Targeted Grooming): ‬بمجرد تحديد الشخص المستهدف، تبدأ عملية قصفه بمحتوى مصمم خصيصاً للتأثير عليه. يتم عرض منشورات ومقاطع فيديو وأخبار (غالباً ما تكون مفبركة) تعزز من شعوره بالغضب أو الظلم أو اليأس. يتم إغراقه برسائل ترسخ لديه قناعات معينة وتدفعه تدريجياً نحو التطرف الفكري‪.‬‬‬
3.التحفيز على الفعل‪ (Call to Action): ‬بعد أن يتم “شحن” الفرد نفسياً وفكرياً، تأتي المرحلة الأخيرة. قد يتم التواصل معه بشكل غير مباشر عبر حسابات وهمية أو دعوته للانضمام إلى مجموعات مغلقة على فيسبوك أو تطبيقات أخرى. في هذه المجموعات، يتم إعطاؤه شعوراً بالانتماء والهدف، ثم يُطلب منه القيام بأفعال معينة على أرض الواقع: المشاركة في تظاهرة محددة، نشر شائعة معينة لزعزعة الاستقرار، أو حتى القيام بأعمال أكثر خطورة‪.‬‬‬
تهديد للأفراد والدولة
إن استغلال سلوكيات الأفراد بهذه الطريقة لا يمثل خطراً على الشخص نفسه فحسب، والذي قد يجد نفسه متورطاً في قضايا قانونية أو أعمال عنف لم يكن ليفكر بها لولا هذا التلاعب الممنهج، بل يمثل تهديداً وجودياً للدولة‪.‬‬
من خلال استهداف آلاف الأفراد “المناسبين” في وقت واحد، يمكن لجهة معادية‪:‬‬
ü تأجيج الفتن الطائفية أو السياسية‪.‬‬
ü نشر الفوضى وزعزعة ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة‪.‬‬
ü التأثير على نتائج الانتخابات‪.‬‬
ü تجنيد عملاء أو متعاونين دون أن يدركوا أنهم يتم تجنيدهم‪.‬‬
وعي المستخدم هو خط الدفاع الأول
نحن نعيش في عصر لم تعد فيه الحروب تُخاض بالجيوش فقط، بل بالعقول أيضاً. وفي هذه الحرب الجديدة، يعتبر فيسبوك وغيره من المنصات الاجتماعية ساحة المعركة الرئيسية. إن ما نشاركه بضغطة زر لم يعد مجرد رأي عابر، بل هو طلقة قد ترتد إلينا أو إلى مجتمعنا‪.‬‬
الوعي بخطورة هذه الآلية هو خط الدفاع الأول. يجب على كل مستخدم أن يتعامل مع هذه المنصات بحذر، وأن يفكر مرتين قبل كل إعجاب أو تعليق أو مشاركة، وأن يتذكر دائماً أن “المجانية” في العالم الرقمي لها ثمن، وهذا الثمن قد يكون أمنه الشخصي وأمن وطنه‪.‬‬