الدكتور عبد العزيز شوحة.. المسيرة والآثار والخصال
بقلم: مسعود فلوسي في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر جوان من سنة 2022م، الموافق للثاني والعشرين من شهر ذي القعدة للعام 1443هـ، فاضت إلى بارئها روح أستاذي الدكتور عبد العزيز شوحة رحمه الله. وكنتُ حينها قد كتبت مقالا نشرته “الوسط”، بعنوان “أستاذي الدكتور عبد العزيز شوحة كما عرفته”، تحدثت فيه عن علاقتي به خلال …

بقلم: مسعود فلوسي
في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر جوان من سنة 2022م، الموافق للثاني والعشرين من شهر ذي القعدة للعام 1443هـ، فاضت إلى بارئها روح أستاذي الدكتور عبد العزيز شوحة رحمه الله. وكنتُ حينها قد كتبت مقالا نشرته “الوسط”، بعنوان “أستاذي الدكتور عبد العزيز شوحة كما عرفته”، تحدثت فيه عن علاقتي به خلال قريب من أربعين سنة، منذ أن كنت تلميذا عنده مدة ثلاث سنوات (1984-1987) في ثانوية عائشة أم المؤمنين بمدينة باتنة، إلى أن أدركه أجله رحمه الله. واليوم، وإحياء لذكراه الثالثة، يأتي هذا المقال الجديد الذي خصصتُه للحديث عن مسيرته في الحياة، وجهوده الفكرية والعلمية، وخصاله النفسية والعملية.
مولده ونشأته وتكوينه:
وُلِدَ عبدُ العزيز بنُ محمد شوحة في مدينة باتنة يوم الخميس 05 ذو القعدة 1380هـ، الموافق 20 أبريل 1961م، وكان الابن البكر لوالديه.
عندما بلغ سِنَّ التعلم، ألحقه والده بالمدرسة الابتدائية أوشن الطاهر القريبة من مقر سكناه في حي لمباركية (باركافوراج) بمدينة باتنة، وبعد ست سنوات حصل على شهادة التعليم الابتدائي، فانتقل إلى متوسطة “ابن باديس” بحي بوزروان وفيها درس أربع سنوات كللت بنيْله شهادة التعليم المتوسط. أصبح بعد ذلك طالبا في ثانوية صلاح الدين الأيوبي التي درس فيها ثلاث سنوات، حصل بعدها على شهادة البكالوريا سنة 1980م.
سجل للدراسة بجامعة باتنة، على مستوى معهد اللغة والأدب العربي، ودرس أربع سنوات تخصص خلالها في علوم اللغة العربية، ليحصل على شهادة الليسانس في جوان 1984.
وقد كانت هذه المرحلة هي الفترة الذهبية في حياته، إذ استثمرها رفقة زميله داود خليفة رحمه الله في حفظ القرآن الكريم ومطالعة مئات الكتب، وخاصة منها كتب مالك بن نبي رحمه الله التي كان يحفظ منها فقرات كثيرة ومقاطع كاملة. وفي هذه الفترة كذلك تدرب على الخطابة والتدريس والمحاضرة حتى نبغ فيها، بما كان يلقيه من دروس وخطب مسجدية، وكذا ما كان يقدمه من محاضرات في المناسبات الدينية والوطنية المختلفة، وفي الملتقيات الوطنية التي كانت تعقد في الأحياء الجامعية.
لم يَرْضَ بما حصَّله من تكوين علمي، وتطلع إلى الالتحاق بالدراسات العليا، فشارك في مسابقة الدخول إلى السنة الأولى ماجستير بجامعة باتنة حوالي سنة 1986م، وكان من بين الناجحين، ودرس ثلاث سداسيات هي المرحلة التمهيدية لإعداد رسالة الماجستير، ثم سجل موضوع الرسالة وهو “المنهج اللغوي عند ابن عطية من خلال تفسيره المحرر الوجيز”، تحت إشراف الدكتور صبيح التميمي وهو أستاذ عراقي متخصص في علوم اللغة العربية كان يُدرس بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة.
لكن ظروفه الشخصية والاجتماعية حالت دون إتمامه لرسالته، ثم جاء المرض المفاجئ إثر صدمة نفسية ليعيقه ويمنعه مدة طويلة من ذلك، ولم يتمكن من الانتهاء من الرسالة وتقديمها للمناقشة إلا سنة 2004م، بعد أن تقدم بطلب تعديل عنوانها ليصبح “منهج ابن عطية في ضبط الألفاظ في كتابه المحرر الوجيز”، بموافقة مشرفه الجديد الدكتور عبد الكريم عوفي الذي حل ملح المشرف الأول، وتمت مناقشتها في سنة 2004م.
سجل بعد ذلك موضوع الدكتوراه بعنوان “منهج الاحتجاج اللغوي للقراءات القرانية وتوجيهها”، تحت إشراف الأستاذ الدكتور بلقاسم ليبارير رحمه الله، ومرة أخرى منعته ظروفه من إتمام أطروحته، ولم يتمكن من الانتهاء منها وتقديمها للمناقشة إلا في سنة 2020م.
مسيرته العملية:
بدأ حياته العملية مباشرة بعد تخرجه بشهادة الليسانس سنة 1984، حيث تم توظيفه كأستاذ للعلوم الإسلامية بثانوية عائشة أم المؤمنين في حي بوزوران بمدينة باتنة، وكانت العلوم الإسلامية حينئذ تخصصا قائما بذاته، ولم يكن هذا التخصص على مستوى ثانويات مدينة باتنة سوى في ثانويتين فقط هما ثانوية عائشة وثانوية صلاح الدين، فكان يدرس في ثانيو عائشة بصفته الأستاذ الوحيد في التخصص المستويات الثلاث، ويدرس لكل مستوى خمس مواد، ولذلك كان يبذلا جهدا كبيرا في التحضير والتدريس.
وبعد ثلاث سنوات من العمل، التحق في صيف سنة 1987 بصفوف الجيش الوطني الشعبي في إطار أداء واجب الخدمة الوطنية.
وبعد سنتين عاد إلى وظيفته في التدريس، ملتحقا بثانوية صلاح الدين الأيوبي هذه المرة، ليقضي فيها سنوات عديدة. وفي إحدى هذه السنوات انتُدب للتفرغ للخطابة في المسجد العتيق بمدينة تازولت، حيث قضى سنة كاملة يؤدي هذه المهمة، لكنه لم يلبث أن انقطع عن الإمامة والخطابة ورجع إلى التدريس بسبب الظروف الصعبة التي كانت سائدة حينئذ.
وبعد مناقشته لرسالة الماجستير، أتيحت له فرصة الالتحاق بكلية الآداب واللغة العربية بجامعة باتنة كأستاذ مساعد في قسم الترجمة ثم في قسم اللغة والأدب العربي، وهي المهمة التي ظل يمارسها حتى وفاته رحمه الله.
مقالاته في الصحف:
بدأ الأستاذ عبد العزيز الكتابة في الصحف مع ظهور الصحافة المستقلة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، فكتب عدة مقالات فكرية في صحيفة “النور”، ثم في صحيفة “رسالة الأطلس” التي نشر فيها مقالات كثيرة، حول قضايا فكرية إسلامية مختلفة، وقد جمعها في كتاب – لم يُنشر لحد الآن – وضع له عنوان “الإسلام ومشكلاتنا الراهنة”.
وبعد توقف “رسالة الأطلس”، ظهرت جريدة “الأوراس نيوز” فالتحق بها، وصار يكتب فيها مقالات تحت عنوان “سياحات قرآنية”، وهذه المقالات كثيرة لم تُجمع لحد الآن، وقد تضمنت رؤيتَه لكيفية التعامل مع القرآن الكريم، وما ينبغي أن تكون عليه علاقة المسلمين اليوم بكتاب الله، وكانت له فيها نظرات خاصة ورؤى مستقلة، اندرجت تحت المشروع العام الذي كان حريصا على التأسيس له والتبشير به وهو “نحو وعي معرفي قرآني جديد”.
كما كتب مقالات أخرى نشرت في بعض المواقع الإلكترونية، ومنها “موقع الحوار المتمدن” و”موقع الشهاب”.
آثاره العلمية:
تمثلت آثاره العلمية في رسالة الماجستير وأطروحة دكتوراه ومقال علمي واحد، وهي كما يلي:
1- رسالة الماجستير التي عنوانها “منهج ابن عطية في ضبط الألفاظ في كتابه المحرر الوجيز”، والتي أتمَّ تحريرَها وجرت مناقشتها سنة 2004، وهذه الرسالة لا تتوفر بين يدي حاليا، ولذلك لا يمكنني وصف مضمونها.
2- أطروحة الدكتوراه التي عنوانها “منهج الاحتجاج اللغوي للقراءات القرآنية وتوجيهها – موازنة بين كتابي: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكي بن أبي طالب القيسي، وشرح الهداية في توجيه القراءات للمهدوي”.
تناول هذا البحث التعريف باثنين من كبار علماء اللغة العربية والقراءات القرآنية القدامى، فيما كان يسمى بـ”المغرب الاسلامي”، وهما: مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ) وأبو عمار المهدوي (ت: 400هـ) معرفا بحياتهما وشخصيتهما العلمية، وبكتابيهما المشهورين: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لمكي، وشرح الهداية في توجيه القراءات للمهدوي.
قسم البحث إلى مقدمة ومدخل وبابين كالآتي: المقدمة عن موضوع البحث وإشكاليته ومنهجيته وأهدافه، وأسباب اختياره وأهم الدراسات السابقة في الموضوع والصعوبات التي اعترضت الباحث في دراسته وأهم المصادر والمراجع التي اعتمد عليها. ثم مدخل عن مصطلحات “الاحتجاج والتعليل والتوجيه” في كتب المصطلحات وكتب القراءات القرآنية.
وخصص الباب الأول لحياة مكي والمهدوي، وشخصيتهما العلمية، مع عقد موازنة بينهما في ذلك. وأفرد الباب الثاني لمنهجهما في الاحتجاج للقراءات القرآنية، وقد قسمه إلى الفصول والمباحث الآتية: الفصل الاول: منهجهما في الاحتجاج للظواهر الصوتية كالهمز والإدغام والمد والإمالة والروْم والإشمام، ووجد مكيا أكثر منهجية في هذا القسم الذي أطلق عليه علماء القراءات واللغة مصطلح “الأصول”. والفصل الثاني: منهجهما في توجيه الظواهر الصرفية والنحوية في ما أطلقوا عليه مصطلح “الفرش أو فرش الحروف”، أي الاختلافات الخاصة بالفروع أو أداءات الآيات، وهي: سائر الاختلافات المنثورة في النص القرآني بكامله من الفاتحة إلى سورة الناس والتي لا تنتظمها قاعدة عامة، ووجد المهدوي أكثر إيرادا للأشعار وكلام العرب من حكم وأمثال من مكي، بينما تميز مكي بمنهجية علمية محكمة في عزو اللغات غالبا إلى أصحابها، ونسبة القراءات إلى القراء الذين قرأوا بها.
ثم أنهى البحث بخاتمة سجل فيها أهم وجوه الاتفاق والاختلاف بين هذين العالمين الكبيرين.
3- بحث بعنوان “ظاهرة الأحرف السبعة في القرآن الكريم ودورها في الحفاظ على اللسان العربي”، نشر في مجلة “الإحياء” التي تصدرها كلية العلوم الإسلامية بجامعة باتنة1، العدد 20، جوان 2017، الصفحات: 107-120.
مزاياه التي عُرِفَ بها:
كل الذين عرفوا الأستاذ عبد العزيز وخالطوه وتعاملوا معه، يشهدون له بما كان يتصف به من مزايا لم تتوفر في كثير من أقرانه، وهو ما مكنه من أن يتبوأ مكانة خاصة في النفوس، ويمكن أن نشير إلى أهم الصفات والمزايا التي تحلى بها فيما يلي:
1- الارتباط بالقرآن الكريم: حفظ الأستاذ عبد العزيز القرآن الكريم أثناء دراسته الجامعية، وظل يقرؤه ويتلوه منذ ذلك الحين إلى أن توفاه الله عز وجل، وكانت له نبرة خاصة في قراءته بصوته الندي الشجي عندما كان يصلي بالناس إماما في المساجد وبالطلبة في مصليات الأحياء الجامعية. ولم تكن علاقته بالقرآن علاقة تلاوة فحسب، وإنما كان يتدبره ويتعلم أحكامه ويستوحي معانيه، وكانت له قراءات واسعة في كتب التفسير لا سيما المعاصرة منها. وقد ظهرت هذه العلاقة بالقرآن في حياة الأستاذ عبد العزيز من خلال ما كان يجري على لسانه من آيات قرآنية يستشهد بها للمعاني التي يسوقها ويقررها في دروسه وخطبه ومحاضراته، وكذلك في مقالاته الكثيرة التي شرح فيها آيات قرآنية تحت عنوان عام هو “سياحات قرآنية”.
2- الاطلاع الواسع: عُرف الأستاذ عبد العزيز باطلاعه الواسع على المصادر والمراجع في تخصصه وهو علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وفقه لغة، وفي غير تخصصه من العلوم القريبة، وعلى رأسها العلوم الإسلامية التي ضرب فيها بسهم وافر، فكانت له قراءات واسعة في كتب التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والعقيدة والأخلاق والمنطق، والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، إضافة إلى اطلاعه الواسع ومقروئيته الشاملة لما أنتجه المفكرون المسلمون المعاصرون، وخاصة منهم مالك بن نبي رحمه الله. كما قرأ لعدد من المفكرين الغربيين ممن ألفوا كتبا في الدراسات الحضارية من أمثال توينبي واشبنجلر، وقرأ الكثير من الدراسات الغربية التي ظهرت مترجمة في سلسلة “عالم المعرفة” التي تصدر في الكويت، وكان كثيرا ما يحدثني عما قرأه منها.
3- النبوغ والتوهُّج الفكري: فقد كانت له نظرات ثاقبة وأفكار نيرة في مختلف القضايا والموضوعات التي تناولها في دروسه ومحاضراته، حيث كان يعالجها بأسلوب متفرد ويعرض القضايا المعقدة عرضا واضحا بما يجعلها بينة ومفهومة لكل سامع أو متابع. وكان يركز على القضايا ذات الأهمية البالغة ولا يشغل باله بالقضايا الهامشية التي لا يترتب عليها فائدة عملية. وكانت القضايا الكبرى للأمة دائما محل اهتمامه وموضع تفكيره ومجال حديثه وحواراته ونقاشاته مع من يلتقي بهم من معارفه وزملائه.
4- الإخلاص والتفاني في العمل: وهذه ميزة شهد له بها كل من عرفه، خاصة تلاميذه وطلابه الذين درسوا على يديه، فقد لاحظوا تفانيه في عمله وحرصه على إتقانه واجتهاده في تقديم ما هو نافع لهم من التوجيهات والنصائح والإرشادات، وتنبيههم إلى ما ينبغي أن يحرصوا عليه من الجد والاجتهاد في طلب العلم، وضرورة الإقبال على المطالعة وتوسيع دائرة المعارف وعدم الاكتفاء بالدروس التي يتلقونها في الأقسام والمدرجات، فكان بذلك المربي الناجح والأستاذ الناصح والمحاور المقنع.
5- الاعتدال والبُعد عن التطرف: عُرِفَ رحمه الله باتزانه الفكري، ووسطيته في النظر إلى الأمور، والتزامه بالشرع في الحكم على الأشخاص والهيئات والأحداث. وعلى الرغم مما تعرض له من أذى وما وما واجهه من صعوبات، إلا أن كل ذلك لم يؤثر في اتزانه واعتداله ووسطيته والتزامه الصارم بأحكام الشرع ووقوفه عند ما تمليه من واجبات.
6- التواضُع الجمِّ وسُمُوّ الأخلاق: تميز الأستاذ عبد العزيز وعرف بالتواضع واحترام الآخرين وحسن التعامل معهم، لا يفرق في ذلك بين كبير وصغير، ولا بين أستاذ وطالب، ولا بين شيخ وشاب، ولا بين غني وفقير، الكل عنده سواء. وقد عرفه الجميع بأخلاقه السامية ومعاملته الرفيعة وبشاشة وجهه رغم ما كان يعانيه من آلام وصعوبات.
7- سماحة النفس: فكان إنسانا متسامحا، يتحمل الأذى ويتجاوز عن الأخطاء ويتناسى الإساءات، وعلى الرغم من الكنود والجحود الذي تعرض له من كثير ممن كان له عليهم فضل، وعلى الرغم من التجاهل الذي لقيه ممن كانوا أحبابه وأصدقاءه، إلا أنه ترفع عن لوْمهم أو الحقد عليهم، ومضى في طريقه محتسبا أجره عن ربه ورادا الأمر إليه سبحانه وتعالى.
رحم الله الأستاذ عبد العزيز شوحة رحمة واسعة وجمعنا به في (جنات عدن)، (إخوانا على سرر متقابلين)، (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).