الذكرى المئوية لميلاده فرانز فانون والكفاح التحرري الوطني في الجزائر
أ.د. مولود عويمر/ اخترت موضوع «فرانز فانون (1925-1961) والكفاح التحرري الوطني في الجزائر» لعدة اعتبارات منها: أولا: احياء ذكرى عالم ومفكر إنساني بمناسبة مئوية ميلاده، وهو أمر جلل لا يتكرر إلا مرة واحدة كل مئة سنة، وثانيا: تقدير لفرانز فانون الذي وقف مع الجزائر في كفاحها من أجل استرجاع حريتها فنحن لا ننسى فضل الرجال …

أ.د. مولود عويمر/
اخترت موضوع «فرانز فانون (1925-1961) والكفاح التحرري الوطني في الجزائر» لعدة اعتبارات منها: أولا: احياء ذكرى عالم ومفكر إنساني بمناسبة مئوية ميلاده، وهو أمر جلل لا يتكرر إلا مرة واحدة كل مئة سنة، وثانيا: تقدير لفرانز فانون الذي وقف مع الجزائر في كفاحها من أجل استرجاع حريتها فنحن لا ننسى فضل الرجال ولا ننكر الجميل، وأخيرا: إبراز البعد الانساني والإشعاع العالمي لثورتنا التحريرية التي أثّرت في السياسيين والمفكرين والكُتاب الكبار في العالم وصارت مصدر إلهام لهم.
مسار في سطور
ولد فرانز فانون في 20 جويلية 1925 في مدينة فور دو فرانس في المستعمرة الفرنسية مارتينيك. وهو ينحدر من أسرة بورجوازية صغيرة فكان والده مفتشا في مصلحة الجمارك بينما كانت والدته تاجرة. وقد سمحت له هذه المكانة الاجتماعية للدراسة في المدارس النظامية ويتحصل على شهادة بكالوريا العلوم.
وتطوّع في الجيش الفرنسي بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية واختار الاصطفاف مع جيش تحرير فرنسا بقيادة شارل ديغول. ونظرا لهذه الخدمة، استفاد من منحة جامعية بعد الحرب لمواصلة تحصيله العلمي في جامعة ليون بفرنسا حيث درس الطب وتخصص في طب الأمراض العقلية. وكان يتابع على هامش دراسته للطب محاضرات في الفلسفة. ونال شهادة الدكتوراه في تخصصه في عام 1951. وتم تعيينه في مستشفى الأمراض العقلية بالبليدة حيث اكتشف عالما جديدا يقوده إلى الكتابة في قضايا الإنسان المستعمّر ومصيره، ومن أهم مؤلفاته: «بشرة سوداء أقنعة بيضاء» (1951)، «السنة الخامسة للثورة الجزائرية» (1959)، «المعذبون في الأرض» (1961). وبعد وفاته جمعت مقالاته الصحفية المغمورة والمخطوطة ونشرت في كتابين بعنوان: «في سبيل الثورة الإفريقية» (1964)، و»كتابات حول الاغتراب والحرية» (2018). وفانون كما قال عنه الباحث الجزائري حفناوي بعلي «قد ترك لنا في كل مرحلة من مراحل تشكيل تفكيره كتاباً معينا… وكانت كتاباته وصوره ومواقفه ذات الرجع البعيد، على الصعيد العالمي».
ولقي كتابه «معذبو الأرض» رواجا في العالم وترجم إلى عدة لغات عالمية، وعربه الدكتور سامي الدروبي والدكتور جمال الأتاسي وصدر في عام 1961. كما ترجمه خليل الخوري ونشرته دار الآداب ببيروت في عام 1962. كما ترجم ذوقان قرقوط كتاب «العام الخامس للثورة الجزائرية» إلى اللغة العربية ونشره بعنوان «سوسيولوجية ثورة»، وصدر في عام 1970 عن دار الطليعة ببيروت. وتقديرا لأعماله تلقى فانون دعوات لإلقاء المحاضرات والمشاركة في أول مؤتمر للكتاب والفنانين السود بباريس في عام 1956، وحضر المؤتمر الإفريقي في أكرا في عام 1958… وواصل فانون نشاطه إلى أن أصيب بمرض اللوكيميا وتوفي في مستشفى في مدينة واشنطن في 6 ديسمبر 1961 ثم نقل جثمانه إلى الجزائر ليدفن في أرضها الطاهرة. وقد كتب بعد وفاته أصدقاؤه مقالات تأبينية تذكِّر بخصاله وتشيد بأعماله النضالية والفكرية، وكانت مجلة «الحضور الإفريقي» من المجلات السباقة في هذا المجال إذ نشرت في عددها الصادر في جانفي 1962 عشر شهادات لأبرز المفكرين والسياسيين المقربين منه أمثال إيمي سيزير، جاك بيرك، فرنسوا ماسبيرو، وعبد القادر شندرلي،…الخ.
الخلفية الاجتماعية والنفسية للنظام الاستعماري
لقد عاش فانون رغم تحرره من القيود الاستعمارية ونجاحه الدراسي وأسفاره إلى أوروبا تجربة شخصية مرة بتعرضه للعنصرية والاحتقار بسبب لون بشرته السوداء. اعترف بذلك منذ مقاله الأول المنشور في مجلة «الروح» في عام 1951 حيث عرض فانون في 22 صفحة تجربته المعاشة ونظرته للحياة التي تصوّرها بوصفه رجلا أسود يرفض وضعيته الزنجية والاستعمارية. ولقد لاحظ عند الزنجي الشعور الدائم بالنقص وأحيانا بالعدم في عالم يحتقر فيه بسبب بشرته السوداء. كان يجد صعوبة في معايشة واقعه أمام سطوة الإنسان الأبيض على كل مناحي والحياة وهيمنته على طرق التفكر التي تتطابق مع عقليته العنصرية واستعلائه على الآخر. وكرّس فانون لهذا الموضوع صفحات كثيرة من كتابه «بشرة سوداء أقنعة بيضاء» الصادر في نفس العام في باريس عن دار لوساي والذي تضمن عدة فصول ومنها هذا المقال المطوّل.
كان الانسان الزنجي يبحث عن الاندماج في الثقافة الفرنسية بكل الوسائل والاندماج في المجتمع الفرنسي ولم يكن يسعى إلى بناء مجتمع مستقل في عاداته وثقافته ولغته. وقد حارب فانون هذه الذهنية ونادى الزنوج إلى تقبل طبائعهم البيولوجية وتحقيق حقوقهم في المجتمع المعاصر بدون أي عقدة نفسية. فليس هناك فرق بين الأبيض والأسود إلا في الأذهان والأوهام. ولا كرامة للإنسان الأسود إلا بتغيير القواعد المفروضة عليه، ويتحقق ذلك عن طريق النضال السياسي والفكري والكفاح المسلح. فالعنف أو الثورة في نظره ليس إلا وسيلة لتحقيق الغاية المنشودة وهي الحرية والكرامة. قال في هذا الشأن: «العنف الخيار الوحيد وليس المختار للتحرر من الاستعمار والتخلص من رواسبه وبناء قواعد جديدة لمجتمع حر يعيش فيه الإنسان بكرامته». وهكذا أصبح فانون واحدا من فلاسفة العنف والمنظرين للحركات التحررية والتغييرية في إفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية وشخصية ملهمة للملايين من المستضعفين في العالم.
سجل تاريخ العلوم أسماء الأطباء الكبار الذين لم ينظروا إلى أمراض الإنسان من زاوية بيولوجية بحتة، فقد أدركوا التقاطع القائم بين البيولوجي والنفسي والاجتماعي والثقافي فعالجوه على ضوء هذه النظرة التكاملية ، وأذكر منهم: ابن سينا، وألكسيس كاريل، وجون دوبو، وألبرت شفيتزر، ومصطفى محمود… وكذلك فانون الذي أثبت أن الأمراض النفسية التي تظهر عند مرضاه الجزائريين في مستشفى البليدة كان مصدرها العنف الذي مارسه عليهم النظام الاستعماري، وهي تختلف عن أسباب المرضى الأوروبيين الذين كان يعالجهم في نفس المكان. ولذلك كان يداوي الجزائريين بأساليب مختلفة ويقدم لهم الأشياء التي كانوا محرومين منها في حياتهم اليومية لذلك يستعمل في علاجه ألعاب كرة القدم، والبستنة، والموسيقى… فتذوب أضرار العنف والاضطهاد التي كان يشعر بها يوميا في تعامله مع المستعمِر الفرنسي. كما لاحظ العنصرية والاحتقار عند الطاقم الطبي الفرنسي تجاه المرضى الجزائريين المسلمين وهذا ما يتنافى مع رسالة الطبيب الإنسانية ومهمة الممرض النبيلة.
فانون شاهد على كفاح الشعب الجزائري
احتك فانون بالمجتمع الجزائري على مستويات مختلفة سواء في المستشفى كالمرضى والممرضين الجزائريين وفي رحلاته وسياحته عبر القطر الجزائري. واطلع على عاداتها وتقاليدها ومعاناة أهلها وأدرك تشابها مع العادات والأعراف والمعاناة في المناطق التي قدم منها كجزر الأنتيل وجزر المارتنيك، فالاستعمار يزرع الاستبداد والاستعباد في كل مكان حل به. وقد اقترب من المناضلين الوطنيين وحضر نشاطاتهم بل قدم محاضرات للكشافة الاسلامية الجزائرية. لذلك ليس غريبا أن يساند سرا في البداية أعمال الثورة التحريرية ويقدم العون للمجاهدين متمثلا في الأدوية وتمريضهم ومعالجتهم وإخفاء بعضهم في عيادته باعتبارهم مرضى قبل أن يلتحقوا بالجبل بعد انتهاء فترة التمشيط والمطاردة والمتابعة.
وكان على اطلاع على ما يتعرض له المجاهدون في المعتقلات الفرنسية من خلال الحديث معهم خلال حصص المعالجة وكذلك عبر الحديث مع بعض الضباط الفرنسيين الذين كانوا يمارسون التعذيب على المجاهدين ويلجؤون إليه ليحررهم من تأنيب ضمائرهم. وقد اكتشف من التواصل معهم أنهم كانوا يمارسون التعذيب على المعتقلين بطريقة سادية فكانوا متأكدين أن الشخص المعذب ليس لديه معلومات ليقر بها إلا أنهم يصرون على مواصلة تعذيبه للاستمتاع بآلامه والتلذذ بأنينه وصراخه…
كان فانون ضد استعباد الانسان الجزائري واستلاب ثقافته، وقد رأى في الثورة التي اندلعت في عام 1954 الطريق الوحيد للتحرر من الاستعمار، فالحرية لا تعطى وإنما تؤخذ بالقوة. ويرى المؤرخ محمد حربي بأن فانون تأثر بالمناضل الوطني عمر أوصديق الذي ساعده على فهم الحركة الوطنية الجزائرية والاتصال برجالها ثم الالتحاق بالثورة بتونس في عام 1956 بعد أن استقال من منصبه برسالة مؤثرة. ونظرا لقلمه السيال وفكره المتدفق عيّن محررا في جريدة «المجاهد» حيث ساهم بمقالات عديدة، وأذكر منها: مقالة حادة نشرها في عام 1957 في ثلاث حلقات بعنوان «المثقفون والديمقراطيون الفرنسيون أمام الثورة الجزائرية»، وانتقد فيها تردد اليسار الفرنسي في مناصرة القضية الجزائرية العادلة وعبر عن خيبة أمله في المفكرين الأحرار الذين مازال تشخيصهم للثورة والثوار خاطئا لا يعتمد على الحقائق الميدانية ومازالوا رهائن للسردية الرسمية ووسائل الاعلام الموجودة تحت الرقابة.
وكتب مقالا آخر في أفريل 1958 بعنوان «الاستقلال وزوال الاستعمار» يستشرف نهاية الاستعمار الذي استنفذ كل مبررات وجوده في الجزائر فقد فشل في تحقيق ما وعد به الأهالي في عام 1830 بتمدين المجتمع الجزائري والارتقاء به في سلم التحضر إلا أن الاستعمار لم يزرع في حقول الجزائريين وفي ميادينهم إلا الجهل والفقر، وكل ما شيده كان لصالح المعمرين ولم يستفد منه أصحاب الأرض الذين اعلنوا بثورتهم يأسهم من الاستعمار واستعداهم لاسترجاع بلدهم لبنائه بناء جديدا بسواعد كل أبنائه في ظل الكرامة والعدل والمساواة.
كما كتب فانون عن التغييرات التي أحدثتها الثورة التحريرية في المجتمع الجزائري، إذ أصبح يقدم على وسائل العصر والتكيف مع تطور الأحداث الجارية فقد صار يقتني المذياع وينصت إليه بشغف، كما أشاد بأدوار المرأة الجزائرية في دعم كل جهود النضال المدني والكفاح العسكري من أجل تحقيق النصر الوطني.
لم يقتصر فانون على الكتابة الصحفية في صفحات «المجاهد» و»المقاومة الجزائرية» وبعض الصحف والمجلات الباريسية المعروفة، ونشر مجموعة من الكتب التي أشرت إليه سابقا للدعاية للثورة الجزائرية، والتكوين السياسي لإطارات جيش التحرير الوطني، بل كان يمثل أيضا صوت الثورة عند النخبة الفرنسية يدعوها إلى دعم مباشر لهذه الثورة. وقد نقل الأستاذ محمد الميلي في كتابه القيم «فرانز فانون والثورة الجزائرية» الحاح فانون على مطالبة المفكر الفرنسي المعروف جون بول سارتر بالكتابة والخطابة لصالح الثورة والقيام بمظاهرات كبرى في شوارع باريس للتأثير على الرأي العام الفرنسي والضغط على حكومته لتستجيب لمطالب الجزائريين. وكان أيضا صوت الثورة في إفريقيا حيث عيّن سفيرا للجزائر في غانا، وكلف بالتسليح عن طريق المسالك الجنوبية. وقد نجا من محاولة اختطاف من طرف جهاز المخابرات الفرنسية خلال عمله الدبلوماسي.
وإذا كان فانون ناصرا للثورة الجزائرية بقلمه ولسانه ويده فإن هذه الجزائر المكافحة غيّرت في طريقة تفكيره وساهمت في بلورة أفكاره ورؤاه في القضايا الانسانية التي شهرته في العالم. فقد وجد فيها الخلفية النفسية والاجتماعية والثقافية لموضوع دراسته، وفتحت له مجالات البحث على مصراعيه، ومنحت له تجربة ثرية في ميدان حرب التحرير الوطني. وقد أشار العديد من قادة الثورة والباحثين الجزائريين إلى هذه النقطة المهمة. فمحمد يزيد الذي كان وزيرا للأخبار ومسؤولا مباشرا عليه في جريدة «المقاومة الجزائرية» ثم «المجاهد» قال بكل وضوح: «إن تأثير التجربة النضالية التي أعطاها كفاح الشعب الجزائري للعالم كان لها أبعد الأثر على فكر ومؤلفات فانون.. ومما يؤكد هذه الحقيقة أن أجود مؤلفاته السياسية كتبت خلال حرب التحرير الوطنية». أما الباحث في علم الاجتماع الثقافي عبد القادر جغلول فإنه يوضح أكثر هذه المسألة عندما يقول: «لقد كان لحرب التحرير الوطني … دور المحرك لإرادة العمل المتمكنة من نفس فانون وكانت الفرصة التي أتاحت له ميدانا عمليا وتحليلا سياسيا، وعجلت بما كان يعتمل في نفسه ووجدانه من تغير وتحول أحيانا في تصوّره للعالم».
لقد مات فرانز فانون في أوج عطائه وهو لم يبلغ 37 عاما غير أن نضالاته السياسية وآثاره الفكرية التي أنتجها خلال هذه الفترة القصيرة ستبقى خالدة في تاريخ العالم المعاصر، ويكفيه فخرا الدراسات والبحوث والرسائل الجامعية الكثيرة التي تدرس هذا التراث في كل عام في جل أقطار العالم. وسيظل ذكره رافعا في الجزائر تتذكره الأجيال المتعاقبة التي تقرأ أعماله في مناهضة الاستعمار قراءة واعية ونقدية، أو تمر أمام شارع من شوارع الجزائر أو مؤسسة من المؤسسات الجزائرية التي تحمل اسمه.