العيد ومشاهد بر الأم
أ.د. زبيدة الطيب/ استوقفتني كثيرا مشاهد بعض الأسرى المحررين من سجون الاحتلال الإسرائيلي، وإقبالهم على احتضان الأمهات وتقبيل أرجلهن وأيديهن ورؤوسهن. وسمعت أحدهم يقول: حلمي كان أن أمسك يدها. ويسأل محرر آخر: هل أنت تعبان؟ فيرد لما احتضنت أمي زال التعب، واستحضرت العلاقة الجافة الفظة بين الكثير من الأولاد (الولد لفظ يطلق في اللغة على …

أ.د. زبيدة الطيب/
استوقفتني كثيرا مشاهد بعض الأسرى المحررين من سجون الاحتلال الإسرائيلي، وإقبالهم على احتضان الأمهات وتقبيل أرجلهن وأيديهن ورؤوسهن. وسمعت أحدهم يقول: حلمي كان أن أمسك يدها.
ويسأل محرر آخر: هل أنت تعبان؟ فيرد لما احتضنت أمي زال التعب، واستحضرت العلاقة الجافة الفظة بين الكثير من الأولاد (الولد لفظ يطلق في اللغة على الذكر والأنثى) ومصداقه قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين.» والرجال وأمهاتهم في مجتمعنا.
يقول أحدهم أقبل أمي من العيد إلى العيد. وآخر يقول ليست القصة أنني لا أبرها فأنا أوفر لها كل ما تريد ولا أعصي لها أمرا، ويقول الآخر أنا أستحي من تقبيلها بغير مناسبة. وَي كأن تقبيل الأم يحتاج إلى مناسبة. وهكذا يعيش الكثير ما شاء الله له أن يعيش، ولا يعرف كيف يتلمس يد أمه، ولا يقترب منها ليقبل الرأس أو يستمتع بدفء الحضن، وهو ينتظر يوم العيد ليلقي قبلة في الهواء؛ يحسبها وقعت على خدها أو رأسها. وكثيرا من هذه الأجوبة الصادمة والجافة تصادفك حين تفتح هذا الموضوع.
فإذا أردت تغيير جهة الحوار واتجهت صوب بعض الأمهات؛ فإنك ستسمع منها ما لا تسر له نفس أو تقر به عين. وَ كأن المجتمع لا يعرف قيمة المشاعر ودورها في بناء الشخصية. تقول إحداهن: يقبلني في يوم العيد فقط. وتردف الأخرى: والله إني أشتاق إليه وهو معي. وتكمل الثالثة: لا أبالغ إذا أخبرتكم أن آخر قبلة ربما كانت لما كان في الرابعة عشر أو تزيد بقليل من العمر، وتصل كلامها بتنهيدة تختصر معاناة وجرحا عميقين.
قارنت بين تلك المشاهد وبين سلوكات وأفكار بعض شبابنا الذين يدشنون مرحلة رجولتهم باستبدال كلمة الأم وأمي بلفظة العجوز. أو يدشنها بترفعه عن الإقبال على احتضانها لما يعتقد أن في ذلك انتقاصا لرجولته وهيبته أمام أترابه. ورأيت كيف تصنع الرجولة في حضن الأم وكيف يكون تقبيل يدها ورأسها هو مادة الصمود وأكسجين الحياة، حيث ينقطع الأكسجين الطبيعي في السجون والمعتقلات. واستنتجت أن علاقة الأولاد بالأم هي بمثابة النبتة التي يجب أن تسقى بماء التعبير عن الحب بالكلمة واللمسة والحضن والقبلة والابتسامة، وإلا ما عاش الأولاد وما عاشت الأم، ولا ذاق أولئك حلاوة الأمومة وما تذوق هؤلاء حلاوة البنوة. فكم من الأمهات حرمن متعة الاحتضان وكم من الأولاد حرموا دفء حضن الأمهات.
إن المشاهد التي ملأت الفضائيات وشاشات التلفزيون لأسرى كهول وشيوخ؛ وهم يحضنون ويبكون ويقبلون أرجل ورؤوس الأمهات، هي مشاهد تجعلك تدرك أن التقرب من الأم والتودد لها بالتقبيل وطيب الكلام وغير ذلك هو أحد أسباب صناعة الانتصار على العدو والصمود في وجهه. وتجعلك تدرك أن أحد أهم أسباب الانتصار والمقاومة والصمود، أن تكون الوالدة أما ومنبعا لكل المشاعر الجميلة التي تحث عليها الشريعة الإسلامية. وبالتالي هذا بنظري من الواجبات التي يتعين على المجتمع تربية الأجيال عليه ليدخل ثقافتنا وممارستنا اليومية؛ ما دامت الأمة لا تزال تتلمس طريقها نحو الخلاص والعودة إلى المشهد الحضاري، وهي في كل ذلك تحتاج إلى عدة روحية وقيمية تنظم علاقات الناس ببعضها تبدأ ببر الأم ولا تنتهي عندها.