المولد النبوي الشريف : النازلة القديمة المتجدّدة

د. عبدالقادر بوعقادة */ شكل السّجال بين العلماء قديما ظاهرة إيجابية حينما كان الحوار مقتصرا عليهم، ولكن انقلبت المسألة حينما اقتحم العامة النقاش فتنطع الكثيرون وتجاوزوا حدود العلم واللياقة مّما أدى إلى انحرافات جمّة، ولعل السّرّ في هذا التحول -من الإيجاب إلى السلب- يكمن في حضور السلطة في هذا النقاش، حينما كانت سابقا ترعاه وتضبطه …

سبتمبر 17, 2025 - 15:18
 0
المولد النبوي الشريف : النازلة القديمة المتجدّدة

د. عبدالقادر بوعقادة */

شكل السّجال بين العلماء قديما ظاهرة إيجابية حينما كان الحوار مقتصرا عليهم، ولكن انقلبت المسألة حينما اقتحم العامة النقاش فتنطع الكثيرون وتجاوزوا حدود العلم واللياقة مّما أدى إلى انحرافات جمّة، ولعل السّرّ في هذا التحول -من الإيجاب إلى السلب- يكمن في حضور السلطة في هذا النقاش، حينما كانت سابقا ترعاه وتضبطه بالاتفاق مع العلماء فلا يتوسع خارج نطاق المختصين، وحينما انسحبت من رعاية المصالح الدينية – بانتهاج العلمانية- صار الوضع مباحا للجميع بحجة حرية الرأي. وفي هذا الشأن تستجد مسائل كانت مطروحة سابقا بين العلماء تخص الموقف من سلوك يمسّ مسائل التشريع ليتحرّك لها الفقهاء – بدافع الغيرة على الدين- فيبيّنوا الأحكام اللازمة لها، إلاّ أنّ بعض الأعمال كالاجتماع على القرآن، والاحتفال بالمولد النبوي، وزيارة الاضرحة وغيرها ظلّت عالقة ضمن نقاش الفقهاء. فعدّها البعض بدعة وجب اجتنابها، وجعلها آخرون من الشعائر الواجب تعظيمها والقيام عليها.
فمسألة الاحتفال بالمولد النبوي طرحت منذ عهد الموحدين حينما بادر أبو العباس أحمد العزفي السبتي (557-633ه) برسالة «الدرّ المنظم في مولد النبي المعظم»، يشرح مشروعية ودوافع الاحتفال بالمولد، ولم تكن للمناسبة الشكل الرسمي إلاّ بمجيء المرينيين، حيث صار الاحتفال به عيدا عاما، لتقلدهم الدولة الحفصية و الزيانية فالأندلسيون.
كانت تقام في ليالي المولد الأمداح والأشعار وقراءة القرآن، والتذكير بفضائل المصطفى ﷺ، مثلما تحدثت المصادر عن مظاهر الابتهاج بالنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والشموع وغيرها، كما تحدثت عن أنواع الأطعمة والحلويات والطيب والبخور، ومظاهر الزينة والتأنّق في المجالس وما تضمنته من إطعام الناس، وفيها يبادر السلطان إلى أداء الدّيون عن المسجونين والمتوفين مثلهم مثل الأحياء، وعدد من الأعمال الخيرية.
شكل هذا الاحتفال نقاشا كبيرا بين الفقهاء على اعتباره من شعائر الدّين أو أنّه بدعة وجب محاربتها، بالنظر لما يقع في هذا اليوم من فساد وتبذير ومناكير. وقد أبان الونشريسي -الذي اعتبره من شعائر الدين- بأنّ الإنكار كان بسبب ما يقع فيه من الاختلاط والبدع، وأنّ السلف لم يجتمعوا فيه للعبادة، ولم يفعلوا فيه زيادة على سائر ليالي السنة، لأنّ النبي لا يعظم إلاّ بالوجه الذي شرّع فيه تعظيمه، وتعظيمه من أقرب القربات إلى الله، لكن يتقرب إلى الله بما شرع، وأنّ الخير كله في إتباع السلف الصالح، الذين اختارهم الله له…، فإذا تقرر هذا ظهر أنّ الاجتماع في تلك الليلة ليس بمطلوب شرعا، بل يؤمر بتركه إذ ليس له أصل في الدين. وقد استمرت هذه الحجة في الانكار على الاحتفال بالمولد إلى يومنا، يقول به فريق معتبر من أهل العلم والحجة.
لكن المحتفين به قديما وحتى حاضرا عدّوه من صميم الشعائر، وقد سئل عدد من العلماء فأجاب بالإباحة، حيث جاء في المعيار:»..و الذي يظهر أنّه عيد من أعياد المسلمين…، وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشموع وإمتاع البصر، والتزيين بما حسن من الثياب، وركوب فاره الدّواب، أمر يباح ولا ينكر قياسا على غيره من أوقات الفرح. وإنّ ادعاء عدم مشروعيته ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة، وتردّه الآراء المستقيمة. وقد أنكر ابن عاشر على أحد صام ذلك اليوم، وعدّه من أعياد المسلمين. وجاء المتأخرون فمايزوا بين البدعة الحسنة والسيئة، واعتبروا اجتهاد عمر بن الخطاب في مسألة التراويح، وعمل عثمان بجمع القرآن في مصحف واحد أمرا يدخل ضمن الأعمال الحسنة، وقد سئل النبي ﷺ عن صومه يوم الاثنين فقال «ذلك يوم ولدت فيه»، وعلى ضوء هذا استحسن المتأخرون الاحتفال بالمولد وعدّه من باب إغاظة الكافرين. ومن باب آخر أشار الونشريسي إلى إيثار محمد بن أحمد بن مرزوق «الفقيه المجتهد والمحدث الفريد» ليلة المولد النبوي على ليلة القدر، واستصوب عمل أبي العباس العزفي .
وإنّ الحديث عن ابن مرزوق والموقف من ليلة المولد، يحيلنا إلى مسألة أبعد عن مشروعية ليلة المولد التي زكاها فقهاء المغرب قديما وحاضرا، إذ صار النقاش حول أفضلية الليلتين، أليلة المولد أفضل أم ليلة القدر؟ وقد ذهب أبو عبد الله بن مرزوق الخطيب إلى أفضلية ليلة المولد، كما أشار العلاّمة الونشريسي إلى قول ابن عرفة الذي عادل بين الليلتين، وذهب فريق آخر إلى التوقف. ثمّ ألّف كل فريق للانتصار لمنحاه. وكان السّابقون قد أفتوا في هذه المسألة فالعز بن عبد السلام(ت660ه) نبه على تفضيل ليلة القدر دون سواها، ويحفل كتابه «قواعد الأحكام في إصلاح الأنام» على عدّة أمثلة في تفضيل الأماكن والأزمنة وقيمتها، في تفضيل دنيوي كالربيع على سائر الأزمان، وتفضيل بعض البلدان على بعض..، وتفضيل ديني كتفضيل رمضان على صوم سائر الشهور، وفضل الثلث الأخير من الليل وغيرها. لكن الونشريسي عقّب: «..أنّ المشايخ ذهبوا إلى أفضلية ليلة المولد على ليلة القدر عكس ما ذهب إليه العز بن عبد السلام..»، وكان الونشريسي يستند في ذلك كله على مصنّف العزّ في توضيح الخلاف بين الفقهاء، والردّ في هذه المسألة التي ظلت سجالا إلى أزماننا.
كان أحسن من دوّن في الأفضلية ابن مرزوق الخطيب في مصنفه «جنى الجنتين في شرف الليلتين»، وبرهن على تفضيل ليلة المولد عن ليلة القدر، فبعد أن ذكر سبعة عشر (17) قولا في تحديد ليلة المولد، تحدث عن المولد ليبرهن على خواص ليلته وأفضليتها والآيات الدّالة على ولادته ﷺ. واستند ابن مرزوق في تقديمه ليلة المولد عن ليلة القدر على واحد وعشرين (21) دليلا وضعه في كتابه، كما أشار الى ذلك الونشريسي في المعيار ج11.
أخيرا فإنّ فتوى العز بن عبد السلام -منتصف ق7ه/ 12م- تعني أنّ المسألة كانت مطروحة ببلاد المشرق قبل المغرب وابن مرزوق، كما تعني أيضا أنّ السّجال كان واقعا بين صنف الفقهاء المحدثين والأصوليين من جهة. والفقهاء المتصوفة من جهة ثانية. وإنّ ما نشهده اليوم من فوضى النقاش يتطلب من القائمين على الشأن الديني والاجتماعي التدخل في إطار مجاميع وندوات لتحديد المقاصد وتصويب الناس بعيدا عن التطرف والتزمت لتحقيق غرض الوحدة المذهبية والفكرية، وغلق باب فوضى الفتاوى وخطر الفتن التي لا يأتي منها سوى التفرقة، واعتبارها مدخلا للأعادي، وهذا وهو واجب السلطة والعلماء في حفظ الدين وحماية البيضة.
* جامعة البليدة2-