بيداغوجيا تربية الأبناء وتوجيههم (2)
أ. خير الدين هني/ …وفق ما دعت إليه السنة المطهرة، من وجوب أمر الأبناء بتأدية الصلاة وهم أبناء سبع سنين، فإن بلغوا عشرا ولم يلتزموا بأدائها لزم تأديبهم تأديبا خشنا، كالضرب غير المبرّح الذي لا يترك أثرا على الجسد، أو تأديبا معنويا بمنعه من اللعب مع إخوته أو بحجزه في المنزل ومنعه من اللعب مع …

أ. خير الدين هني/
…وفق ما دعت إليه السنة المطهرة، من وجوب أمر الأبناء بتأدية الصلاة وهم أبناء سبع سنين، فإن بلغوا عشرا ولم يلتزموا بأدائها لزم تأديبهم تأديبا خشنا، كالضرب غير المبرّح الذي لا يترك أثرا على الجسد، أو تأديبا معنويا بمنعه من اللعب مع إخوته أو بحجزه في المنزل ومنعه من اللعب مع أقرانه من أبناء حيّه، هذا إن كان الولد سويا سليما معافى من الأمراض العقلية والنفسية، كالجنون والتوحّد والبَلَهِ والعَتَهِ) ضعف العقل)، وهم المصابون بإعاقة عقلية تمنع تطور نمو الدماغ تطورا طبيعيا، كي يودي وظائفه الحيوية.
فهؤلاء الفئات من الأطفال المعتوهين، يُعدّون غير أسوياء في الطب النفسي، ولذلك يتعيّن على الوالدين أخذهم إلى المراكز الخاصة بإعادة تربيتهم وتأهيلهم، عقليا ونفسيا من قبل مدربين متخصصين في إعادة التأهيل، ويدخل في حكم الأمر بالصلاة في هذه السنّ المبكّرة التي حددتها السنة النبوية، وجوب حثهم على التمسك بأعمال المعروف والخير والفضائل والأخلاق الحميدة، كحب الناس واحترامهم وإظهار الصدق في معاملاتهم والتعامل معهم، لأن ذلك كله محمود ومحبّذ فعله من الوجهة الدينية والأخلاقية والتربوية والسلوكية والقانونية.
وهذه السن المبكرة في حياة الأبناء، هي الحجر الأساس في تنمية عقولهم وعواطفهم ومشاعرهم وإحساساتهم وأجسامهم، ولذلك تسمى في علم النفس مرحلة الاكتساب، أي: يكتسب فيها الأطفال المعرفة بشتى فروعها وأنواعها وأقسامها، ويكتسبون نظم مجتمعاتهم وأخلاقهم وعاداتهم وأعرافهم، فتتشكل عقولهم ونفوسهم ونظم حياتهم وشخصياتهم، مما عرفوه وتعلموه من آبائهم وأمهاتهم ومجتمعهم الكبير، لهذا كانت هذه المرحلة حرجة وخطيرة في حياة الأبناء الصغار.
ولذلك ينبغي أن تتناول التربية والتوجيه، كل ما يتعلق بالتنمية العقلية والنفسية والوجدانية والجسدية والسلوك العام للأبناء، كي ينشأوا أقوياء أشدّاء يحبون الخير والفضائل والمكارم والمحامد، وتنمو في نفوسهم الرغبة إلى مطالعة المصادر، التي تقودهم إلى تحصيل العلم والمعرفة والأخلاق الحميدة، وتدرّبهم على النفور من فعل الشر والمنكر وقول الزور، وتبعدهم عن ممارسة الرذائل القبيحة، كالفحش في الكلام والتبذؤ في القول، والإساءة إلى الغير بالقول أو الفعل.
وأن يحرص الوالدان كذلك، على تنمية قدرات أبنائهم الاجتماعية، وصقل مهاراتهم على حب الاندماج مع أترابهم من الأولاد، وتشجيعهم على تكوين علاقات اجتماعية جيدة مع أقرانهم الحسنة أخلاقهم، وكذلك مع غيرهم من الناس في حيّهم ومدينتهم، وحيثما حلوا وقطنوا، فيتألّفونهم بالتقرّب منهم والتودّد إليهم، والتلطّف معهم والتحبّب إليهم (استمالتهم)، والتعامل معهم بلطف ورأفة ولين، لأن الاندماج الاجتماعي له منافع كثيرة، منها: الصحة النفسية والعقلية والسلوكية، لقوله صلى الله عليه وسلم:» أكمل الناس إيمانا أحاسنهم أخلاقا الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يَألف ولا يُؤلف».
ومعنى الذين يألفون، أي: الذين يأنسون بالناس ويأنس الناس بهم ويحبون صحبتهم ويتقربون منهم، ومعناها بلغتنا اليوم هم الاندماجيون الذين يحبون مخالطة الناس لنفعهم والانتفاع منهم.
لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، أي: إنه يميل إلى العيش في مجموعة بشرية مندمجا (مختلطا متفاعلا معها)، وفي الوقت ذاته يستفيد بمنافع مادية من خبراتهم وتجاربهم، وأن ينشّأ كذلك على الابتعاد عن العزلة والانطواء (عدم المخالطة)، لأنهما أصل الأمراض النفسية والاجتماعية، كالكبت والانطواء والكآبة والقلق والتوتر والانفعال والنرفزة، وهذه الصفات السلبية هي السبب الذي يؤدي بالفرد العدواني، إلى التمرد على المجتمع والقوانين والأخلاق والأعراف، للتعويض عن ذاته الشاعرة بالقهر والظلم والإذلال.
وكذلك يوجّهونهم إلى التقيد بالأفعال، والأقوال والسلوكات التي تنمي عقولهم وتهذّب سلوكهم، وتصقل مواهبهم وعواطفهم ووجدانهم، وتحسّن مهاراتهم الحسية والجسدية وتقوي شخصيتهم، لأن الطفل كرجل صغير، يتكوّن من جسد وعقل وعواطف ووجدان، وتحركه الميول والدوافع والرغبات، والعناية بتربية هذه المكونات أمر تستلزمه التربية الصحيحة والتوجيه السليم، ولا إخال (بكسر همزة إخال)، أن هذه التربية تعسر على الآباء، إن التزموا بقواعد التربية الصحيحة التي أشرت إليها.
ولا ينبغي للوالدَين أن يسأما أو يفشلا أو يفترا أو يملّا، من الاستمرار الدؤوب في تربية أبنائهما وتوجيههما، بحجة أن تربيتهم لم تثمر نتائجها بالسرعة التي يأملونها، وهذا مبدأ تربوي غير سليم، لأن الطفل في مراحل نموه إلى غاية سن النضج، يعيش ثورة بيولوجية كبرى في عقله ونفسه وجسمه، بسبب الاطّراد الكبير للنمو، ومثل الطفل في تربيته وتوجيهه، كمثل الشجرة التي نغرسها فسيلة صغيرة، ولا تعطينا الثمار إلا بعد سنوات طويلة من الرعاية والعناية والخدمة والجهد الكبير.
فأثر التربية الحسنة، يسري في عقل ابنك الصغير ونفسه تدريجيا كالشجرة، وتظهر نتائج هذا الأثر كاملة أو شبه كاملة عند سن النضج، ولذلك لا ينبغي أن نيأس أو نأسف، لعدم ظهور نتائج التربية مبكّرا، لأن اطراد النمو وهيجانه في ذوات الأطفال الصغار، هو من يدفعهم إلى الجنوح عن جادة الصواب، ولاسيما في مرحلة المراهقة التي يشعر فيها الأبناء، بأنهم كيانات منفصلة عن آبائهم وأمهاتهم، وتبدأ سمات الشخصية الفردية تبرز في عقولهم وسلوكهم، ولذلك تنزع نفوسهم إلى الرغبة في التمرد والتبرّم من القيود الأسرية والاجتماعية، خلافا لما كانوا عليه حينما كانوا في مرحلة الطفولة، إذ كانوا يعتبرون أنفسهم لصيقين ذاتيا بآبائهم وأمهاتهم، لأنهم واقعون تحت تأثير الخيال الإيهامي الذي يتصور الأشياء على غير حقائقها، ولا يتخلصون منه إلا في سن البلوغ والرشد، فيتحول الخيال لديهم إلى الخيال الطبيعي الذي يساير الواقع المعيش.
نخلص إلى أن الواجب يفرض على الوالدين والمربين، العناية بتربية أبنائهم وتلاميذهم وتوجيههم نحو سبل الرشد والهدى والأخلاق الحميدة، كيما يكونون أجيالا صالحين نافعين منتفعين.
كما ينبغي أن أشير في هذا البحث إلى أن التربية الصحيحة والتوجيه السليم، لا يؤثران كثيرا كما هو مأمول، في الأبناء الذين يحملون استعدادات وراثية غير سوية، ولكن مع ذلك فالتربية الصحيحة، تعمل على تضييق مساحة الاعوجاج والانحراف، وهي الحالة غير الجميلة التي تتحكم فيه الطبيعة الوراثية، تلك الطبيعة التي يرثها الابن من أحد أبويه أو أجداده، وقد وقفت بنفسي على هذه التجربة، ولكن لا ينبغي اليأس من مواصلة بذل الجهد في التربية والتوجيه، ولو كان أحد الأبناء ناقلا لصبغية الانحراف وعدم الاستقامة في السلوك.
وفي الختام نعيد التأكيد مرة أخرى، على ما قلناه في مقدمة الاستهلال، على أن التربية العلمية الصحيحة (غير العشوائية أو الارتجالية)، هي التي تقوم على معرفة خصائص مراحل الطفولة ومميزات الفروق الفردية، لأن هذه المعرفة هي التي تجعل الوالدين والمربين، يختارون أنجع الوسائل والطرق التي تتلاءم مع كل حالة ومرحلة، وفي الوقت ذاته يقفون على الفروق الفردية بين مراحل الطفولة الأولى، وبين مرحلة المراهقة ومن بعدها مرحلة النضج والشباب المكتمل في النمو، وستؤدي تلك المعرفة -حتما -إلى اختيار أساليب التربية والتوجيه والإرشاد، وفق ما تدعو إليه فلسفة التربية الحديثة وعلم النفس التجريبي، وهذا المنهج الصحيح هو الذي نبلغ به الغاية الكبرى، التي تقودنا إلى معرفة الطاقة المحركة لدوافع الإنسان والغرائز الكامنة في ذاته، وذلك ما ييسر لنا سبل توجيهه نحو الالتزام بتجنب الشر وفعل الخير والتمسك بالفضيلة.