تزكية النفوس أساس كل صلاح و إصلاح

أبو إياد كمال بن عطاءالله/ كل عمل جاد مُفيد غايته التصحيح والإصلاح والتغيير إلى الأفضل وجب التنبيه إلى تحديد الفئة أو الفئات المقصودة، والنّفس البشرية دون غيرها لها خصائص مخصوصة، وبناء الكون كلّه وصلاحه ينبني على استقامة بني الإنسان وفهمه لسبب وجوده، قال تعالى:» وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلاّ ليعبدون»(1)، وماهي العبادة المقصودة التي ذُكرت …

يونيو 17, 2025 - 16:47
 0
تزكية النفوس أساس كل صلاح و إصلاح

أبو إياد كمال بن عطاءالله/

كل عمل جاد مُفيد غايته التصحيح والإصلاح والتغيير إلى الأفضل وجب التنبيه إلى تحديد الفئة أو الفئات المقصودة، والنّفس البشرية دون غيرها لها خصائص مخصوصة، وبناء الكون كلّه وصلاحه ينبني على استقامة بني الإنسان وفهمه لسبب وجوده، قال تعالى:» وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلاّ ليعبدون»(1)، وماهي العبادة المقصودة التي ذُكرت في الآية؟، إنّ الإجابة عن مثل هذا السؤال وغيره من الأسئلة الجادّة التي تدور في أذهان الشباب وغيرهم من النّاس، وما انتشار الإلحاد والنفاق والكفر والفسق والعصيان والرذيلة إلاّ لأنّ الدعوة للخير لم تصل لقلوبهم وعقولهم صافية أو بتشويش ومعاندة من لدن شياطين الإنس والجان، فما هو الحل إذن؟، إنّه سبيل الأنبياء والرسل وما كانت إلاّ دعوة لعبادة ربّ العباد الواحد الأحد، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}(2) وتعني: «اعلم أن الله وحده هو الإله الحق، ولا معبود بحق سواه» مصداقا لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}(3)، لكن تعليم العقيدة الصحيحة نظريا لا يفي بالغرض إن لم يكن هناك منهج لتربية النّفس ومرافقتها من مَهدها إلى لحدها ومن شبابها إلى ضعفها عند الشيخوخة، وهذا المنهج التربوي يُعرف عند العارفين والمربّين والعلماء بتزكية النّفس.
التزكية من مادة(المصدر) وجذر «زكى»، من معانيها «التَّطْهيرُ والزِّيادَةُ والنَّماءُ»(4)، قال ابن كثير(701-774ه) في معنى قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}(5): من زكّـى نفسه بطاعة الله، وطهّرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة(6)، وقال ابن القيم(691- 751هـ) في تفسيره: قد أفلح من كبّرها وأعلاها بطاعة الله، وأظهرها، وقد خاب وخَسِر من أخفاها، وحَقّرها وصَغّرها بمعصية الله، ويقول أبو حامد الغزالي (450 هـ- 505 هـ):» هي تكميل النّفس الإنسانية بقمع أهوائها وإطلاق خَصائصها العليا»، ومن المعاني التابعة لها «التربية»، وهي رعاية المربّـى والقيام عليه حتى يبلغ الكمـال، ومنه قوله تعالى: «الحمد لله رب العالمين»(7)، أي: الذي يربّــيهم بنعمه، ويحوطهم برعايته، ويطعمهم ويكسوهم، وتعتمد على ركنين أساسيين «التخلية والتحلية»، فالأولى التخلي عن مساوئ الاعتقادات من شرك وكفر ونفاق ومن العادات والأخلاق السيئة، واستبدالها (التحلي) بالعقائد الصحيحة والأخلاق والفضائل الحسنة في المعاملات وغيرها ولن يكون ذلك إلاّ بالإخلاص الصادق لله والعلم والتدرّج في الاتصاف والاكتساب.
هي تطهير للنّفس من أدرانها وأوساخها الطبعية والخُلقية، وتقليل قبائحها ومساويها، وزيادة ما فيها من محاسن الطبائع، ومكارم الأخلاق، وهي مقصد من مقاصد بعثة الرسل عموما، كما قال ابن القيم في مدارج السالكين: [إنّ تزكية النفوس مُسلَّــمٌ إلى الرسل، وإنّـمـا بعثهم الله لهذه التزكية وولاّهم إيّاها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليما وبيانا، وإرشادا، لا خَلْـقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم»، وهي غاية من غايات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}(8)، فهو يزكيهم أي: يدلّهم على ما تزكو به نفوسهم، وليس هو فاعلا لها فيهم، قال عزّ وجل: {ولكنّ الله يُزكِّـي من يشاء}(9)، ويقول رحمه الله: «وتزكية النُّفوس أصعبُ من عِلاج الأبدان وأشدُّ، فمن زكّى نفسَه بالرِّياضة والـمجاهدة والخلوة التي لم يـجئ بها الرُّسل، فهو كالمريض الذي يُعالج نفسَه برأيه دونَ معرفة الطّبيب. فالرُّسل أطبّاءُ القلوب، فلا سبيل إلى صلاحها وتزكيتها إلّا على أيديهم، وبـمحض الانقيادِ والتّسليم لهم، والله المستعان»(10).
وقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم على التزكية الربانية في إيمانه وعبادته وخُلقه، فأرسله الله لتزكية هذه الأمّة، وتطهير النّفوس من دسائسها وأمراضها، وملئها بكل خِصال الطُّــهر والنَّقاء، وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}(11)، وقد كان ذلك في أصحابه رضوان الله عليهم، الذين تحقّق فيهم هذا المقصد العظيم بأبهى صوره، حيث عمل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم على مسارات التزكية الإيمانية، والتعبدية، والأخلاقية، فكانوا صفوة لا تتكرّر، وبقيت الأمّة تتوارث منهجهم في التزكية، وعلى قدر قُرب الأمّة وبُعدها من هذه القدوات يكون موقعهم من هذا المقصد العظيم.
فهي منهج تربوي لحياة إيمانية لتحصين الفرد والأسرة والمجتمع، والناظر لحياة المسلمين يجد أنّ هذا من الحاجات الماسّة لها اكثر من اللباس والطعام، وقد ذكر الأستاذ الداعية علي عبد الخالق القرني(ولد1961م) في محاضرة بعضا من الأسباب:
أ- كثرة الفتن والـمُغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام القرون الأولى، والـجُهد لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والمحيطين، وضعف المعين، وقلّة النّاصر.
ب- لكثرة حوادث النُكوص على الأعقاب، والانتكاس، حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
ج- لأنّ المسؤولية ذاتية، والإنسان يُحاسب عن نفسه لا عن غيره فلابد من جواب واستعداد، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}(12).
د- عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لنــثبت في الحالين.
ه- لأنّنا نُريد أن نَبني غَيرنا، ومن عَـجز عن بِناء نفسه فهو عن بِناء غيره أعْـجـز.
وإنْ أردت نموذجا ناجحا ومشروعا جاهزا يدعم رؤيتك ويُنضجها حول هذا المنهج فما عليك إلاّ بتتبع خطوات «علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» الذين كابدوا تلك المراحل المظلمة أثناء الاستدمار وخرّجوا جيلا مؤمنا حقا وصادقا فعلا ومازال صالحا مع تعديل على الزمان والمكان وبعض الوسائل، ويعتمد على:
1- وجّهت دعوتها للأفراد والأسر والتجمّعات المختلفة في البدو والحضر والمدن كافة وذهبت إليهم، وشجّعت المساجد والمدارس وشكّلت النوادي المختلفة، وبرمجت الندوات واللقاءات الدورية وشجّعت على الرحلات والزيارات.
2- تعتمد في دعوتها على الصبر والتدرّج ووضوح الأهداف والبساطة دون تعقيد- واقعية- بعيدة عن الطرح الافتراضي، مستفيدة مما توفر من الوسائل، متفتحة على التجارب الدعوية التي تقاسمها الغايات دون صِدام.
3- تستند في منهجها التربوي على الحُجَّة والدليل في مقارعة الشعوذة ومريديها مبيّنة الضلال والفساد والمفاهيم الخاطئة والأخلاق والعادات السيئة، يقوم بها علماء مشهود لهم بالعلم وطلبة تربوا على التضحية ونُكران الذات فكانوا قدوة لغيرهم.
أيّها الأحباب الأوفياء، إنّ غايتنا جميعا هي إرضاء الله والإيمان الصادق بكل ما أمر به ونهانا عنه، ولن يتحقق ذلك إلاّ إذا بذلنا الوُسع في الاتصاف بالصفات الإيمانية خِدمة لأنفسنا وأمّتنا ولن يكون إلاّ بالمنهج الذي أشرنا إليه فحيّ على العمل.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(13).

الهوامش:
(1)- الآية 56 سورة الذاريات.
(2)- الآية 19 سورة محمد.
(3)- الآية 62 سورة الحج.
(4)- المعجم الوسيط: (1/396) – المصباح المنير في غريب الشرح الكبير:(ص 254).
(5)- الآية 09 سورة الشمس.
(6)- كذا في تفسير الطبري.
(7)- الآية 02 سورة الفاتحة.
(8)- الآية 164 سورة آل عمران.
(9)- الآية 21 سورة النور.
(10)- مدارج السالكين ج3ص43.
(11)- الآيتان 152-151 سورة البقرة.
(12)- الآية 111 سورة النحل.
(13)- الآية 110 سورة الكهف.