في ذكرى وفاة الشيخ عبد السلام خير الدين وقفة مع ديوانه (دوحة الصحراء)
أ. الأخضر رحموني/ أنجبت بسكرة الزيبان العديد من الشعراء عبر عصورها الزاهية عرفوا بمساهماتهم المتنوعة في الحقل الثقافي والعلمي، وبنتاجهم الأدبي المنشور في المجلات والصحف الوطنية والعربية وبإصداراتهم المطبوعة، غير أن هناك أسماء لا تزال مجهولة لظروف متنوعة ولأسباب خاصة، أهمها عدم الرغبة في الظهور أمام وسائل الإعلام المختلفة، أو الابتعاد عن فكرة الطبع لأسباب …

أ. الأخضر رحموني/
أنجبت بسكرة الزيبان العديد من الشعراء عبر عصورها الزاهية عرفوا بمساهماتهم المتنوعة في الحقل الثقافي والعلمي، وبنتاجهم الأدبي المنشور في المجلات والصحف الوطنية والعربية وبإصداراتهم المطبوعة، غير أن هناك أسماء لا تزال مجهولة لظروف متنوعة ولأسباب خاصة، أهمها عدم الرغبة في الظهور أمام وسائل الإعلام المختلفة، أو الابتعاد عن فكرة الطبع لأسباب أزمتها المادية، أو الشعور الذاتي بأن ما يكتبه لا يسمو إلى القيمة الفنية المرجوة.هذه الحقيقة تيقنت منها وأنا أقلب مكتنزات مكتبة الرصيف -التي تعد الملجأ المفضل لكل مسكون بهم القراءة بالمدينة-على نسخة من ديوان حمل عنوان (دوحة الصحراء) للشاعر عبد السلام خير الدين، ولولاه لما عرفت أن ذلك الأستاذ الوقور الذي كنت أراه في ثمانينيات القرن الماضي يرتاد مسجد القائد بوسط المدينة شاعر، وتأسفت لعدم الاقتراب منه يوم كان في أوج عطائه، ولم أتشرف بالجلوس إليه وإجراء لقاء حصري معه لنتعرف من خلاله على مسيرته في عالم الأدب والسياسة و التجارة، أو الاستفادة من تجربته في الحياة، وعذري أنني كنت مقيدا بالعمل الإداري الروتيني في تلك المرحلة.
يقع الديوان في 76 صفحة قياس 21سم×14.5 سم، صدر سنة 2003 دون ذكر اسم دار النشر ولا عنوانها، مع عدم تحديد الشهر من السنة حتى يهتدي الدارس إلى معرفة إن كان صدور الديوان في حياة الشاعر، وتمتع برؤية غلافه ولمست أصابعه صفحات عصارة أفكاره، أم صدر بمبادرة طيبة من أبنائه بعد وفاة والدهم في شهر جوان 2003.
يحتوي الديوان على 35 قصيدة متفاوتة في عدد أبياتها، ومختلفة في المضامين المطروحة، وإن حملت معاني الوفاء والحب والتغني بالطبيعة والوطن وكستها مسحة الحزن بكلمات مألوفة ومعاني واضحة، وذات بناء فني معهود، قسمت إلى ثلاثة أبواب.
أهدى الشاعر محاولاته الشعرية -حسب تعبيره – إلى والدته التي سهرت على تربيته على أحسن وجه، وكل أفراد عائلته، وإخوانه خاصة شيخه ومعلمه الأخ الأكبر الشيخ محمد خير الدين أحد المؤسسين البارزين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإلى كل الرفقاء المحبين للشعر والأدب، دون نسيان شعبه الجزائري العزيز.
في مقدمة الديوان التي كتبها الشاعر الراحل محمد بلقاسم خمار صنف صاحبه الشاعر عبد السلام خير الدين ضمن فئة (الشعراء الذين بدأوا قول الشعر منذ سن الصبا وعهد الشباب، إلاّ أنّ نشأتهم العائلية المحافظة، وتربيتهم الدينية وتشبثهم بالأخلاق و الأعراف الاجتماعية، ومراعاتهم للقيم و التقاليد والعادات السارية، منعتهم من أن يخدشوا وقار شيخوختهم، فانصرفوا عن نشر ما كتبوه أيام الفتوة زهدا وحياء، وعلى كلّ حال إن كان ذلك من حقهم إلاّ أنّه يحرم المهتمين من الاطلاع الكامل على كل مسيرتهم الشعرية، ويحدث فجوة لا تسد في بناء حصيلة معرفية شاملة عنهم).
ويبدو أن هذه الأسباب الوجيهة المذكورة هي التي تركت اسم شاعرنا مغمورا بل مجهولا بيننا، حيث لم تتناول الدراسات الأدبية نصوصه الشعرية بسبب عدم قيامه بنشرها في الصحف الوطنية، ولا نجد له ذكرا في المحافل الثقافية، وهذا الغياب أدى إلى عدم إدراجه ضمن المعاجم والموسوعات الشعرية التي تناولت حياة الشعراء الجزائريين، ولم يرد اسمه حتى في كتب من تناولوا أعلام وأدباء وشخصيات منطقة الزيبان.
لهذا فضلت تقديم لمحة عن حياته علها تكون مادة أدبية لمن سيهتم بسيرته ومسيرته في مستقبل الأيام، عندما ينال حظه ويعاد له الاعتبار بدراسة ديوانه الذي يستحق التفاتة خاصة.
صاحب الديوان الشيخ عبد السلام خير الدين بن أحمد بن أبي جملين والزهراء بنت المغربي من مواليد سنة 1924 في قرية فرفار التابعة لبلدية طولقة من ولاية بسكرة، وهي موطن قبيلة الذواودة التي تنتمي إليها عائلة الشاعر.
توفي والده وهو لم يتجاوز السنتين، وكان الأصغر بين إخوته الأربعة (محمد – عبد القادر – إسماعيل – الحفناوي)، فأشرف على رعايته و تربيته و تعليمه أخوه الأكبر الشيخ محمد خير الدين بعد عودته سنة 1925 إلى أرض الوطن عند إتمام دراسته في جامع الزيتونة المعمور بتونس، وقد استفاد كثيرا في تنمية معارفه من شقيقه الذي لازمه كأب وتلميذ ونهل من مكتبته العامرة.
حفظ جزءا من القرآن الكريم في مسقط رأسه وبعد انتقاله إلى مدينة بسكرة مع أفراد عائلته سنة 1929، انتسب إلى مدرسة الإخاء التي فتحت أبوابها في أكتوبر 1931 لاحتضان تلاميذ بسكرة الزيبان والأوراس من المذهبين المالكي والإباضي، وكان الشيخ محمد خير الدين مديرا لها ومعلما، فأخذ بها حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ اللغة العربية والفقه على مدرسيها وهما الشيخ بلقاسم بن عمار ميموني الغسيري ومحمد بن إبراهيم الطرابلسي.
بعدها واصل تعليمه في مدرسة التربية و التعليم التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في أول أطوارها والمعروفة بمدرسة الباشات الواقعة بشارع محمد العربي بعرير، وبعد سنة 1941 انتسب إلى فوج الرجاء للكشافة الإسلامية الجزائرية في دفعته الأولى بمقره بحي سوق الحشيش، واستفاد من دروس وتوجيهات المرشدين الشيخ علي مرحوم و الشيخ محمد بن العابد الجلالي.
عند تمثيل مسرحية (في سبيل التاج) التي لعب الشهيد محمد العربي بن مهيدي دور البطل فيها سنة 1944 كان شاعرنا من المشاركين فيها، وسافر مع أعضاء الفرقة لتمثيلها في مدن جزائرية بالشرق الجزائري.
كما كان له دور مع مجموعة من أصدقائه في تأسيس فوج (عقبة بن نافع) ضمن الأنشطة الكشفية.
مع اندلاع شرارة الثورة التحريرية المباركة انخرط في تنظيمها المدني برئاسة الشهيد الشيخ عبد الرحمان بركات. وفي سنة 1956 ألقي عليه القبض، وسجن في منطقة مشونش حتى أواخر سنة 1957.
بعد الإفراج عنه سافر مباشرة إلى الخارج، وبقي ينشط في إطار جبهة التحرير الوطني إلى غاية الاستقلال.
زار بلدانا عديدة وخاصة دول المغرب العربي وأوروبا. وقام بأداء فريضة الحج مرتين سنة 1983 وسنة 1987.
كان يمارس تجارة التمور مع إخوته في المحل الواقع في 02 شارع الأمير عبد القادر ببسكرة المقابل لمديرية المصالح الفلاحية حاليا، ويعد من بين المصدرين الأوائل للتمور ذات النوعية الرفيعة إلى الخارج.
توفي يوم الأحد 29 جوان 2003، ودفن في مقبرة البخاري ببسكرة بمحاذاة أضرحة أفراد عائلته وإخوته و عائلتي مغربي وميموني.
في مقدمة ديوان –دوحة الصحراء – توقف الشاعر بلقاسم خمار عند أسباب وعوامل الظاهرة المتميزة التي جعلت أغلب أدباء الجزائر من شعراء وكتاب وصحفيين بالخصوص من أبناء واحات الجنوب الجزائري، مقسما شعراء الجزائر إلى فئتين منهم (الشعراء الذين يكتبون باللغة الفصحى ممن لديهم حظ وافر من الثقافة وقواعد اللغة وامتلكوا موهبة الوزن ورقة الإحساس وحسن التذوق، وقد اتخذوا من الشعر هواية جمالية ملازمة، إلاّ أنهّم ركّزوا جلّ اهتماماتهم الحياتية على مشاغل وأنشطة بعيدة قليلا عن ميادين الشعر، لذلك نراهم بصفة عامة مقلين في إنتاجهم الشعري، وغير مهتمين كثيرا بتطوير أساليبهم أو ترقية مستوياتهم الإبداعية، وقد نجد بعضا منهم يقول الشعر في مرحلة معينة من عمره ثم يبتعد عن قوله نهائيا وإن ظل محبا له.
وهناك شعراء بقوا على اتصال دائم بالشعر ولم ينقطعوا عن نظمه، إلاّ أنّهم مقلون في كتابته ولا تحركهم دوافعه ونوازعه إلا خلال مناسبات معينة أو في حالات نفسية خاصة أو عندما يطلب منهم قول الشعر، وغالبا ما تكون قصائدهم قصيرة نظرا لكونها مركزة على فكرة واحدة أو حدث فريد، وشعرهم في عمومه لا يخرج عن الإطار العمودي المعروف، أما أغراضهم و مضامينهم الشعرية فهي بصفة عامة تتناول المواضيع الوطنية والدينية والذاتية والعائلية والوصف والشكوى والإخوانيات والرثاء و المدح والفخر).
قارئ ديوان (دوحة الصحراء) يجد هذه المعاني والموضوعات هي المسيطرة على قصائده ويبرز حضورها بوضوح،بل تذكرنا بشعراء الحركة الإصلاحية وخطابهم الديني. يحيلنا عنوان الديوان إلى ارتباط الشاعر الوثيق بالبيئة التي نشأ وعاش فيها، وما تحمله من رموز الأصالة والخير والقوة والتحدي، وتحيلنا حتى صورة الغلاف إلى استمرارية الحياة بصمود النخيل الشامخ رغم الأجواء الداكنة في عالمنا العربي.
ضم الباب الأول الذي حمل عنوان (المديح و الوطنيات) على 17 قصيدة كتب أغلبها في مناسبات أو أحداث مر بها وألقيت في حينها، مثل حفل التكريم الذي أقامه الشاعر في منزله لأعضاء البعثة الأزهرية في رمضان سنة 1968 ووثقها شعرا، منها قوله:
وفود الكنانة أهلا بكم*** مجالسنا اليوم تزهو بكم
فأنتم مصابيحنا في الدجى *** وعلم الشريعة طوعا لكم
فمعهد – جوهرة – زفكم *** لتفقيه أبناء من شعبكم.
وفي حفل انتهاء الموسم الدراسي بالمعهد الإسلامي في بسكرة يوم 26 ماي 1969 خاطب معشر الطلبة حاثا إياهم على طلب العلم بقوله:
أيها النشء أنت ذخر بلادي *** بك يبنى العلا و يسمو المصير
أطلب العلم إن أردت المعالي *** ليس كالعلم قائد و أمير
سوف نبني فوق السحاب طريقا *** و على أسطح النجوم نسير .
وخلال الحفلات الدينية المختلفة التي تقام في المساجد وكان لها النصيب الوافر، كذكرى المولد النبوي الكريم وله فيها ست قصائد أو ليلة القدر بهدف ترسيخ الذكرى في نفوس المستمعين والدعوة إلى المحافظة على الأخلاق الفاضلة، ولا زلت أذكر أنه كان يتحفنا كل سنة في الحفل الرسمي المقام بمسجد القائد (مسجد العلامة امحمد مغزي بخوش حاليا) بقصيدة وهو يرتدي أبهى ملبس موشحا ببرنوسه البني. جاء في إحداها:
إني لذكر محمد أتشوق *** وليوم مولده فؤادي يخفق
يا سيد الكونين نورك مغدق *** و الشمس تعلو في سماك و تشرق
حبي إليك يفوق كل مكانة *** تبت يدا متزندق يتملق
وفي مثل هذه المناسبات كان لا ينسى الوقوف عند القضية المصيرية للأمة و هي قضية فلسطين السليبة لمكانتها في الوجدان العربي و التفاعل مع أحداثها ، داعيا إلى لم الشمل و الابتعاد عن التنازع يقول:
لا زالت القدس الحبيبة مرتعا *** للغاصبين سلالة الشيطان
وكذا في المناسبات الوطنية مثل تحية أول نوفمبر 1954، وبمناسبة استرجاع المرسى الكبير في فيفري1968، وتحية مجاهد، وذكرى وبشرى، وصرخة من أعماق الكهوف التي خاطب فيها أرض الجزائر لتحدثه بما فعل الطغاة الذين أضاعوا شعبهم حرصا على نيل المكاسب، وظلموه بسلب الذخائر والمباني، بل تفجر غضبا وسخطا وهو يرى تفشي الأمراض الاجتماعية المنكرة مثل تسول الأطفال والنساء ،و تهميش الجامعي الذي سكنه الغيظ من عدم حصوله على المكانة اللائقة به في مناصب العمل، ويدعو فيها إلى تثبيت أركان العدل في المجتمع:
بني وطني أفيقوا من سبات *** وأنتم للأصالة تنتمون
أقيموا دولة القانون صدقا *** وغير العدل شر مستبين
وعندما أهداه شاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة نسخة من ديوانه الشعري بتاريخ 31 جانفي 1970 رد عليه شاكرا صنيعه بقصيدة منها:
لشعر العيد أزهار ** يفوح عبيرها بكرا
وشعر العيد أنغام ** تهز القلب و الفكرا
الباب الثاني (خواطر ومناجاة) شمل على 12 قصيدة مشحونة بالحنين، منها قصيدة فلسطين الجريحة التي كتبت بعد نكبة 1967، و حملت إيمانه العميق بانتصار القضية العادلة و الدعوة إلى تحرير الأقصى الشريف:
بني وطني إن العروبة تصطلي *** من الظلم ألوانا وتدعو المحاميا
فهل فيكم من يستجيب لصرخة *** من القدس جاءتنا تشق الفيافيا
ومرثية الأصنام بعد الزلزال المدمر الذي عرفته المدينة سنة 1980 باكيا ما حل بها من دمار وموت، وقصيدته على أبواب تأدية فريضة الحج الثانية سنة 1987، كما حزن وذرف دمعته على رحيل ابني أخيه عبد القادر بقصيدتين سنة 1980 وسنة 1999 مقدما واجب العزاء الأخوي، ومن وحي الآلام التي صور فيها الطوفان الذي عرفته منطقة الزيبان سنة 1969، وخواطر الشاعر المسافر إلى أوروبا، ونصح وتوجيه موجهة إلى أبنائه.
حول مفهومه للشعر يكشف الشاعر عن العلاقة الحميمية التي تربطه بعالمه، فهو نوع من التنفيس والترويح مما يعاني من آلام جاثمة في روحه وفضح الزيف، لينقله من لحظة الأشجان إلى عالم الفرح والغناء غير آبه بالوجع:
يا شعر أنت رفيقي *** وأنت سر وجودي
آنست فيك وفاءا *** في سابق وجديد
أما الباب الثالث (من وحي الصبا والخيال) فيحتوي على 06 قصائد. والمتأمل فيها يجد زفرات قلب مهموم سكنه العشق رغم تقدم العمر، تتقاطع مع قصائد وجدانية للشاعر جبران خليل جبران خاصة قصيدته –المواكب- وإبراهيم ناجي في رائعته -الأطلال – من حيث القاموس اللغوي والإيقاع الموسيقي، ورغم الجرأة في البوح لكن كلماتها بقيت أسيرة الأوراق الموؤودة لشاعر مرهف الإحساس، وعبر عن ذلك بقوله:
سأل العواذل كيف أنت تحبها *** إن الكهولة لا تنال رضاها
قلت الكهولة جذوة وقادة *** تهوى الجمال و تستميل هواها
وفي -مناجاة – يستعطف المحبوبة بلغة رقيقة شفافة ملؤها المشاعر الفياضة لعلها تسترجع معه ذكريات أيام الصبا و نشوة الحياة:
غادتي إن شئت عدنا بين أحضان الطبيعة *** نجتني نشوة عيش قبل أن يمضي الأوان
هذه أوتار قلب رددت لحن الخلود *** علها تلقى صداء بين طيات الزمان
وتتكرر أجواء هذه المعاني الذاتية في قصائده – إلى من أهوى- و-من وحي الكهولة – و-من وحي الخيال – و– خواطر-.
هذه كلمة انطباعية سريعة فرضها واجب التعريف بكتابنا من المغمورين والراحلين، على أمل الاهتمام بالديوان من طرف الدارسين أو الطلبة في جامعاتنا للامساك بما يختلج في داخله من حالات ومكنونات وجماليات فنية،حتى يصل صداه إلى المهتمين، وعسى أن يدرج ضمن كتاب (مقاربات نقدية في إبداعات بسكرية) للدكتور شارف عامر في جزئه الثالث.