التحضّر الزائف والجريمة الحضارية: قراءة في تصريح السفير الفرنسي عن احتلال الجزائر (الجزء الأول)
د. بدران بن الحسن */ المقدمة: لا تزال العلاقة بين الجزائر وفرنسا مثقلة بأعباء الذاكرة الاستعمارية، وما خلفه الاحتلال الفرنسي من جراح لم تندمل في الوجدان الجمعي الجزائري، رغم عقود من الاستقلال. وفي سياق هذه الذاكرة المتوترة، يأتي تصريح جيرار أرو، السفير الفرنسي السابق في الكيان الصهيوني، لقناة «أل سي إي»، ليعيد فتح واحد من …

د. بدران بن الحسن */
المقدمة:
لا تزال العلاقة بين الجزائر وفرنسا مثقلة بأعباء الذاكرة الاستعمارية، وما خلفه الاحتلال الفرنسي من جراح لم تندمل في الوجدان الجمعي الجزائري، رغم عقود من الاستقلال. وفي سياق هذه الذاكرة المتوترة، يأتي تصريح جيرار أرو، السفير الفرنسي السابق في الكيان الصهيوني، لقناة «أل سي إي»، ليعيد فتح واحد من أكثر الملفات حساسية: طبيعة الاحتلال الفرنسي في الجزائر.
يقول أرو في اعتراف صريح: «لقد قمنا بتفكيك كامل للبُنى التي كانت قائمة، دمرناها بالكامل، وأعدنا بناء مجتمع استعماري جديد من الأساس، في جميع النواحي تقريبًا». هذا التصريح الصادم يُثير عدة تساؤلات مصيرية: هل كانت الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي مجرد فراغ حضاري؟ أم أن هذا التفكيك الممنهج دليل على وجود دولة وهوية ومجتمع قائم تم تدميره عمداً؟
وهل يمكن اعتبار ما قامت به فرنسا «رسالة تحضر»، كما دأبت على تسويقه، أم أن الأمر يتعلق بجريمة حضارية مكتملة الأركان؟ وما الدلالات الفكرية والسياسية والثقافية لهذا الاعتراف النادر؟ ثم كيف ينبغي للجزائريين اليوم أن يتعاملوا مع مثل هذه المواقف التي تنقض رواية فرنسا الرسمية حول استعمارها للجزائر؟
يسعى هذا المقال إلى تحليل هذا التصريح في أبعاده المتعددة، وفهم ما يكشفه من خلفيات حضارية وسياسية، وما يترتب عليه من مواقف تاريخية ومطالب وطنية، في ظل استمرار معركة الذاكرة بين الجزائر وفرنسا.
أولًا: يدل هذا التصريح على وجود سابق وهوية قائمة للجزائر قبل الاحتلال
تصريح جيرار أرو، السفير الفرنسي السابق، حين يقول: «لقد قمنا بتفكيك كامل للبُنى التي كانت قائمة، دمرناها بالكامل، وأعدنا بناء مجتمع استعماري جديد من الأساس»، يُعد اعترافًا ضمنيًا وصريحًا بأن الجزائر لم تكن أرضًا بلا تاريخ أو فراغًا حضاريًا ينتظر من يملأه، بل كانت تملك كيانًا سياسيًا ومجتمعًا منظمًا ونسيجًا حضاريًا متماسكًا. فالتفكيك لا يُمارس إلا على كيان قائم، والتدمير لا يقع إلا على بنيات موجودة، وإعادة البناء لا تتم إلا فوق مجتمع حي كان يشغل تلك الأرض.
الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي سنة 1830 كانت جزءًا من الدولة العثمانية، لكنها تمتعت باستقلال فعلي في التسيير الداخلي تحت سلطة الدايات، الذين أسسوا نظامًا إداريًا وسياسيًا محليًا مستقرًا. وقد عرفت البلاد تنظيمًا إداريًا دقيقًا، من تقسيم ترابي واضح إلى ولايات، ومحاكم شرعية، ومؤسسات دينية وتعليمية تشرف على تسيير الحياة العامة، في ظل نظام يستند إلى المرجعية الإسلامية. كان الإسلام الإطار الحاكم للحياة الاجتماعية، وكانت الزوايا والمدارس القرآنية تشكل العمود الفقري للنظام التربوي والثقافي، مما يدل على حضور مؤسسي وثقافي عميق.
أما من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فقد كانت الجزائر تملك شبكة علاقات تجارية نشطة، تمتد من المغرب العربي إلى إفريقيا جنوب الصحراء، مرورًا بالعالم العثماني. اعتمد المجتمع على الزراعة والرعي والتجارة، ونُظمت الحياة من خلال علاقات قبلية ومدنية تقليدية، تُدار من خلالها النزاعات، وتُوزع فيها الموارد وفق أعراف متوارثة، مما يدل على نضج اجتماعي بعيد عن الفوضى التي طالما وصفت بها المجتمعات المستعمَرة لتبرير احتلالها.
الهوية الثقافية الجزائرية كانت واضحة ومتماسكة، تتجلى في التداخل العضوي بين الإسلام واللغة العربية والانتماء المغاربي. كانت اللغة العربية لغة التعليم والإدارة والقضاء، إلى جانب استخدام اللهجات المحلية في العديد من المناطق، ضمن تنوع ثقافي متكامل لا متصارع. هذه الهوية المركبة كانت تُمارس يوميًا في الحياة العامة، وهي التي سعت فرنسا لاحقًا إلى طمسها ومحو معالمها.
من هنا، فإن دلالة تصريح السفير الفرنسي تنقلب على ذاتها: حين يقول إنهم «دمروا كل شيء»، فإنما يعترف بأن هناك كيانًا حيًا كان قائمًا قبل فعل التدمير. وبلغة القانون الدولي، هذا التصريح يُعد إقرارًا بأن فرنسا لم تحتل أرضًا بلا سيادة، بل قامت بإزاحة دولة قائمة، وتفكيك مجتمع منظم، لصالح مشروع احتلالي استيطاني أُقيم بالقوة.
وهكذا يتهاوى الخطاب الفرنسي الذي لطالما زعم أن الجزائر لم تكن دولة، وأنها كانت «برية» متناحرة، وأن الاحتلال جاء لينقلها من التخلف إلى التحضر. بل إن تصريح أرو نفسه يُفنّد هذه الدعاوى: فهو لا يتحدث عن إنشاء دولة من الصفر، بل عن هدم ممنهج لكيان موجود، وإعادة تركيبه وفق منطق احتلالي صرف.
يتضح إذًا أن هذا التصريح يُمثل اعترافًا موثقًا بأن الجزائر كانت أمة ذات كيان قبل الاحتلال، وأن ما قامت به فرنسا لم يكن مشروع بناء أو تحديث، بل تدمير شامل لبُنى قائمة واستبدالها بهيكل احتلالي قسري. وبذلك، لا يمكن اعتبار ما وقع مجرد «تدخل أجنبي»، بل هو انقلاب حضاري خطير، يجب أن يُدرج اليوم في خانة الجرائم الاستعمارية الكبرى التي تستوجب الاعتراف والمساءلة.
يتبع في العدد القادم
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر