كيف تساعد غوغل إسرائيل في حربها ؟

د. محمود الحنفي حين تتحول منصات التكنولوجيا إلى أدوات دعائية في نزاعات دامية، يتقدم السؤال الأخلاقي على كل ما عداه: هل يجوز لشركة بحجم غوغل أن تُسخّر لتلميع حكومة متهمة بالإبادة الجماعية؟ هذا ما فجره عقد دعائي ضخم بقيمة 45 مليون دولار مع حكومة الاحتلال في جوان 2025، ليكشف هشاشة شعارات الحياد والمسؤولية أمام ضغط …

سبتمبر 24, 2025 - 18:46
 0
كيف تساعد غوغل إسرائيل في حربها ؟

د. محمود الحنفي

حين تتحول منصات التكنولوجيا إلى أدوات دعائية في نزاعات دامية، يتقدم السؤال الأخلاقي على كل ما عداه: هل يجوز لشركة بحجم غوغل أن تُسخّر لتلميع حكومة متهمة بالإبادة الجماعية؟
هذا ما فجره عقد دعائي ضخم بقيمة 45 مليون دولار مع حكومة الاحتلال في جوان 2025، ليكشف هشاشة شعارات الحياد والمسؤولية أمام ضغط المال والسياسة.
ومن هنا يناقش المقال خلفيات العقد وتفاصيله، دوافع غوغل وتناقضها مع سياساتها المعلنة، ومدى نجاح الحملة الإسرائيلية في حرب السرديات.
كما يتناول الأبعاد الأخلاقية لمسؤولية الشركات الكبرى ويقارنها بسوابق مشابهة، ثم يضع الصفقة في إطار السياسة التوسعية الاستعمارية التي لطالما سعت إسرائيل إلى ترويجها عبر أدوات التكنولوجيا والدعاية.

أولا: تفاصيل العقد الدعائي بين حكومة الاحتلال وغوغل

في جوان 2025 وقّعت وحدة الإعلانات الحكومية الإسرائيلية (لاپام) عقدا مع غوغل بقيمة 45 مليون دولار لستة أشهر، لتكون الشركة “جهة رئيسية” في إستراتيجية الإعلام لرئيس الوزراء.
ارتكزت الحملة على منصتي يوتيوب و‪Display & Video 360‬، وصُنّفت رسميا كـ”هسباراه”؛ أي دعاية حكومية تستهدف تبرير السياسات الإسرائيلية، ونفي الاتهامات الدولية.‬
كان الهدف المعلن تعزيز رسائل الحكومة والتقليل من شأن الأزمة الإنسانية في غزة. وبالتوازي مع تشديد الحصار في مارس/آذار 2025، أُطلقت إعلانات تنكر وجود المجاعة، وتؤكد “وفرة الطعام”، أبرزها مقطع رسمي حصد ملايين المشاهدات بدعم غوغل.
تولت لأپام التنفيذ بإشراف مباشر من مكتب رئيس الوزراء، واعتبرت غوغل إلى جانب منصة إكس من الجهات الرئيسية التي تمتلك البنية التحتية لتنفيذ الحملة. شمل ذلك إنتاج مواد إعلامية متعددة اللغات وتوظيف خيارات الاستهداف الإعلاني للوصول إلى جمهور عالمي، إلى جانب الاستعانة بمؤثرين أميركيين للترويج لرواية “المعونات” بدل “التجويع”.
التحقيقات الاستقصائية أكدت أن العقد وصف الحملة صراحة بالدعاية، وأن المحتوى تضمّن نفيا للمجاعة وهجمات على منظمات إنسانية كالأونروا، مع الترويج لكيانات بديلة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة. كما كشفت عن إنفاق موازنات إضافية على منصات أخرى، ما جعل الحملة واسعة النطاق.
في المقابل، أعلنت الأمم المتحدة بحلول أغسطس/آب 2025 حالة مجاعة في أجزاء من غزة، مؤكدة أنها من صنع الإنسان، وسُجّلت مئات الوفيات بسبب الجوع وسوء التغذية، لتغدو الإعلانات الممولة عبر غوغل نموذجا صارخا للتضليل الإعلامي المناقض للواقع.

دوافع غوغل ومدى اتساقها مع سياساتها

قرار غوغل بقبول صفقة دعائية قيمتها 45 مليون دولار لصالح حكومة الاحتلال، يثير تساؤلات جوهرية حول دوافعها ومدى انسجامها مع سياساتها المعلنة.
فالشركة التي تدّعي التزامها بعدم التربح من الكراهية أو التضليل، سمحت بمرور حملة تنكر مجاعة موثقة أمميا. هذا يعكس إما تغليبا للربح والاعتبارات السياسية على المبادئ، أو غضَّ طرف متعمّدا عن مضمون الرسائل، مقابل صفقة مع دولة حليفة للغرب.
والمفارقة أن المبلغ، وإن بدا ضخما، يظل زهيدا لشركة تجني عشرات المليارات سنويا، ما يجعل المخاطرة بسمعتها أكثر إثارة للاستغراب.
سياسات غوغل الإعلانية تنص على حظر المعلومات المضللة الضارة، لكن التطبيق يختلف عندما يتعلق الأمر بخطاب سياسي صادر عن حكومة رسمية.
فالتصريحات الإسرائيلية التي أنكرت وجود مجاعة لم تُعامل كخداع صريح، بل كخطاب سياسي “قابل للتأويل”. هذا القصور سمح للدعاية الحكومية بالمرور، رغم تناقضها مع تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة.
ويبدو أن غوغل كانت على علم تام بطبيعة الحملة، فالعقد نفسه وصفها بدعم “رسائل رئيس الوزراء”، كما أن الانتقادات الحقوقية والاتهامات الأممية وصلت إلى الشركة. بل إن أحد مؤسسيها ذهب إلى حد اتهام الأمم المتحدة بـ”معاداة السامية”، في إشارة إلى انحياز ضمني لرواية إسرائيل على حساب النقد الحقوقي.
الأخطر أن ذلك يكشف تناقضا صارخا مع قيم غوغل المعلنة. فهي انسحبت سابقا من مشروع ‪Maven‬ العسكري مع البنتاغون بعد احتجاج موظفيها على استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستهداف العسكري، وأكدت حينها أنها ترفض “الاشتغال بالحرب”.‬
واليوم، سمحت لمنصاتها بأن تكون أداة لتبييض حصار وتجويع موثق أمميا، وهو ما وصفته منظمات حقوقية بأنه “تواطؤ مشين أخلاقيا”.
هذا التناقض يعزز صورة غوغل كشركة تسوّق نفسها كحامية للمعرفة، لكنها عمليا لا تتردد في الانخراط في الدعاية إذا كان العميل حكومة قوية.
إن دوافعها في هذه الصفقة تبدو خليطا من براغماتية تجارية وضغوط سياسية تغلبت على مبادئها المعلنة، لكنها بذلك وضعت نفسها في قلب جدل أخلاقي عالمي، ورسخت صورة مربكة عنها: فهي ليست مجرد وسيط تقني بل هي طرف مباشر في تزييف الوعي. وهكذا تحوّل ما اعتُبر ربحا قصير الأمد إلى عبء ثقيل على سمعة شركة سوّقت نفسها طويلا كمنصة محايدة وموثوقة.

ثالثا: هل مع هذا العقد تربح إسرائيل الحرب الإعلامية؟

أحد الأسئلة المحورية هو ما إذا كانت الحملة الدعائية قد حققت أهدافها الإعلامية، أم أن اضطرار إسرائيل لصرف عشرات الملايين على الدعاية ليس إلا دليلا على خسارتها “الحرب الإعلامية” حول رواية الصراع.
فالدافع وراء إطلاق حملة هجومية بهذا الحجم كان تصاعد الإدانات العالمية والشعبية خلال الحرب على غزة بين 2023 و2025؛ إذ تناقلت الشاشات ومنصات التواصل صور الدمار وضحايا الغارات والحصار، فوضعت الحكومة الإسرائيلية في موقع حرج على نطاق واسع.
حتى بعض مسؤوليها ومناصريها أقروا بأن سمعتها الدولية في أدنى مستوياتها، ورئيس الوزراء نفسه اعترف بأن إسرائيل “تخسر الحرب الإعلامية”، وإن حاول التخفيف بالقول إن النصر في الميدان سيجلب معه النصر في الصورة.

هذا الإقرار يكشف إدراك صناع القرار الإسرائيليين فقدانهم زمام السردية العالمية، واضطرارهم إلى ضخ أموال هائلة في الإعلام كرهان متأخر على تغيير اتجاه الرأي العام.
لكن نتائج الحملة لم تكن كما توقّعوا. فمحاولة نفي المجاعة قوبلت بسخرية وتكذيب من الصحفيين والمنظمات الإنسانية، بل إن بعض مسؤولي الأمم المتحدة اتهموا إسرائيل علنا بشراء إعلانات غوغل لحجب التبرعات عن الأونروا عبر تشويه صورتها، معتبرين ذلك حرب معلومات تهدد حياة الموظفين.
هذه الاتهامات تحولت إلى مادة إعلامية بحد ذاتها، فبدلا من أن تُخفي الحملة التضليل، سلّطت الأضواء عليه. كما أن شفافية الإعلانات على غوغل ومنصات التواصل مكّنت الصحفيين من تتبع مصادرها وكشف الجهات الإسرائيلية التي وقفت وراءها، ما أفشل عنصر التخفي أو “القناع الإنساني” الذي حاولت الحملة ارتداءه.
تزامن ذلك مع حراك شعبي عالمي غير مسبوق داعم للمدنيين في غزة؛ ملايين المتظاهرين خرجوا في عواصم ومدن كبرى منددين بالعدوان وطالبوا حكوماتهم بالتحرك. الانتشار الواسع لمشاهد المعاناة عبر التواصل الاجتماعي شكّل جدار صدّ قويا أمام الدعاية المدفوعة، فحتى لو وصلت رسائل إسرائيل إلى ملايين عبر إعلانات غوغل ويوتيوب، واجهتها مليارات الانطباعات على المحتوى الشعبي المناصر لغزة مجانا.
لقد لعبت قوة الصور والتجارب الميدانية المتداولة بين الناس دورا أكبر في تشكيل الوعي العام من أي حملة منظمة.
ومع ذلك، لم تكن الحملة بلا أثر تماما. فقد وجدت صدى محدودا لدى بعض الشرائح الغربية التي ما زالت تتأثر بخطاب “تكذيب الرواية الفلسطينية”، خاصة حين يأتي عبر قنوات رسمية.
كما أن بعض وسائل الإعلام التقليدية تلقفت أجزاء من الرسائل وروّجتها دون تمحيص. وعلى الصعيد الداخلي، قدّمت الحملة جرعة طمأنة للمجتمع الإسرائيلي نفسه، باعتبارها دليلا على أن الحكومة “تشرح الموقف” للعالم، وهو ما رفع المعنويات المحلية.
بل ويمكن أن تُستغل لاحقا في مرافعات قانونية، عبر الادعاء بأن إسرائيل لم تستخدم التجويع عمدا، حتى لو ظل العالم الخارجي متشككا.
غير أن الصورة الأوسع تبقى واضحة: إسرائيل لم تنجح في كسب المعركة الإعلامية رغم إنفاقها الكبير. ففي الولايات المتحدة نفسها- الحليف الأوثق- أظهرت استطلاعات الرأي تغيرا تدريجيا، خاصة بين الشباب، نحو انتقاد أفعالها في غزة.
بل إن مشاهد الاعتداء على متظاهرين موالين لفلسطين في مدن أميركية ولّدت تعاطفا إضافيا مع القضية الفلسطينية. بذلك يتأكد أن الضرر الذي لحق بصورة إسرائيل تجاوز ما يمكن لحملة إعلانية أن تعالجه، وأن صفقة غوغل تحولت إلى شاهد على أزمة إسرائيل الدعائية بدل أن تكون مخرجا منها.

البعد الأخلاقي ومسؤولية الشركات الكبرى

يثير عقد غوغل مع إسرائيل إشكالية جوهرية: هل يجوز لشركة عالمية التعامل تجاريا مع حكومة متهمة بجرائم حرب وإبادة جماعية؟ تجويع المدنيين والقصف العشوائي محظوران في القانون الدولي الإنساني، والتعاون مع طرف متهم بذلك يطرح شبهة التواطؤ. وفق المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال وحقوق الإنسان، على الشركات واجب احترام الحقوق وإجراء العناية الواجبة لتفادي الإسهام في الانتهاكات، وهو ما تجاهلته غوغل.
كما أن تعاملها ينسف ادعاء الحياد السياسي ويكشف انحيازا مدفوع الأجر، خصوصا إذا استبعدنا احتمال قبولها بحملة فلسطينية مضادة. في عصر يرفع شعار الاستثمار المسؤول ومعايير البيئة، والحوكمة، قد تواجه غوغل مقاطعة مستثمرين وضغطا حقوقيا يذكر بمواقف الشركات التي انسحبت من أنظمة قمعية كجنوب أفريقيا.
إن السمعة، رأس مال الشركات الأهم، قد تكون الخسارة الكبرى لغوغل، لتظل هذه الصفقة شاهدا على تعارض المصالح بين السوق والضمير.

مقارنات مع حالات مشابهة

ليست أزمة غوغل مع إسرائيل حالة معزولة، بل تندرج ضمن سلسلة سوابق أظهرت كيف تتورط شركات التكنولوجيا الكبرى في صفقات ذات أبعاد أخلاقية خطيرة.
فضيحة فيسبوك- كامبردج أناليتيكا (2018) أبرزت كيف يقوّض سوء استخدام البيانات والإعلانات الموجهة، الديمقراطية، وانتهت بغرامة قياسية وإدانة أخلاقية.
أما تيك توك فواجه شبهات دعاية وتجسس دفعت الولايات المتحدة إلى التلويح بحظره، في حين اضطرت غوغل نفسها عام 2018 إلى الانسحاب من مشروع ‪Maven‬ مع البنتاغون بعد ضغط آلاف الموظفين الرافضين لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الاستهداف العسكري.‬
كذلك، تعرضت أمازون لانتقادات لاذعة بسبب تعاونها مع وكالة ‪ICE‬ الأميركية للهجرة والجمارك في سياسات اعتُبرت منتهِكة لحقوق اللاجئين.‬
هذه الأمثلة تبيّن أن العقوبات قد تأتي من جهات تنظيمية (كامبردج أناليتيكا)، أو من الدول (تيك توك)، أو من ضغط الموظفين والمجتمع المدني (‪Maven‬) و(‪ICE‬).‬‬
وبالنسبة لغوغل، فهي تواجه اليوم مزيجا من كل هذه الضغوط في ظل صفقتها مع إسرائيل يتمثل في: غضب شعبي عالمي، مخاطر قانونية محتملة، وضغوط داخلية متوقعة.
الأخطر أن سمعتها في العالم العربي والإسلامي، كسوق ضخم، قد تتعرض لضرر يصعب إصلاحه، ما يجعل إعادة تقييم الصفقة ضرورة لتجنّب مصير مشابه لما واجهته الشركات الأخرى حين تجاهلت البعد الأخلاقي ثم دفعت الثمن.

تحالفات إسرائيل مع شركات التكنولوجيا والدعاية

على مدى السنوات الأخيرة، أقامت إسرائيل شبكة واسعة من التحالفات مع شركات التكنولوجيا والدعاية لتلميع صورتها عالميا. أبرزها مشروع “‪Nimbus‬” مع غوغل وأمازون للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، الذي أثار احتجاجات موظفين خشية توظيفه في ممارسات قمعية.‬
كما استعانت إسرائيل بشركات علاقات عامة ولوبي في واشنطن، بعضها بواجهات سرية للالتفاف على قانون ‪FARA‬ (قانون أميركي يفرض تسجيل أي جهة تعمل لصالح حكومة أو طرف أجنبي، بهدف الشفافية وكشف أنشطة الضغط والدعاية)، وأخرى مسجلة رسميا لتنسيق المحتوى والتأثير الإعلامي.‬
وإلى جانب ذلك، مارست ضغوطا مباشرة على منصات مثل فيسبوك وتويتر لحذف المحتوى المناهض لها، في تبادل نفوذ سياسي أكثر منه عقدا ماليا. وفي ساحة الإعلام الشعبي، جرى تجنيد مؤثرين من إنستغرام وتيك توك لنشر رواية “المعونات الإنسانية” بدل “التجويع”.
هذه التحالفات، المعلنة والخفية، تجعل صفقة غوغل الأخيرة امتدادا طبيعيا لإستراتيجية إسرائيلية مستمرة، لكنها تُكشف في كل مرة تحت مجهر الرأي العام العالمي. فهل تستطيع إسرائيل شراء الرواية، أم إن الحقائق الميدانية ستظل أقوى من الدعاية مهما اتسع نطاقها؟

السمعة أثمن من المال: هل تخسرها غوغل؟
منذ انكشاف عقد الدعاية بين إسرائيل وغوغل بقيمة 45 مليون دولار، برزت تساؤلات حول مصيره: أَستكمله الشركة حتى نهايته، أم تتراجع تحت ضغط الرأي العام والحقوقيين؟
حتى سبتمبر 2025 التزمت غوغل الصمت، مكتفية بعبارات عامة عن “سياسات الإعلانات”، فيما اعتبر منتقدوها أن استمرار الحملة يجعلها متواطئة مع التغطية على المجاعة في غزة. في المقابل، تصاعدت الاحتجاجات أمام مكاتبها وتكاثرت الدعوات الحقوقية لإلغاء الصفقة، مع بوادر اتساع المقاطعة الشعبية خاصة في العالمين العربي والإسلامي.
قانونيا، لم تُرفع دعاوى مباشرة، لكن احتمالات المساءلة قائمة عبر المساهمين أو آليات منظمة التعاون الاقتصادي أو حتى جلسات استماع في الكونغرس، فضلا عن نقاشات دولية حول مسؤولية الشركات في النزاعات، على غرار محاكمات الإعلام في رواندا.
والمفارقة أن انكشاف الصفقة جاء من سجل الشفافية الإعلانية الخاص بغوغل نفسها، ما جعل أداة الشفافية تتحول إلى أداة إدانة. في النهاية، يبقى مصير العقد رهينا بمدى تصاعد الضغوط، التي قد تدفع غوغل للتراجع، لتظل القضية مثالا صارخا على تقاطع الربح مع الأخلاق في زمن الحروب.