من ويستفاليا إلى الترامبية
وليد عبد الحي/ رغم قِدم مفهوم الدولة ومفهوم القومية، فإنّ المعنى المعاصر لهذا الاتحاد بين المفهومين في القرن السابع عشر مع معاهدة ويستفاليا، قام على أساس الربط بين الجغرافيا السياسية وبين الروابط الآلية (الإثنية)، وأصبح الحيز الجغرافي وعاء «ملكية عامة» لمجموعة محددة اثنوغرافيا، ونظرا لهامشية الترابط بين هذه الوحدات التي تسمى الدولة فإنّ إعادة النّظر …

وليد عبد الحي/
رغم قِدم مفهوم الدولة ومفهوم القومية، فإنّ المعنى المعاصر لهذا الاتحاد بين المفهومين في القرن السابع عشر مع معاهدة ويستفاليا، قام على أساس الربط بين الجغرافيا السياسية وبين الروابط الآلية (الإثنية)، وأصبح الحيز الجغرافي وعاء «ملكية عامة» لمجموعة محددة اثنوغرافيا، ونظرا لهامشية الترابط بين هذه الوحدات التي تسمى الدولة فإنّ إعادة النّظر في أسس الدولة القومية لم تتم بشكل دلالي بل بقي مستقرا لفترة طويلة، ولكن التطور التكنولوجي عبر شبكات الاتصالات والمواصلات خلخل هذا المفهوم، وفتح المجال للمفكرين لطرح مفهوم جديد يصف الحالة الجديدة (فالرجل يكون عازبا وهو بمفرده، وما أن يعقد قرانه يصبح زوجا)، وهنا تم طرح مفهوم العولمة للمرة الأولى عام 1944م ولكن منطويا على دلالة ثقافية بشكل رئيسي، لكنه لم يطرح كمفهوم آيديولوجي إلاّ عام 1961 في قاموس ويبستر.
ومنذ بداية الستينات إلى الآن، تضاعفت شبكة الترابط بين «الوحدات القومية» بسبب شبكات الترابط التكنولوجي والثقافي والسياسي والأمني والتجاري والعلمي والبيئي، لكن هذا الترابط حمل معه سمتين هما التسارع في نسج شبكات الترابط من ناحية والإحلال الهادئ للروابط العضوية على حساب الروابط الآلية، وهو ما يعني نخر خلايا الدولة القومية بالاختراق الهادئ أحيانا والقسري أحيانا أخرى.
ولما كان القانون التطوري يفترض المحصلة بالمركب الهيجلي، فإنّ إنشاء التنظيمات الإقليمية والدوليّة العابرة للجغرافيا «القومية» يحمل في ثناياه بعضا من شظايا الدولة القومية بخاصة الأكثر معاندة كالعرق واللغة والدين من ناحية ومظاهر التحلل من هذه الشظايا عبر شبكات الترابط العابرة للمضمون السوسيولوجي للدولة من ناحية مقابلة.
وفجأة يُطلّ علينا ترامب للمرة الثانية بمحاولة «إحياء المنظور القومي» بالعمل على تكييف آليات الترابط الدولي لصالح الولايات المتحدة، وكان ترامب قد أخذ هذا الاتجاه ذاته مع الصين عام 2018، ولا يريد ترامب إدراك أنّ العالم لم يعد قابعا مع رئيس الوزراء الفرنسي «جول ميلين»(Jules Me’line) عام 1892، أو 1930 مع الرئيس الأمريكي هوفر أو في مرحلة حرب الدجاج زمن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون في ستينات القرن الماضي وغيرها كثير (كندا عام 1982 ومع اليابان 1987 وأمريكا اللاتينية مع أوروبا 2002).
إنّ تسارع مؤشرات العولمة هي الظاهرة الأكثر دلالة، ويكفي أن نشير إلى أنّ تدفق المعلومات(العولمة الثقافية) يتضاعف كل عامين، وانتقال عدد المهاجرين من مجتمع لآخر يتضاعف كل عشر سنوات، وحجم الصادرات يتزايد بوتيرة تصل إلى 1% كل 3 سنوات، وتتزايد التجارة الالكترونية بمعدل 3% تقريبًا كلّ عام…. وهو ما ينطبق على تدفق الاستثمارات والتحويلات الماليّة.الخ.
لكن ذلك لا ينفي أنّ هناك معوقات لمسار العولمة مثل :السياسات الحمائية كما يفعل ترامب، والنزعة الإقليمية للترابط على حساب العولمة، ووقوع الكوارث الطبيعية والمناخية والأمراض(الكورونا)..الخ.
ماذا يعني ذلك؟
إنّ الحكم على الظواهر التاريخية يحتاج للتركيز على الاتجاه الأعظم (Mega trend)، وكل محاولات اعتراضه تنتهي للفشل رغم أنّها قد تبطئ حركته بعض الشيء وهو ما يعني أنّ الاحتكام للاتجاه الأعظم ليس في مصلحة مشروع ترامب، بل إنّ «الرعونة» التي يفرضها على مسار العلاقات الدولية من جانبها المعولم يشير إلى أنّ نتائجها قد تكون مجدية لمدى قصير لكنها ستكون على حساب إما ترامب نفسه أو اقتصاده القومي على المدى المتوسط والطويل.
ويميل أغلب الخبراء الاقتصاديين إلى أنّ نتائج سياسات ترامب ستتراوح بين الفشل والنتائج المتواضعة، بل إنّ أغلب أعضاء الكونجرس من الجمهوريين يتخوفون من أثر سياسات ترامب على احتمالات فوزهم خلال الانتخابات النصفية القادمة، ويعتقد 62% من الجمهوريين بأنّ سياسات ترامب ستقود إلى ارتفاع الأسعار (رغم أنّ بعض شعارات ترامب في الحملة الانتخابية كان تخفيض الأسعار).
وترتبط سياسة ترامب في هذا الجانب بموضوع حجم العجز التجاري الأمريكي الذي يشكّل مصدر قلق للاقتصاديين الأمريكيين إلى جانب عدم التوازن بين التوفير والاستثمار من ناحية وبين الإنفاق الحكومي والريع الضريبي من ناحية ثانية، إذ يرى هؤلاء بأنّ الدول ذات الفوائض التجارية الكبيرة -وخاصة الصين وألمانيا – تُسبب البطالة داخل الدول التي تعاني من العجز وعلى رأسها الولايات المتحدة والتي بلغ عجزها مع نهاية 2024 ما يساوي 918 مليار دولار أي ما يساوي 5.5 % من إجمالي الناتج المحلي، فالدول صاحبة الفائض التجاري –كالصين – تُوظف العمال لإنتاج سلع «فائضة» تتجاوز ما تستطيع أو ترغب في استهلاكه بنفسها، بينما تستورد الدول التي تعاني من العجز سلعًا كان من الممكن إنتاجها محليًا، ممّا يُوفر فرص عمل محليّة. وسواءً أكانت هذه مشكلة اقتصادية حقيقية أم لا، فقد أصبحت بالتأكيد قضية سياسية، ومن المفترض أن تهدف تعريفات ترامب الجمركية إلى معالجة هذا القلق، بهدف تحقيق التوازن التجاري، لكن ذلك ليس بالبساطة التي يفترضها ترامب، ويكفي ملاحظة أنّ سياسة ترامب في فترته الأولى عرفت ارتفاعا في العجز التجاري من 503 مليار دولار عام 2016 إلى 578 مليار دولار مع نهاية فترته رغم أنّه استخدم نفس السياسة مع الصين بشكل خاص، فإذا علمنا أنّ الصين رفعت الجمارك الآن على السلع الأمريكية بمعدل 34% فان الحرب التجارية مع الصين ستجر معها الكثير من المشكلات للاقتصاد الأمريكي فإذا أضفنا لذلك ردة الفعل الأوروبية على سياسات ترامب الجمركية والدفاعية فإنّ ترامب يقود بلاده نحو الإعصار.
إنّ عولمة الانتاج (عبر الشركات متعددة الجنسية وغيرها) جعل السيطرة على قطاع العمالة وحركة السلع ليست باليسر الذي كان في الماضي، وهو ما سيجعل مشروعات ترامب لا تجد قبولا حتى من بعض رأسمال الأمريكي كما أنّ اتساع الهوة في مؤشر عدالة توزيع الثروة في المجتمع الأمريكي سيتسع في ظلّ كبح ليبرالية التجارة، ومعلوم ان مؤشر غيني الأمريكي هو الأسوا بين الدول الصناعية الغربية، كما أنّه في فترة ترامب الأولى ارتفع خلال الثلاث سنوات الأولى من 41.1% الى 41.2 الى 41.8 ليعود مع نهاية سنته الأخيرة (التي ترافقت مع الكورونا) إلى 39.7%، ثمّ عاد للارتفاع مجددًا ليصل مع عام 2023 حوالي 48.5%، وهو ما يعني أنّ الاقتصاد الأمريكي يعاني مشكلة هيكلية أعمق مما يتصور ترامب وفريقه.
إنّ سياسة الاستعداء الترامبية لأغلب حلفاء الولايات المتحدة اقتصاديا(عبر الجمارك) ودفاعيا (عبر الضغط لزيادة إنفاقهم في أعباء الناتو) وجيوسياسيا (عبر الضغط على أوكرانيا) واستعداء الجوار القريب (كندا وأمريكا اللاتينية) ومناطحة خصمه التقليدي(الصين) وانحيازه المُبْهم لروسيا، تقودنا مجتمعة للإقرار بأنّ تقرير علماء النفس الأمريكيين ال 37 حول شخصية ترامب كان على قدر كبير من الدقة بالقول بأنّه من العسر التنبؤ بسلوكه (Unpredictable، كما أنّ هواجس المحقق الأمريكي مولر بخصوص العلاقة المريبة مع روسيا جعلته يقول: بأنّ ترامب و»إن لم نجد دليل اتهام عليه، فإنّنا لم نجد دليل براءة له».