نحن أمام الطوفان …..ثلاثة
د.عبدالقادر بوعقادة/ تأتي على الإنسانية أحداث فارقة لتنتقل بها من واقع لآخر، فتتغيّر من خلالها ملامح البشرية، وتعيد تشكيل نفسها وأجوائها إلى حال غير الحال السابق، وهي إرادة إلهية وسنة كونية تسايرت مع البشرية منذ بدء الخليقة، لتبقى – هذه السُنة- قائمة لا تتغير وفاعلة غير خامدة، يستثمرها النابه باقتدار، وقد يمر عليها الغافل دون …

د.عبدالقادر بوعقادة/
تأتي على الإنسانية أحداث فارقة لتنتقل بها من واقع لآخر، فتتغيّر من خلالها ملامح البشرية، وتعيد تشكيل نفسها وأجوائها إلى حال غير الحال السابق، وهي إرادة إلهية وسنة كونية تسايرت مع البشرية منذ بدء الخليقة، لتبقى – هذه السُنة- قائمة لا تتغير وفاعلة غير خامدة، يستثمرها النابه باقتدار، وقد يمر عليها الغافل دون اعتبار. في هذا الإطار يأتي طوفان الأقصى المبارك ليزن الواقع العربي الإسلامي بميزان يعبر عن مدى اليقظة والوعي والتلاحم والإحساس بالذات، فضلا عن أنّه جاء ليعيد بعث المسألة الفلسطينية فيضعها في اتجاه آخر غير الاتجاه السابق الموصوف بالسعي إلى استرجاع الحقوق بالمطالبة السياسية إلى واقع جديد قائم على المغالبة العسكرية، والانتقال من وضع المدافع إلى وضع المقاوم المهاجم المبادر. سنتان عن انطلاق طوفان الأقصى وانتقال حركة المقاومة من حالة الصبر والتحضير إلى حالة التحرك والتحرير. وقد عمد المقاومون إلى تسميته بالطوفان لما سيكون له من آثار وتغيرات تيمنا بالطوفان الأول زمن النبي «نوح عليه السلام أبي البشرية الثاني بعد سيدنا آدم» والمعروف تأثيره على المخلوقات البشرية وغير البشرية.
ودون الحديث عن دوافع وسيرورة طوفان الأقصى أو التأمل في نتائجه وتأثيراته، سنتناول – عبر المقال- مواقف المسلمين تجاه موسوم «الطوفان» دون الخوض في مواقف مجتمع غير المسلمين، فهؤلاء الأخيرين أبانوا عن إنسانية فاضلة حينما خرجوا في كل عواصم بلدانهم ينددون بالإبادة ويطالبون باستقلال فلسطين وحق شعبها في حياة رغدة. بل سنخوض في الموقف العربي الإسلامي ومدى ارتقائه إلى مستوى المؤازرة والوقوف إلى جانب إخوانهم بغزة وفلسطين، حيث ترتب عليه تباين المواقف من قبل الأفراد أو الجماعات وحتى أنظمة الدول، وقد أفرزت لنا ثلاث حالات وهي:
أولا: حالة القبول وموقف التأييد الذي تبناه جمهور إسلامي -عربي وأعجمي- بناء على صورة اليأس من المطالبة السياسية، وفشل المؤتمرات الدولية التي أدخلت المسألة الفلسطينية دهاليز المؤتمرات والاتفاقيات دون تنفيذ او نتيجة واضحة، بل زادت من عمق المعاناة. وهو الفريق الغالب على الرأي العام الإسلامي، ونسبته معتبرة. فقد انتفض أصحاب هذا الموقف للمساندة من القول إلى الفعل، وأذاعوا مواقفهم من خلال بيانات وندوات وتجمعات واتصالات بلغت حد الضغط على دولهم لتحريك القضية على مستوى هيئات الأمم المعروفة، ليتطور إلى جمع المال والمعونات للمقهورين بغزة، وهنا تأتي جمعيات وطنية ببلادنا كجمعية البركة وجمعية العلماء المسلمين وجمعية الارشاد وغيرها كالهيئات انتظمت لإيصال تبرعات الناس نقدا وعينا إلى غزة.
ثانيا : حالة الرفض الصريح للطوفان والتحذير من الانسياق وراءه، باعتباره مغامرة غير محسوبة، تكلف الأرواح وتدمر الديار، وهو موقف تبنته عدد من الأنظمة الإسلامية وبعض النخب القريبة منها، ويسميهم البعض بالمخذلين، وللأسف أن نجد من بين هؤلاء فئة تحمل شارة الإسلام، وتظهر ولاءها للديان، ولكن كل تصاريحهم ضد الفاعلين في الطوفان، ومواقفهم سرا وفي الإعلان تضرب سلبا في عمق المعاناة بعيدة عن الواقع المتعاطف مع أهل الطوفان، مسايرين في ذلك طرح بعض الأنظمة – دول الطوق خصوصا- في التضييق على الطوفان بغلق المعابر وتكميم أفواه الأحرار على المنابر، وتأييد حلول تصب في غايات الكيان الغادر، وتكرّس سيطرة الصهاينة في الميدان، وإلى جانب هؤلاء جزء من قطاع الإعلام – السلطة الرابعة- المتغافل عن تغطية الوقائع، والمكرس لأسلوب تلهية الرأي العام بالتفاهات وصرف نظره عمّا يدور هناك حيث الطوفان والمعاناة.
ثالثا: وهو حال فئة من عامة الناس، الذين ألهتهم حاجاتهم، وغابت عنهم الغايات الشريفة، بحكم الأمية أو اللامبالاة الشخصية، أو بتوجيه من الفئة الثانية التي سبق الحديث عنها، وهي لا تتابع المجريات فضلا عن أن تتخذ موقف التأييد أو النصرة، وإنّه بسكوتها وعدم اهتمامها تكرس الحالة الثانية بامتياز في الوقوف ضد الطوفان.
إنّه أمام هذه المواقف والحالات المطروحة للنظر والتمحيص – باختصار- لا يسعنا إلا أن ندق ناقوس الخطر بخصوص مدى التلاحم والترابط بين أفراد وهيئات العالم العربي الإسلامي، وما مدى حضور الأواصر في الملامات وحين الأزمات؟ ومدى اعتبار المسلمين كجسد واحد يتداعى كله إذا تألم عضو منه، حيث قام الطوفان بتمحيص دقيق للنوايا والأفعال، فقدم توصيفا واضحا لحالة الوعي الجمعي الذي كان ولايزال دون المستوى الذي يظهر مدى الالتزام بالروح الإنسانية والمبادئ الإسلامية، بل قام بتعرية الجميع حينما أطلق صيحته من خلال المضطهدين هناك -من أمهات وأبناء ثكلى وجرحى لأجل النجدة والمساندة، فلم يجدوا ولو ردّ صدى. وعليه فقد بات علينا أن نراجع سريعا العديد من القيم البشرية الإنسانية العامة والمبادئ الإسلامية خاصة التي كانت سابقا حاضرة في وجدان الأمة وممارسة بين أفرادها وجماعاتها في الفترة الغابرة، ليأتي الطوفان فينبهنا إلى تلك القيم باتت من التاريخ، وأنّ مستلزمات الأخوة ضُربت بعرض الحائط، وإذا لم نسارع في لملمتها وتفعيلها فإنّ مصير الجميع في خطر. إنّه بقدر الخيبة التي أظهرها البعض خلال الطوفان، فإنّ هذا الأخير جاء ليقدم لنا الترمومتر الدقيق لوضعنا كإنسانية ولقيمتنا كمسلمين، ليكون بهذا خيرا على الأمة حتى تفعّل المراجعات، وتقوم من جديد لأجل النهضة والوحدة و الريادة .