آلاء النجار

أد. فضيلة تركي/ أثارت آلاء النجار جدلا نظرا لطبيعتها الصابرة المحتسبة في خضم سيادة وتغول نموذج جديد للمرأة، نموذج تتمركز اهتماماته حول الذات والجسد والمادة…، فكانت حقيقة مثار اعجاب للمسلمين والغرب على حد سواء. ودار حوار ساخن بين مؤيد ومعارض حول إمكانية الجمع بين القيام بوظائف الأمومة والعمل خارج البيت والحقيقة أن حالة آلاء تحتاج …

يونيو 30, 2025 - 13:58
 0
آلاء النجار

أد. فضيلة تركي/

أثارت آلاء النجار جدلا نظرا لطبيعتها الصابرة المحتسبة في خضم سيادة وتغول نموذج جديد للمرأة، نموذج تتمركز اهتماماته حول الذات والجسد والمادة…، فكانت حقيقة مثار اعجاب للمسلمين والغرب على حد سواء.
ودار حوار ساخن بين مؤيد ومعارض حول إمكانية الجمع بين القيام بوظائف الأمومة والعمل خارج البيت والحقيقة أن حالة آلاء تحتاج منا وقفة وتحليلا، فليس بالهين الجمع بينهما؛ إلا إذا سندتها ظروف اجتماعية خاصة ودعمتها، ففي الغرب قامت الدولة بدل الأم العاملة بوظيفة التربية وبناء الانسان من خلال رياض الأطفال والمدارس والنوادي…، فماذا عن غزة؟
وقصة آلاء النجار المرأة التي رُوعت في أبنائها وزوجها ليست ببعيدة عنا، وهي طبيبة متزوجة انجبت تسعة أولاد رغم عملها، وهي حافظة للقرآن وكذلك كبير أبنائها، فكيف تمكنت من القيام بوظائف الأمومة والعمل، وبلغة أخرى كيف تمكنت من الجمع بين وظائف الداخل والخارج؟ وما علاقة ذلك بالمجتمع الغزاوي الوليد الذي تشكلت فيه أسرتها؟ ثم إن آلاء شكلت نموذجا فريدا في الصبر والصمود أمام استشهاد أسرتها؛ فما علاقته بالنماذج الايمانية الضاربة في عمق التاريخ؟

الأسرة الغزية تقدم نموذجا مغايرا:
بعد الطوفان المبارك قدمت غزة نموذجا فريدا للإنسانية قاطبة، قدمت نموذجا جديدا للمرأة والأسرة مختلفا عن نموذج الغرب المتمثل في الفكر النسوي الذي نمَى في المرأة روح الفردانية والأنانية والمصلحة الذاتية على حساب الأسرة، فطغى مفهوم التمرد على الوظائف الأسرية، وترتب عليه توسع مفهوم الحرية على حساب الأسرة والمجتمع فأدى إلى التفكك الأسري والانحلال الاجتماعي.
وكذلك قدمت نموذجا مغايرا للنموذج الذي توارثناه من مراحل ضعف العالم الإسلامي، والذي بخس قيمة المرأة وأهانها وقتل فيها حس الكرامة والانسانية، فمدد مفهوم الطاعة في الأسرة ووسعه على حساب مفهوم الشورى، مما أدى لتوسع مفهوم الاستبداد على مستوى الأسرة والمجتمع.
عندما أتحدث عن المرأة الغزاوية فإنني أتحدث عن المجتمع النسوي في غزة، لأنه يوجد في كل أنحاء الدنيا نساء ملتزمات ومتمسكات بالدين ولكن كأفراد، فميزة تلك المدينة المعجزة أن أغلب نساءها رساليات بالمفهوم القرآني وجسدن القيم القرآنية في الواقع حتى أبهرن العالم والإنسانية جمعاء بنماذج نسوية كادت تختفي من الواقع، تشبه إلى حد بعيد قصص نساء خلد القرآن ذكرهن لتهتدي بها المرأة عبر رحلتها في التاريخ، وتكون ونماذجا لها في سعيها الدنيوي وكدحها نحو الله، {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق/6].
ففي مجتمعاتنا يوجد أفراد فيهم خيرية، لكن لا رابطة بينهم، كل منهم معزول عن الآخر لا يخدم بعضهم بعضا، في حين تتكامل جهود المجتمع الغزي بحيث يصل التعاون والاعتماد المتبادل بين أفراده وأسره إلى درجة يصبحون كالعضو في الجسد الواحد والذي تصب كل جهوده في بناء الانسان الرسالي المجاهد، إن الوصول إلى هذا المستوى من الالتحام الأسري سبقته عملية إصلاح عميقة تمكنت من تخلية وتحلية شقي الانسان من ذكر وأنثى، تخليتهما من الأفكار السلبية التي يحملها كل منهما تجاه الآخر، ومن روح التنافس والصراع…، وتحليتهما بالمعاني الايمانية الصادقة وبمعاني المودة والرحمة في الإطار الخاص على مستوى الأسرة، وبمعاني الولاء في الإطار العام على مستوى المجتمع مصداقا لقوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال/71].
بهذه المعاني يمكن أن نتحدث عن الأسرة في غزة، وبهذا البناء الايماني نتج التآنس بين الزوجين والتعاون والتواصي…، ومن ثم نشأ المجتمع الغزي الصغير ذو العلاقات المتينة والذي تترابط فيه أسره بعلاقات تعاون فيما بينها وتتكامل فتنبض الحياة، وتصبح مسألة التربية وغيرها من الوظائف الأخرى من الخدمات المتبادلة تمد المجتمع الوليد بأسباب البقاء والنمو والقوة.
هذا المجتمع الصغير المقاوم ذو العلاقات الاجتماعية المتينة القائمة على صدق الايمان والإيثار والتعاون؛ يذكرنا بمجتمع المدينة الذي شارك فيه الأنصار المهاجرين أموالهم وأزواجهم في صورة راقية تجسد بحق قوله تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال/63].
في هذا المجتمع المتكامل تشكلت أسرة آلاء وغيرها من الأسر الأخرى، وفي هذه الأجواء البعيدة عن التنافس والصراع المقيت بين الرجل والمرأة، أنجبت آلاء تسعة أقمار، ومن الواضح أن هذا العدد من الأطفال يحمل معاني الحرب الديموغرافية، فالفلسطينية قبل أن تقاوم ببناء الانسان تقاوم بالإنجاب، فهي ترابط على هذا الثغر، فبناء الانسان وتربية المجاهد لا يقل أهمية عن المقاومة والجهاد، بل المرابطة على هذا الثغر هو سر استمرار المقاومة ووقودها.
وطبيعة البناء الأسري والاجتماعي في غزة سهل على آلاء وغيرها من النساء الخروج للعمل في أجواء آمنة ومُطمْئنة على أطفالهن، وليس هذا فحسب بل تعاون زوجها الطبيب معها في التربية ورعاية الأطفال لإيمانه بغايات الوجود ووجوب التعاون بين الأزواج والتكامل في الداخل والخارج.
ومن هذا المنطلق ساعد زوجته “آلاء” لتخرج لضرورة حفظ النفوس، وخاصة في ظروف الحرب التي كان الاحتلال يستهدف فيها الكوادر الطبية، فكان لزاما تحرك آلاء وغيرها لإنقاذ الأرواح والمهج من القتل المتعمد والهمجي.
وتكمن خصوصية غزة في نموذج الأسرة الذي شكلته؛ كونه نموذجا مغايرا لما ساد العالم تقريبا، ولما يروج له في عالمنا الإسلامي من ضرورة تقليل عدد الأطفال حتى تتحقق جودة الحياة. وغالبا ما يرتبط تقليل عدد الأطفال بخروج المرأة للعمل وكذلك طول مسار المرأة الدراسي، فرسخ في الأذهان أن العاملة لا يمكنها أن تنجب عددا كبيرا من الأطفال، نظرا لمزاحمة الوظيفة خارج البيت كثرة الانجاب؛ وعليه لم تبق بيوتنا مملوءة بالأطفال كما كانت في السابق.
إلا أن آلاء النجار قلبت الآية فأنجبت تسعة أطفال ودرست الطب وتخصصت فيه، مما يدل على تحدي غزة النموذج الغربي في كل تفاصيله، ونحن كنساء نعلم جيدا صعوبة الانجاب والتربية في هذا الزمن، لكن الذي ساعد آلاء هو تماسك مجتمعها وتكامل الأسر في أداء الوظائف المختلفة ما مكنها وغيرها من أداء أدوارهن في الداخل والخارج.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الرجل في غزة يدرك أن وظيفة التربية ليست وظيفة المرأة فقط فهو يساهم فيها قدر المستطاع، وهذا ما بدا من عودة زوج آلاء للبيت بعد توصيلها للمستشفى، فالحياة الأسرية هناك مختلفة فعندما تكون الأهداف ربانية تقل الصراعات وتتحد الإرادات نحو بناء الانسان الذي يحقق العبودية.

آلاء النجار على خطى نساء القرآن:
عندما أفكر فيما يحدث في غزة وبالضبط ما تعانيه حرائرها، أتعجب وأتساءل عن الطينة التي عجنت بها هؤلاء النسوة وعن مصدر هذا الصبر والثبات الذي فاق قوة وثبات الجبال.
آلاء واحدة من خنساوات غزة، ضربت مثلا حيا للصبر والتصبر ودخلت التاريخ من بابه الواسع، وأصبحت نموذجا للأم الصابرة المحتسبة تُثبت كل بنات حواء في المنعطفات التاريخية الدامية التي تفرض على المرأة أن تضحي بأعز ما تملك لأجل رفع راية الإيمان أثناء تدافع الحق والباطل، تماما كما فعلت الخنساء عندما قدمت أبناءها الأربع فداء للدين، بعدما أمضت عمرها قبل أن تسلم تبكي أخويها وانتهى بها الجزع منتهاه، وسر هذا التغيير الجذري يشرحه ابن باديس بقوله: “أين أخوان من أربعة أبناء؟ وما ذلك الجزع عن ذينك وهذا الصبر عن هؤلاء؟ وما الذي قلب طباع هذه النفس من جزوعة مضطربة إلى مطمئنة راضية؟ هو -والله- الإسلام، الإسلام الصحيح كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- ديناً فطرياً، فأثر في فطر معتنقيه من العرب الأميين”1
وخلد لنا القرآن قصة آسيا زوج فرعون في مواجهة طغيان زوجها والباطل، فتلك المرأة التي كانت معلما من معالم الحق في تاريخ الإنسانية، ورمزا للصبر والجلد وتحمل الأذى في سبيل عقيدتها {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم/11] فالقرآن يصف طبيعة المرأة عندما تختار العبودية لله فتترك كل بهارج الدنيا وتواجه الترهيب والتعذيب بصبر وثبات.
هذا التغيير الذي يحدثه الإسلام إذا خالط بشاشة القلوب ومازج الروح فتتولد تلك النماذج الربانية دون تمييز بين الرجل والمرأة، وقد تمكنت الحركة الإسلامية في غزة من اعمال يد الإصلاح، وكونت نماذج أذهلت العالم الذي طغت عليه المادية والفردانية والاخلاد إلى الأرض.
وتروي لنا السنة النبوية قصة ماشطة بنت فرعون التي تتطابق مع صبر وجلد نساء غزة، وتتكرر قصة تحدي المرأة لأعتى الطواغيت رغم ضعفها، هذه الجرأة صنعها الايمان، فصبرت خنساوات غزة على مقتل واستشهاد أبنائهن وأزواجهن تماما كما صبرت الماشطة، ولا يعني هذا أنهن ناقصات أمومة، بل العكس فشفقة الأم فطرة مركوزة في حرائر غزة؛ ولكنه الايمان بالجهاد لتحرير الأوطان، والايمان بما أعده الله لعباده الصابرين والمجاهدين هو سر صمودهم ومقاومتهم.
جاء في المستدرك عن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم: “لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة؟ فقالوا: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبي؟ فقالت: لا، بل ربي وربك ورب أبيك، فقالت: أخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم. فأخبرته فدعا بها وبولدها فقالت: لي إليك حاجة. فقال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنه جميعا. فقال: ذلك لك علينا من الحق. فأتى بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيا مرضعا، فقال: اصبري يا أماه فإنك على الحق، ثم ألقيت مع ولدها “، قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم-“تكلم أربعة وهم صغار:” هذا وشاهد يوسف، وصاحب جريج وعيسى ابن مريم – عليه السلام –”.
قصة ماشطة بنت فرعون تروي لنا قصة الصراع بين الحق والباطل، ففرعون رمز الطغيان السياسي والاستبداد والظلم والإجرام واجهته امرأتان من قصره؛ فآسيا خلد ذكراها القرآن الكريم وذكرها في سياق الصراع بين الفكرة والصنم، وكانت رمز الصبر والثبات في المحطات الدامية في تاريخ التدافع بين الخير والشر، أما ماشطة بنت فرعون فخلدت ذكراها السنة النبوية الشريفة؛ وتتوافق في رمزيتها للصبر والتصبر مع ما جاء في حق آسيا بنت مزاحم، إلا أنها تختص بكون الماشطة كانت أما، والأمومة رمز الحب والعطاء والايثار، فهي عاطفة جياشة تتماهى مع معاني الحماية والتضحية لأجل الأبناء، ولكن الماشطة صبرت على استشهاد أولادها أمام عينيها، فحفظ التاريخ ذكرها وبقيت رمزا لتضحية الأم بأعز ما تملك في رحلة التدافع بين الخير والشر عبر الزمن، فالأمومة هي المحضن لصناعة المقاومة ورفدها بمدد لا ينضب ولا ينقطع ما دامت المرأة مؤمنة بفطرتها ورسالتها التي خلقت من أجلها.
واليوم خنساوات فلسطين يقتدين بالماشطة في الصبر والثبات والتضحية، بل أصبح الصبر جزءا من هوية المرأة الفلسطينية، فشعارها بعد مصيبة الفقد” حسبنا الله ونعم الوكيل” على سبيل الصبر والاصطبار، وسر هذا الصبر الأسطوري سنوات من التعبئة والبناء الايماني، والتغيير العميق الذي أبعد المرأة عن التمركز حول ذاتها وجسدها إلى التمركز حول معاني الصلاح والإصلاح والتمكين للمقاومة وتحرير الأوطان من وثن الاحتلال الغاشم، فتمركزت حول القيام بالواجبات وزهدت في الحقوق، بل زهدت حتى في ضروريات الحياة اليومية فصبرت على الجوع والمرض والموت.
إن صمود آلاء النجار بعد استشهاد زوجها وأبنائها وصبرها، جعلها مصدرا لإلهام الآخرين، بل مصدر إلهام للإنسانية، ونموذجا لكل نساء الدنيا تماما كما كانت ماشطة بنت فرعون، ففتحت عيون الإنسانية على حقائق وقيم غمرتها المادية الغربية بالتركيز على جسد المرأة، والتركيز على الأبعاد الجمالية الغرائزية على حساب الأبعاد الأخلاقية والإنسانية في المرأة، فأبعدت المرأة عن فطرتها وطمستها، فجاءت خنساوات الطوفان فأحيت معاني أهملتها الإنسانية من فرط تركيزها على الأبعاد الغرائزية، وأحيت معاني جمالية الأخلاق والقيم ومعاني الصبر والتضحية والحق والعدل.
وساهمت المرأة الغزية اليوم في إعادة تشكيل القيم العالمية من جديد، وإحياء قيم الفطرة التي طمرتها الحداثة والمادية من خلال إعادة تشكيل الرأي العالمي، فتضحياتها الجسام أعادت للإنسانية وعيها ورشدها، وفضحت زيف منظومة حقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل، وكشفت وجه الغرب القبيح، وأسقطت سردية الصهيونية المجرمة.

1 عبد الحميد ابن باديس، آثار ابن باديس، الشركة الجزائرية، الجزائر، 1388هـ/1968م ، 4/223