الشيخ الإمام العلَّامة «أبو بكر الجزائري»: قامة علمية إسلامية قل نظيرها!
أ.البدر فارس/ بإذن الله سبحانه وتعالى نبدأ هذا الأسبوع في تقديم هذه السلسلة الجديدة من روائع الشخصيات الإسلامية الفذة، في ركن «شخصيات إسلامية»، ونُحاول من خلاله تعريف القارئ الكريم بأجدادنا الأماجد الذين ضربوا أروع الأمثلة في الدعوة إلى الله عزّ وجل، فأيدوا دعوته، وناصروا شريعته، وبذلوا في سبيلها النفوس والنفائس، حيث تزكت حواسهم الفتية السليمة …

أ.البدر فارس/
بإذن الله سبحانه وتعالى نبدأ هذا الأسبوع في تقديم هذه السلسلة الجديدة من روائع الشخصيات الإسلامية الفذة، في ركن «شخصيات إسلامية»، ونُحاول من خلاله تعريف القارئ الكريم بأجدادنا الأماجد الذين ضربوا أروع الأمثلة في الدعوة إلى الله عزّ وجل، فأيدوا دعوته، وناصروا شريعته، وبذلوا في سبيلها النفوس والنفائس، حيث تزكت حواسهم الفتية السليمة بِنور الإيمان وروح الإسلام، فعمرت أشباحُهم بالأرواح الطاهرة المُتطلعة إلى ما عند الله، أكثر من تطلعها إلى زينة الحياة أو متاع الدنيا؛ ولقد لاقى كثير من هؤلاء مصارعهم في ميادين الجهاد والشهادة، وعيونهم قريرة بِمصيرهم، ونفوسهم سعيدة بشهادتهم: «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ» (آل عمران، 171).
ومن هؤلاء الشخصيات الإسلامية البارزة التي ضربت أروع الأمثلة في الدعوة إلى الله عزّ وجل، وتفانيهم في طلب العلم، وزهدهم في هذه الحياة الدنيا، والذين ارتأينا التعريف بهم، والذي يُمثل أحد كبار علماء الدين الذين عرفتهم الأمة الإسلامية، والذي أنجبته «الجزائر» العزيزة في العصر الحديث؛ الشيخ الإمام العلَّامة «أبو بكر الجزائري».
مولده ونشأته وطلبه للعلم
وُلد الشيخ الإمام «أبو بكر جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر الهلالي الجزائري» في قرية «ليوة» الواحة الزراعية في الجنوب الجزائري القريبة من «طولقة» الواقعة اليوم في ولاية «بسكرة»، وكان مولده عام 1342ه، المُوافق لسنة1921م، وتوفي والده في عامه الأول فنشأ يتيمًا في حجر أمه.
وكانت أسرته عمومًا مُهتمة بكتاب الله العزيز حفظًا وقراءةً؛ فهم يتوارثون ذلك منذ القدم، وأشرفت أمه -رحمها الله- على تعليمه وتحفيظه القرآن الكريم، وغرست فيه الأخلاق الفاضلة الحميدة؛ فكانت خير مُعين له، وأتم حفظ القرآن في القرية ولم يبلغ الحلم، وأمَّ بمسجد قريته -التي تعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة- ولم يبلغ ستة عشر عامًا…!!.
ثم غادر قريته قاصدًا مدينة طلب العلم عند الشيخ العلَّامة «عيسى معتوفي» فتعلم على يديه مبادئ الفقه والنحو؛ حيث اهتم الشيخ به لما رأى من حرصه ونباهته، فأخذ عنه الآجرومية، ومنظومة ابن عاشر في الفقه المالكي، ومصطلح الحديث. كما أخذ عن المشايخ الفضلاء: «نعيم النعيمي»، و»الطيب العقبي»؛ حيث لازم الشيخ «العقبي» وتتلمذ عليه وأخذ عنه علوم العقيدة والتفسير وغيرها، وتأثر به كثيرًا وصقل شخصيته، ولازمه في دروس التفسير عدة سنوات في العاصمة الجزائرية.
عمل «أبو بكر الجزائري» في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة الجزائرية، هذه الجمعية العلمية الإصلاحية التي تُمثل رسالة عظيمة، تدعو إلى العودة بالدين إلى نقائه وصفائه الأول، وإلى العقيدة التي قررها السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وتدعو هذه الجمعية إلى نبذ التعصب، ومُحاربة البدع.
ثم أنشأ في هذه الفترة مجلة «الداعي واللواء»، وهي مجلة دينية إصلاحية تدعو إلى الإصلاح وتعليم الشريعة، وكان يشرف الشيخ على تحريرها وتنقيحها بنفسه.
بعد ذلك، شد الشيخ رحال الحج إلى «مكة المُكرّمة» عام 1372ه، ثم قصد «المدينة المنورة» التي وقع حبها في قلبه لِمكانتها، ولِما فيها من أحبابه وأصدقائه، فعزم على البقاء.
طلب الشيخ الجزائري العلم على مشايخ «المدینة المنورة» وعلمائها؛ فلازم حلقة الشيخ «عمر بري»، والشيخ «محمد الحافظ»، والشيخ «محمد الخيال»، والشيخ «عبد العزيز بن صالح»، وفي عام 1374ه حصل الشيخ على إجازة من رئاسة القضاة ب»مكة المكرمة» للتدريس بالمسجد النبوي الشريف؛ حيث كان يقصد حلقته العلمية جمهور عريض من طلبة العلم الفضلاء.
أعماله ومناصبه العلمية
عمل الشيخ في التدريس في المدرسة المحمدية، والمدرسة السلفية، ودار الحديث في «المدینة المنورة»، ثم لما افتتحت الجامعة الإسلامية بـ»المدینة المنورة» انتقل إليها، وكان له دور فعّال فيها، كما كان له الدور الفعّال أيضًا في الدعوة إلى إنشاء رابطة العالم الإسلامي، وإذاعة القرآن الكريم.
قدم الشيخ فكرة لِإنشاء حلقات العلم بِالمسجد النبوي الشريف لِتخريج علماء مُتخصصين في الشريعة الإسلامية، وذلك لِما رأى من نقص العلم وذهابه بِذهاب العلماء.
ولقد تخرج على يديه كثير من الطلاب من الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه في قسم التفسير، أما في كلية الشريعة بالجامعة والمسجد النبوي الشريف فلا يُحصى عدد ذلك، ومن أبرزهم: الشيخ العلَّامة «عبد الرحمن بن صالح بن محيي الدين»، والشيخ الدكتور «عبد الله بن الشيخ محمد الأمين»، والشيخ الدكتور «محمد مختار بن الشيخ محمد الأمين».
بعد تقاعده في عام 1406ه، ظل منزل الشيخ عامرًا بحلقات العلم حيث يفد إليه الطلاب من كل مكان، وكان يُدرّس أيسر التفاسير، وصحيح البخاري، وموطأ الإمام مالك، أما دروسه في المسجد النبوي الشريف فظلت مُستمرة ما بين المغرب إلى العشاء، وبدأها مع بدء إجازته للتدريس.
صفاته وأخلاقه ومؤلفاته
امتاز الشيخ بِالرفق واللين؛ فهو دمث الأخلاق، لين المَعشر، صلب في الحق، صفاته صفات العلماء العاملين، مُتواضع في ملبسه ومسكنه ومركبه ومطعمه ومشربه مع الكبير والصغير.
تميّزت مؤلفات الشيخ بِتقريب الإسلام وطرحه بِوسطية تُحبب الناس فيه، وابتدأ التأليف منذ بداية مشواره العلمي؛ فألف في «الجزائر» أول أمره «الضروريات الفقهية» وهي تبسيط الفقه للطلاب، و»الدروس الجغرافية»، وبعد قدومه «الحجاز» أسس مطبعة «الدعوة»، وطبع بها كتابه القيّم: «منهاج المسلم»، وبلغت رسائل الشيخ أكثر من مائة رسالة إصلاحية هادفة جمعت معظمها في مُجلدات خمس بِاسم «رسائل الجزائري»، إضافة إلى العديد من المؤلفات العلمية الأخرى ك»عقيدة المؤمن»، و»العلم والعلماء»، و»نداءات الرحمن لأهل الإيمان»، و»المسجد بيت المسلم»، و»هذا الحبيب يا محب»، و»أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير».
وفاته
بعد حياة علمية حافلة بِالدعوة إلى الله عزّ وجل وبِنشر العلم والتأليف والتحقيق، وبعد مُعاناة طويلة مع المرض؛ تُوفي الشيخ الإمام العلَّامة «أبو بكر الجزائري» في «المدینة المنورة» صبيحة يوم الأربعاء المُوافق: 4 ذو الحجة سنة 1439ه، المُوافق: 15 أغسطس سنة 2018م، عن عمر ناهز 97 عامًا، وبرحيله فقدت الأمة الإسلامية جمعاء عالمًا جليلًا من أبرز علمائها مُخلفًا تراثًا علميًا غزيرًا.
وبفقده خسرت الأمة العربية والإسلامية عالمًا نحريرًا، ومؤلفًا مُختصًا، ومُحققًا جهبذًا من أبرز علمائها… وبفقده أيضًا خسرت الأمة العربية والإسلامية قامة علمية قل نظيرها؛ حيث شهد له علماء عصره بِالعلم والفضل والأدب والورع… رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.