تحضيرا لندوة حول تراث الرجل العظيم وأحد أعلام الإسلام في العصر الحديث: العلامة محمد حميد الله مترجم القرآن إلى الفرنسية في ذكرى رحيله
أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/ طلب مني بعض الأفاضل من جاليتنا المسلمة في أوروبا التفكير معهم حول بعث ندوات فصلية أو سنوية عن قدماء رموز العمل الإسلامي في الغرب، على غرار تلك التي كنا قد شرعنا فيها منذ سنوات، بحيث برمجنا سلسلة ندوات سنوية مع جمعية الشيخ بوزوزو بجنيف بالاشتراك مع المركز الإسلامي بجنيف، ولم …

أ. محمد مصطفى حابس جنيف/سويسرا/
طلب مني بعض الأفاضل من جاليتنا المسلمة في أوروبا التفكير معهم حول بعث ندوات فصلية أو سنوية عن قدماء رموز العمل الإسلامي في الغرب، على غرار تلك التي كنا قد شرعنا فيها منذ سنوات، بحيث برمجنا سلسلة ندوات سنوية مع جمعية الشيخ بوزوزو بجنيف بالاشتراك مع المركز الإسلامي بجنيف، ولم يتيسر لنا إلاّ تنظيم 3 ندوات متواليات عن العلامة الشيخ محمود بوزوزو و اتبعناها بندوة عن المرحوم الدكتور سعيد رمضان وتاريخ المركز الإسلامي بجنيف، الذي يعد من أقدم المراكز الاسلامية في أوروبا، ثم تلتها العام الماضي ندوة بمناسبة ذكرى رحيل الكاتب الموسوعي الدكتور هبري بوسروال (1944/2021)، الطبيب الجزائري المعروف الذي توفي بجائحة كورونا في فرنسا، وكنا أيضا قد برمجنا بعدها ندوة أخرى عن المرحوم عصام العطار ومركزه الإسلامي بآخن بألمانيا، لكننا لم نوفق لإنجازه لحد الساعة.
رجل عظيم و أحد أعلام الإسلام في العصر الحديث
وما دام الاخوة الأفاضل حددوا تاريخ نهاية السنة كموعد للندوة، وحددوا أيضا الشخصية الدعوية الربانية الزاهدة المحتفى بها و التي ينوون تسليط الضوء على سيرتها ومسارها الطويل المتشعب الشيق، هذا الرجل العظيم هو الشيخ الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي (1908-2002)، أحد أعلام الإسلام في العصر الحديث، وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في الدعوة الإسلامية في الغرب خصوصا، ومع ذلك فإن اسمه لا يُذكر كثيرًا في الإعلام العربي.
والعلامة الدكتور محمد حميد الله الذي عاش عقودا في فرنسا، وأعماله وكتبه لا تحصى ولا تعد، وترجمت لعديد اللغات، كما تعد ترجمته للقرآن الكريم للفرنسية أكبر الترجمات انتشارا في العالم الفرنكفوني، كما هو معلوم، أسلم على يديه أكثر من 40 ألف شخص في أوروبا، خصوصًا فرنسا، حيث عاش أكثر من نصف قرن، وكرّس حياته للدعوة، يتقن 22 لغة، منها العربية، الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، التركية، الفارسية، والروسية، وتعلّم التايلاندية في سنّ الرابعة والثمانين، كتبه تربو عن 450 كتابًا، ومئات المقالات، بلغات عدة، في مواضيع تتعلق بالإسلام، السيرة النبوية، الفقه، القانون الدولي، و الفكر والدعوة.
وقد غادر الدكتور محمد حميد الله حياة الدنيا في 17 ديسمبر 2002 بفلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية لكنه بقي حيا في عالم الفكر والعلم بفضل أعماله المتعددة وجهود تلاميذه ومحبيه (من جمعية الطلبة المسلمين بفرنسا ومؤسسة البروفسور حميد الله) العاملين على جمع تراثه ودراسته، وإعادة نشر أعماله المطبوعة، وإحياء ذكراه في شهر ديسمبر من كل عام، تقريبا.
وثيقة «إيمان المسلم وعقيدته»، لم يسبق لي قراءتها
وبينما كنت منهمكا في تصفح مجموعة من أعداد قديمة لمجلة «المسلمون» التي كان يصدرها «المركز الإسلامي بجنيف» لأزودهم ببعض ما يمكنني إفادتهم به، فعثرت على مقال في جزئين للدكتور محمد حميد الله، في عددين بمجلة المسلمون (المجلد الثامن- سنة 1963)، التي كان ينشر فيها بعض أهم مقالاته بالإنكليزية والفرنسية، لم يسبق لي قراءتها من قبل حول موضوع «إيمان المسلم وعقيدته». وقارنتها بعد ذلك بنصوص أخرى مشابهة في بعض كتبه الأخرى فتأكدت أنه قد يكون نصا منسيا، لم ينشره ضمن أعماله، ولم تنشره مؤسسات ثقافية وعلمية أخرى اهتمت بجمع آثاره، ولا أدري هل هي موجودة ضمن، كتاب «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة»، أو في الترجمة العربية التي صدرت مؤخرًا لكتابه «نبي الإسلام سيرته وآثاره» والذي يُعتبر من أهم الأعمال الأكاديمية التي تناولت السيرة النبوية الشريفة.
(Le Prophète de l’Islam: Sa vie, son œuvre)
الترجمة كما هو معلوم أعدها الأكاديمي المغربي الدكتور عبد الواحد العلمي والصادرة عن منتدى العلاقات العربية والدولية تأتي بعد مرور أكثر من 40 عامًا على نشر النسخة الأصلية باللغة الفرنسية في باريس عام 1958. وتُشكل هذه الترجمة إسهامًا كبيرًا في إثراء المكتبة العربية ودراسة السيرة النبوية بشكل نقدي عميق.
الله – الملائكة – الكتب المنزلة رسل الله (الأنـبـياء)
عنوان المقال كالتالي «خطوط عريضة في: إيمان المسلم وعقيدته» (للدكتور محمد حميد الله – الأستاذ بجامعة إستانبول)، مبوبا إياه تحت عناوين فرعية هي: الله – الملائكة – الكتب المنزلة رسل الله (الأنـبـياء)، يقول في مستهله:
«كل فرد له ما يؤمن به، سواء كان ما يؤمن به حقيقة أم خرافة. وقد يقع أن يكون إيمانه قائما على سوء في الفهم أو خطأ في الإدراك. وقد يتغير إيمان الفرد بالشيء، بتقدمه في السن أو بالتجارب التي يجتازها بالإضافة إلى عوامل أخرى، إلا أن هناك معتقدات تلتقي عليها مجموعة من الناس، وهنا تعتبر أهم قضية هي فكرة الإنسان عن وجوده. من أين جاء؟ إلى أين سيذهب؟ من الذي خلقه؟ ما هو الهدف من وجوده؟ وهكذا دواليك. و(العلم) الذي يعالج هذه القضية هو الدين. صحيح أن المعتقدات أمور شخصية محضة، ولكن مع هذا فإن تاريخ الأجناس البشرية قد عرف جرائم رهيبة وقعت بين الأشقّاء حول اختلاف العقائد. يترفع عنها حتى الحيوان المتوحش.
إنه عمل من أعمال الخير، بل تضحية منك أن تعمل على هدي الآخرين، وأن تناضل من أجل تبديد غشاوة الجهل عن عقول إخوانك في الإنسانية، ولكن لا حق لك في أن ترغم أي إنسان على اعتناق أي معتقد كان. ذلكم هو موقف الإسلام الواضح الصريح.
إن معرفة الإنسان وذكاءه يجتازان مرحلة تطور مستمر، ومجموع ما كان يعرفه الطبيب الإغريقي (جالينوس) أو الرياضي الإسكندري (إقليديوس) لا يكفي اليوم طالبا يريد أن يجتاز امتحان الدراسة الثانوية، ناهيك عن أن طلاب الجامعات يحتاجون إلى معلومات أكبر من هذا القدر بكثير.
* جالينوس =Galien إقليديوس =Euclide
لغة الإنسان الأول كانت قاصرة عن التعبير عن الأفكار السامية المعقّدة
وفي محيط العقائد الدينية، كان الإنسان الأول عاجزا حتى عن تصور إله عظيم تصورا مجردا لا تقتضي عبادته (رمزا) أو تجسيدا ماديا في شيء من الأشياء. حتى لغة الإنسان الأول كانت قاصرة عن التعبير عن الأفكار السامية المعقّدة، فإذا ما اضطر إلى ذلك استخدم تعابير لا تصلح تماما لتصوير هذه الأفكار والأخيلة المجرّدة.
1- ويركز الإسلام تركيزاً قويا على الحقيقة القائلة بأن الإنسان مكون من عنصرين متلازمين: جسده وروحه. وأنه لا ينبغي له أن يضحّي بأحدهما من أجل منفعة الآخر. فإذا ما وقف المرء نفسه بالكلية على تلبية حاجاته الروحية فمعنى ذلك أنه يطمح أن يكون ملاكا في الوقت الذي خلق الله فيه ملائكة آخرين. وإذا ما وقف نفسه بالكلية على تلبية حاجاته المادية فقط فمعنى ذلك هبوطه من مستوى الإنسان إلى مستوى البهيمة، أو النبات، إن لم يكن الشيطان !، وقد خلق الله لهذه الغاية مخلوقات أخرى غير الإنسان. إذن فالهدف من خلق الإنسان بهاتين الخاصتين المتلازمتين، سيظل بعيدا عن التحقيق ما لم يحافظ الإنسان على المواءمة بين حاجات بدنه وحاجات روحه في نفس الوقت.
2- يدين المسلمون بحمل رسالة الإسلام إليهم للنبي محمد رسول الله. وقد سئل النبي العظيم يوما عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره». وفي نفس هذه المناسبة شرح الرسول-صلى الله عليه وسلم – معنى الخضوع لله، وأساليب طاعته، وهي أمور سنناقشها في الفصلين القادمين إن شاء الله.
الله جل جلاله سبحانه
3- ليس هناك شيء يمكن أن يجمع بين المسلمين والملحدين (الذين ينكرون وجود الله جملة وتفصيلا) والمشركين (الذين يؤمنون بتعدد الآلهة). والكلمة العربية لإله واحد هي: الله، وهو اسم لا يسمح في اللغة بالتأنيث أو الجمع.
4- حتى أبسط النّاس وأقلهم قسطا من الثقافة والعلم، يعرف أن الواحد منا لا يمكن أن يكون هو خالق نفسه، وأنه لا بد أن يكون هناك خالق لنا أجمعين وللكون كله. بيد أن الإلحاد لا يستجيب لمثل هذا المنطق البسيط الواضح.
5- أما الإيمان بتعدد الآلهة فتنجم عنه مشكلة توزيع السلطة بين الآلهة المتعددين دون وقوع حرب أهلية بينهم!! ولعله من السهل على كل إنسان أن يدرك بأن كل ما في الكون يعتمد اعتمادا تبادليا على سواه. فالإنسان – مثلا – يحتاج إلى معونة الحيوانات والنباتات والمعادن والنجوم، بقدر ما تحتاج هذه الأشياء إلى معونة بعضها البعض بطريقة أو بأخرى. لهذا فإن تقسيم (السلطة الإلهية) تقسيما يقوم على استقلال كل إله بمملكته يصبح غير عملي على الإطلاق.
6- وقد دفع إشفاق بعض المفكرين من نسبة الشر إلى الله (وهو إشفاقٌ محمودٌ على كل حال) دفعهم إلى الاعتقاد بوجود إلهين مختلفين: إله للخير وإله للشر. ولكن المشكلة – هنا – هي ما إذا كان الإلهان سيعملان معا في توافق وانسجام، أم أنه سينشب بينهما نزاع على النفوذ ؟ فإذا ما اتّفقا على كل شيء يصبح (ازدواج) الآلهة أمرا لا ضرورة له. ذلك بأنه إذا وافق إلهُ الخير إلهَ الشر على عمل ما، فإنه يصبح حينئذ شريكه في عمل الشر، مما يهدم الغرض الأساسي من فكرة الازدواج. أما إذا اختلفا وتنازعا فإنه لا بد للمرء من التسليم بأن إله الشر سيكون منتصرا في معظم الحالات على إله الخير، وأنه سيكون صاحب اليد العليا بحيث يحق للمرء التساؤل: هل يجوز له الإيمان بإله (ضعيف) عاجز عن حماية نفسه ؟؟
7- إن الإيمان بوحدانية الله، وحدانية نقية لا تشوبها شائبة هو وحده الذي يستطيع أن يرضي العقل، فالله (واحد) بالرغم من قدرته على صنع أشياء كثيرة، وبسبب هذه القدرة تضاعفت صفات الله سبحانه وتعالى. إن الله ليس فقط هو خالق كل شيء، ولكنه رب كل شيء. هو الذي يحكم في السموات والأرض، ولا يتحرك شيء بدون إذنه وعلمه. وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: إن لله تسعة وتسعين اسما من «الأسماء الحسنى» تقابل تسعة وتسعين صفة من صفاته الأساسية – جل شأنه -. فهو الخالق، وهو جوهر وجود كل شيء، هو الحكيم، العادل، الرحيم، الكائن في كل مكان، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، هو الذي يقرر مصير كلّ شيء، وبيده الحياة والموت والنشور، الخ .. الخ ..
8- بناء على ذلك اختلف تصور (الله) في الذهن البشري باختلاف الأفراد، فالفيلسوف لا يتصور الله كما يتصوره (رجل الشارع). ولقد أعجب الرسول — بحرارة الإيمان عند العوام، وكثيرا ما ضرب المثل الحسن (بإيمان العجائز) الذي لا يتزلزل، والذي يقوم على اليقين الخالص العميق.
إن القصة الصغيرة الجميلة، قصة الفيل والعميان، قصة معروفة جيدا، فهؤلاء العُمْي لم يسمعوا من قبل بالفيل على الإطلاق. وعندما اقترب هذا الحيوان الغريب وأتيح لكل منهم أن يلمسه وقعت يد أحدهم على خرطومه، والآخر على أذنه، والثالث على رجله، والرابع على ذَنَبه، وهكذا. وأثناء عودتهم وصف كل منهم الفيل بطريقته الخاصة وحسب تجربته الخاصة. فوصفوه بأنه كالعمود وكالجناح، وبأنه شيء جامد كالصخر، وأنه ناعم ورفيع. وحقيقة الأمر أن كلاًّ منهم على حق، ولكن أحدا منهم لم يستطع أن يحيط بالحقيقة بكاملها لأنها كانت فوق طاقته وإدراكه.
فإذا ما وضعنا مكان العميان في هذه القصة، هؤلاء الذين يبحثون عن إله لا تدركه الأبصار، أمكننا بسهولة أن نقدّرVeracity النسبية للتجارب الفردية. وكما قال أحد الصوفيِّين الذين ظهروا في عصور الإسلام الأولى: «هناك صدق فيما يقال من أن الله صورة «ذهنية» يعرفه بها عابر السبيل، وأخرى هي المعروفة عند الله تعالى». وفي العرض الذي أسلفنا، نجد من أقوال نبيِّ الإسلام أن هناك مرونة في التصور الإلهي عند المسلمين تكفي لإرضاء الحاجات المختلفة لجميع طبقات الناس: المتعلمين منهم والجهال، الأذكياء والبسطاء، الشعراء والفنانين، القضاة وعلماء الدين، وغير هؤلاء وأولئك. ولئن جاز أن تختلف وجهة النظر و(زاوية الرؤية) بالنسبة للأفراد فإن (المنظور) واحد لا يتغير.
(9) لقد بنى العلماء المسلمون نظامهم كله على أساس تشريعي، حيث الحقوق والواجبات مرتبط بعضها ببعض ارتباطا تبادليا. ولئن كان الله تعالى قد وهبنا الأعضاء والحواس والمقدرات التي نملكها، فكل هبة من هذه الهبات يقوم إزاءها التزام معين. فعبادة الله وشكره وطاعته وتجنب كل ما يعتبر تمردا على ألوهيته المطلقة، تشكل كلها الواجبات الفردية المسؤول عنها كل إنسان.