المنتقد… شعلة ابن باديس الأولى في وجه الاستعمار والبدع
أ. كريمة عشيري/ حين تُستباح الأوطان، وتُمسخ الهويات، ويُخدّر الوعي بخطب الزيف وأوهام التقدّم، لا يملك المصلح إلا سلاحًا واحدًا: الكلمة. في زمن انحنت فيه الرقاب لفرنسا، وخرست فيه الألسن، وسادت فيه الطرقية والخرافة، انبعث شاب قسنطيني من رحم القرآن، يمشي على خطى محمد بن عبد الله، ويحمل قلماً كالسيف، ومصحفًا كالدستور. كان هو عبد …

أ. كريمة عشيري/
حين تُستباح الأوطان، وتُمسخ الهويات، ويُخدّر الوعي بخطب الزيف وأوهام التقدّم، لا يملك المصلح إلا سلاحًا واحدًا: الكلمة. في زمن انحنت فيه الرقاب لفرنسا، وخرست فيه الألسن، وسادت فيه الطرقية والخرافة، انبعث شاب قسنطيني من رحم القرآن، يمشي على خطى محمد بن عبد الله، ويحمل قلماً كالسيف، ومصحفًا كالدستور. كان هو عبد الحميد بن باديس، وكانت “المنتقد” أولى طلقاته النارية… لا مقالة تُنشر، بل صيحة توقظ، وتشهق بوجه الاستعمار والبدع: “كفى صمتًا! لقد آن أن نتكلم”.
المنتقد: منبر النهضة لا ورقة أخبار
في الثالث من جويلية 1925، وُلدت “المنتقد”، صحيفة جزائرية نادرة، كتبها ابن باديس بمداد من الوعي والكرامة، ورفعها على راية كُتب عليها: “الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء.”
جاءت أولى كلماتها متوَجَة بنفَس إيماني عميق، مواكبةً لأيام عيد الأضحى، كأنها أضحية فكرية تُراق على مذبح الصحافة من أجل الله والوطن:
“من محاسن الصدف وتباشير الفوز والقبول صدور أول عدد من هذه الجريدة في أيام عيد النحر الشريف…”
ثم شقّ ابن باديس بوصلة المشروع:
“بسم الله، ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم شاعرين بعظم المسؤولية…”
هكذا لم تكن المنتقد مجرد نشرة، بل مشروعًا فكريًا إصلاحيًا، خطته “مبادئ” و”غايات” لا تعرف المساومة ولا المداهنة، بل تسير على منهاج النبوة والإحياء.
العدد الأول… خريطة طريق الثورة الصامتة:
من يطالع العدد الأول من الجريدة، يجد مقالًا افتتاحيًا بعنوان: “خطتنا، مبادئنا، غايتنا، وشعارنا”، رسم فيه ابن باديس ملامح الطريق التي ستسلكها المنتقد، والتي ستسلكها من بعده كل الصحف الإصلاحية:
“نحن قوم مسلمون جزائريون في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية… نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا، وإحياء روح القومية في أبنائنا…”
“لا نخلط بين الدين والسياسة، ولكن نجعل الدين قوامًا لنا، ومهيمنًا شريفًا لسلوكنا، ونظامًا لحياتنا…”
بهذه الرؤية، حوّل الصحافة إلى جهاد، لا يخاطب فرنسا فقط، بل يبعث برسالة إلى الجزائر العميقة: أنتم أمة… استفيقوا!
ورغم أن الجريدة لم تصدر سوى في 18 عددًا، إلا أن كل عدد منها حمل بين دفتيه كنزًا من الوعي، وصيحة منبّهة، تجعل القارئ يتشوّق إلى استكشاف هذه الدرر النادرة… فكل عدد منها قصة، وكل مقالة فيها شعلة.
1. يقظة الإحساس الوطني:
في العدد الرابع، كتب ابن باديس مقالًا بعنوان “الإحساس والشعور”، يشخص فيه عجز الأمة لا باعتباره عجزًا عسكريًا، بل خواءً داخليًا سُلب فيه الجزائري وعيه، وأُفرغ من روحه الحية:
“الإحساس والشعور قوتان نفسيّتان عزيزتان في كل إنسان، بهما يفرح ويتألم… لكن الجزائريين قد سُلبوهما بفعل الجهل والقهر.”
بهذه العبارات، استنهض ابن باديس الضمير الوطني، مؤمنًا أن الحرية لا تُطلب بالسلاح فقط، بل بإعادة الحسّ بالحياة، والوعي بالمآسي، والكرامة الضائعة.
2. نكبات الداخل… وجرأة المواجهة:
وفي العدد الخامس، كتب تحت عنوان “نكبات الأمة الجزائرية”، صرخة أليمة تتدفق بوجع أمة نامت عن مجدها، وغفلت عن حضارتها، وتنازلت عن أعز ما تملك:
“فيا أبناء الجزائر! ما هذه السِّنون الخدّاعات، والسحب الغرّارات؟! ما هذه الدموع المنهمرات، والأنّات المتتابعات؟!”
لم يكن النقد نحيبًا، بل تشريحًا للجروح الداخلية: الجهل، والطرقية، والخرافة، والانقسام. ابن باديس لم يكتف بتعرية الاستعمار، بل تعمّق في معركة أشد خطورة: محاربة ما زرعه الاستعمار من انهزام داخلي.
3. فسحة الأدب وأخبار العالم:
ولم تقتصر الجريدة على المقالات الإصلاحية، بل خُصصت بها صفحة بعنوان “حديقة الأدب”، فسحة راقية حملت توقيع أدباء ومثقفين بارزين، كما رصدت أخبار العالم الإسلامي، وسلّطت الضوء على قضايا الأمة الكبرى، مما منح “المنتقد” روحًا موسوعية وعقلًا يقظًا.
المنتقد: جريدة أُغلقت… ولكنها فتحت التاريخ
لم تصمد المنتقد كثيرًا… أُغلقت بعد 18 عددًا فقط، بقرار استعماري غاضب، لأن الكلمة كانت أخطر من السلاح. لكن صوتها بقي يتردد في الشهاب، والبصائر، وفي وعي أجيال ما بعد الاحتلال.
تناولت المنتقد قضايا تمسّ جوهر الأمة:
– نقد البدع والطرقية والخرافة.
– فضح سياسة الإدماج الفرنسي.
– الدفاع عن اللغة العربية.
– إحياء الشعور الديني والوطني.
– نشر الوعي من خلال فسح الأدب ومتابعة شؤون الأمة.
ولم يكن ذلك سردًا نظريًا، بل ممارسة حقيقية للكلمة كفعل مقاومة، ومشروع نهضة، ومنبر يقظة.
المنتقد ليست جريدة ماتت، بل هي بذرة نهضة زرعها ابن باديس تحت أنقاض الاستعمار، فأزهرت وعيًا، وأثمرت مقاومة. صوتها لا يزال يتردد في كل قاعة درس، وفي كل مسجد حر، وفي صدر كل شاب يبحث عن هويته.
“الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء.” صرخة كتبها ابن باديس في صدر المنتقد، لكنها اليوم وُشِمت في ضمير كل جزائري حر.
المنتقد… لم تكن مجرد ورقات، بل كانت ثورة بالحبر، وانتفاضة بالحرف، وصرخة وطن لم تنطفئ بعد.