مـحمد صالح الجابري وجهوده في تعزيز العلاقات الثقافية بين الجزائر وتونس

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقة*/ في شهر جوان من سنة: (2009م) انتقل إلى الرفيق الأعلى الأديب البارز والبحاثة القدير، والمبدع المتميّز الدكتور محمد صالح الجابري، وقد كان الجابري شُعلةً وضاءة لا تخبو، وجذوة مُتوقدة لا تنطفئ، وقامة سامقة من قامات العلم والمعرفة، وجسراً من جسور التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس، يتضح ذلك جلياً عندما نرى …

أغسطس 5, 2025 - 18:20
 0
مـحمد صالح الجابري وجهوده في تعزيز العلاقات الثقافية بين الجزائر وتونس

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقة*/

في شهر جوان من سنة: (2009م) انتقل إلى الرفيق الأعلى الأديب البارز والبحاثة القدير، والمبدع المتميّز الدكتور محمد صالح الجابري، وقد كان الجابري شُعلةً وضاءة لا تخبو، وجذوة مُتوقدة لا تنطفئ، وقامة سامقة من قامات العلم والمعرفة، وجسراً من جسور التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس، يتضح ذلك جلياً عندما نرى نشاطاته الجمة، وأعماله الكثيرة، وإنتاجه الغزير المتلاحق في مجال تعزيز العلاقات الثقافية والأدبية بين الجزائر وتونس.
فهو وجه مشرق من وجوه الثقافة التونسية وملمح ناضر من ملامحها الناضرة، حيث إنه كان واحداً من المثقفين الموسوعيين العظام، يُعدّ بحق رائداً من الرواد، وعلماً من الأعلام الجادين الذين جمعوا بين شغف البحث العلمي، وجماليات الإبداع الفني، وعمق الرؤية الفكرية، ومن يرغب في إدراج الجابري وتصنيفه فإنه سيُدرجه ضمن أولئك الكُتاب القلائل الذين تستهويهم الثقافة الموسوعية، فلم يجعل يراعه حكراً على جنس أدبي معين، فقد ألف العديد من الدراسات النقدية، وكتب القصة والرواية والمسرحية، وأحب الجزائر حُباً جماً، ونافح عنها وعن أدبائها بكُل غالٍ ونفيس، وثابر بكل جد وجهد وعلو همة من أجل خدمة الأدب الجزائري، وإذاعة صيته في مختلف الأقطار العربية، وقد ولد سنة:1940م، بمدينة توزر بالجنوب التونسي، ودخل الكتاب في سن مبكر، ثم تابع دراسته بمدرسة «ابن شباط» الابتدائية إلى غاية سنة:1953م حيث واصل الدراسة بالمعهد الثانوي بمدينة توزر، وفي سنة:1957م التحق بمعهد ابن خلدون بالعاصمة التونسية، وتخرج منه سنة:1962م، وفي نفس السنة انخرط في سلك التعليم فعمل في كل من مدينتي: توزر وتونس، وقد عُرف الرجل بكفاحه وصبره وعصاميته، فقد تحمل مشاق السفر بمفرده إلى بغداد طلباً للعلم والمعرفة، فانتسب هناك إلى كلية الآداب، وحصل منها على شهادة ليسانس سنة:1975م، وفي نفس السنة عاد إلى وطنه فعمل بالتدريس في مدينة المنستير، وبعدها بسنتين التحق بمعهد اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر، وأتم به دراساته العليا.
ومن أهم دراساته النقدية، نذكر: «الشعر التونسي المعاصر خلال قرن»، و«محمود بيرم التونسي في المنفى: حياته وآثاره»، و«القصة التونسية أوائلها وروادها»، و«رحلات الأدباء التونسيين إلى الجزائر»، و«ديوان الشعر التونسي الحديث»، و«دراسات في الأدب التونسي الحديث»، و«يوميات الجهاد الليبي في الصحافة التونسية»، و«النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس»، ومن إسهاماته الإبداعية: روايات «يوم من أيام زمرا»، و«البحر ينشر ألواحه»، و«ليلة السنوات العشر»، وقصص «إنه الخريف يا حبيبتي»، و«الرخ يجول في الرقعة»، ومسرحية« كيف لا أحب النهار».
والمتأمل في أعمال الجابري الإبداعية، يخرج بجملة من الملاحظات والأحكام، من بينها أنه يعد رائداً من رواد الواقعية في التجربة السردية في المغرب العربي، فأغلب أعماله مستوحاة من تجاربه الخاصة، وشخصياته مستمدة من الناس الذين خامرهم في حياته ، ونلفت الانتباه إلى عمل جبار ومشروع ضخم أشرف عليه الراحل، وهو :«موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين»، والذي أشرف عليه في إطار أبحاثه لفائدة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، ومن بين المهام التي تقلدها الدكتور الجابري: كاتب عام لرابطة القلم الجديد، وعضو في جمعية القصة والرواية لاتحاد الكتاب التونسيين، واتحاد الكتاب العرب، ومدير المركز الثقافي التونسي بطرابلس.
ومن آثاره المهمة التي تشهد على حُبه وعشقه للجزائر وللأدباء الجزائريين كتابه الموسوم ب:«الأدب الجزائري في تونس»،الذي هو بمنزلة موسوعة شاملة، بذل من خلالها الباحث جهداً علمياً كبيراً،لا ينهض به إلا أصحاب الهمم العالية ، فقد ألف ذلك الكتاب الموسوعة مُقدماً من خلاله خدمة جليلة للباحثين والدارسين الجزائريين،مُعبداً لهم الدروب، وفاتحاً لهم الآفاق، وقد أثنى على ذلك الكتاب مجموعة من كبار الأدباء والنقاد الجزائريين، فكتبوا منوهين بمستواه العلمي، وعمقه الفكري، ومن بينهم الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الله ركيبي الذي أصدر قراراً وتوصية بدعم طباعته، وتعميمه على كل الجامعات، والمعاهد العليا في الجزائر، فلا يُمكن لأي دارسِ للأدب الجزائري أن يتجاوز تلك الموسوعة الشاملة، والتي ألفها الأديب الراحل بسبب حبه وإعجابه بالأدب الجزائري، ورغبةً منه في خدمته، والإعلاء من شأنه، وكي يُلملم شتاته المتناثر في شتى الصحف والمجلات التليدة ،ويذكر لنا الدكتور محمد صالح الجابري أسباب تأليفه لذلك الكتاب، وما بذله من جهود في سبيله بقوله:«وإن السبب في إنجاز هذه الدّراسة يعود أساساً إلى غايتين،أولاهما أن أساعد الدّارسين الجزائريين المتطلعين إلى استيفاء مصادر أدبهم،على الكشف عن بعض الصفحات المجهولة حقا من أدبهم، وُأنصف أولئك المبدعين الذين كان لهم شرف إرساء المعالم الأولى للأدب الجزائري الحديث،في صمت وفي ظروف عويصة مفعمة بالإحباط والخيبة، والحرمان، والعنت، وشظف العيش.


وثانيهما إعجاب شخصي بهذا التراث الأدبي الذي لم يُركز على تناول قضايا الجزائر في تلك المرحلة الحرجة فحسب،وقد كانت الجزائر أحوج ما تكون إلى من يُعرّف بها وبقضيتها، ولكنه كان يحمل قضية المغرب العربي بكل تبعاتها وأوزارها، وقضية العروبة بمشاغلها ومشاكلها، وقضية الأمة الإسلامية بما فيها من أحزان ويأس وتشتت….وما من شك في أن المصدر الأوحد لهذا التراث الأدبي هو الصحافة والمجلات،على وفرتها وتعددها، مما اضطرني إلى متابعة مئات الصحف، وتصفح بضعة آلاف من الصفحات،ومع كل ما يعانيه أي باحث قدّر عليه أن يتصيد مصادره من المجهول فإنني أعتبر نفسي محظوظاً إذ أبُت بهذا الحصاد الأدبي الوفير، ولقد تعاظمت سعادتي حين أدركت أن الكثير من هذا الأدب الذي استفدتُ منه في وضع هذه الدراسة لم يكن معروفاً لدى الباحثين،كما لم يكن من اليسير بلوغه من مظانه التونسية المتشعبة والمبعثرة بين عدد من المكتبات، ودور التوثيق، والدور الخاصة، ولربما ساعد ظهور هذا الإنتاج الأدبي الجزائري على إعادة النظر إلى بعض الدراسات،التي لم تتوفر لها كل المصادر عن هذا الأدب،وخاصة المصادر التونسية التي يمكن التأكيد بأنها على جانب لا يُستهان به من الأهمية، وباعتبار أن هذا التراث الأدبي يؤلف في مجاله الزمني، وفي حدود المرحلة التاريخية التي تأثر بها وتناولها وعايشها وأسهم في معالجة قضاياها صورة متكاملة عن واقع تلك المرحلة،فقد قمت بدراسة هذا التراث في إطار تلك المرحلة،دون أن أغفل الاستفادة مما أتيح لي العثور عليه من مصادر أدبية حديثة تناولت الأدب الجزائري أو الفكر الجزائري بصورة عامة،أو تناولت الشخصيات التي عاشت هذه الحقبة الزمنية،على أني لمست حقيقة ثابتة لابد من إبرازها وهي أن القضايا والمشكلات التي عالجها هذا الأدب في مرحلة المحنة الاستعمارية ما تزال متجددة في الأدب الجزائري الذي تلا مرحلة الأساس هذه، وهو ما يُوحي بأن المقومات الفكرية للشخصية الثقافية الجزائرية ظلت مؤسسة على حب الوطن، والإخلاص له، والاعتزاز بالانتماء إلى العروبة والإسلام،وأنه لولا هذه الثوابت من المقومات، ولولا أولئك الرجال الأفذاذ الذين نذروا أقلامهم، وكرسوا حياتهم للذوذ عن الشخصية الجزائرية، وجذورها العربيّة الإسلامية،لما أمكن لهذا الجيل الأدبي الجديد أن يقفز قفزته الحالية ليكون في مستوى ما يكتبه أدباء الأقطار العربية الأخرى الذين لم يعانوا مثل المحنة الجزائرية نفسها»(1).
ومن يريد أن يلقي وجهاً من الضياء، على جهود الدكتور الجابري في مجال تدعيم العلاقات الثقافية بين الجزائر وتونس، لا يُمكنه إلا أن يتوقف مع كتابه المهم والقيم الموسوم :«التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس»، الذي يُعد أهم سفر تناول العلاقات الثقافية بين البلدين بالدرس والتحليل، والرصد الشامل، و لا شك في أن الصلات الفكرية والثقافية بين تونس والجزائر،تعد من النماذج الطريفة والفريدة، ومثالاً يُحتذى به للصلات الحميمة التي تنشأ بين قطرين حميمين، وكما عبّر عن ذلك الدكتور محمد صالح الجابري فهي تُعتبر مثالاً نادراً لعلاقات الجوار الإيجابي والخصيب بين الأقطار العربية التي تجمع بينها حدود مشتركة، وهي صلات ذات مظاهر متعددة،ومتنوعة،كما أنها مشتملة على ميادين شتى، تعليمية، وثقافية، وصحفية، وسياسية، ويُرجع الدكتور محمد صالح الجابري المصدر الرئيس لجسور التواصل بين البلدين إلى ذلك التحريض الذي أطلقه العلاّمة عبد الحميد بن باديس للطلبة مشدداً على ضرورة الالتحاق بجامع الزيتونة للنهل من علومه المتنوعة،ويتطرق الدكتور الجابري في مبحثه الأول من الكتاب،والموسوم ب:«احتفالات تونس بذكرى الشيخ عبد الحميد بن باديس» إلى ذلك الاحتفاء والتقدير الكبير الذي حظي به رائد النهضة الجزائرية في البلاد التونسية،فعبد الحميد بن باديس شيد جسوراً للتواصل بين البلدين، وكان كلما حلّ بتونس حظي باستقبال حار،فيهب لاستقباله العلماء والساسة،وتفتح له النوادي والمنابر لإلقاء محاضراته،ويلتف حوله التونسيون والجزائريون ويحتفون به أيما احتفاء ،وبعد وفاته أصبح تاريخ وفاته مناسبة وطنية مغاربية «وفُرصة لعقد اللقاءات، واستلهام العبر، وتجديد العهد مع النضال،وإلقاء الخطب والكلمات والقصائد التي تؤثل كفاح ونضال المغاربة ضد الاستعمار،وتُعرف بأمجادهم،وتستعرض صفحات من تاريخهم المجيد،فخلال خمس عشرة سنة من وفاة ابن باديس أحيا التونسيون تارة بمفردهم،وطوراً بمشاركة المهاجرين الجزائريين إلى تونس سبع مناسبات لتكريمه بداية من سنة1946وحتى سنة1955، وكانت مدار هذه المناسبات شخصية الراحل العلمية والإصلاحية،ودوره في الإصلاح الوطني والديني،وما قدم من جليل الخدمات لترسيخ القيم والفضائل، والدفاع عن العروبة والإسلام، وبناء المغرب العربي،كما كانت هذه المناسبات منطلقاً للإشادة بنضال الجزائريين جميعاً وتضحياتهم في سبيل وطنهم، والتأكيد على روح التضامن بين الشعبين التونسي والجزائري »(2).
و عن أصداء كتابات الشيخ المبارك الميلي، وجهاد الأمير عبد القادر في الصحافة التونسية، فقد أحاط بها الدكتور محمد صالح الجابري في بحثين مستقلين،ففي البحث الأول الموسوم ب:«مبارك الميلي والصحافة التونسية»،تعرض من خلاله إلى الاهتمام الكبير الذي حظي به المبارك الميلي في الصحافة التونسية، وذلك عند صدور كتابه المهم «تاريخ الجزائر في القديم والحديث»، فركزت الصحافة التونسية الأضواء عليه،واحتفت به أيما احتفاء وأثنت على جهود صاحبه« واعتبرته من الأعمال الجليلة التي جاءت في إبانها، لا لتسد النقص الذي تشكو منه المكتبة الجزائرية فحسب،وإنما اعتبرته ضرباً من ضروب المقاومة،وتصويباً للأخطاء والمغالطات التي تقصَّد إليها الأجانب من المستعمرين في خطة مبيتة لتشويه تاريخ الجزائر، وفي المبحث الثاني المعنون ب:«أصداء جهاد الأمير عبد القادر في الصحافة التونسية»أبرز الدكتور الجابري الاهتمامات الكبيرة التي حظي بها كفاح الأمير عبد القادر الجزائري من قبل جريدة«الرائد التونسي»،إذ صدر خبر وفاته في أول عدد منها بعد الوفاة مباشرة، تحت عنوان:«نزيل دمشق وفقيدها»، وقد صيغ ذلك الخبر صياغة أدبية مليئة بالشجن والتفجع على رحيل الأمير عبد القادر،كما غلب على تلك الكلمة الاقتضاب والسجع، ووصف خصال الأمير الأدبية والعلمية والسياسية، وفي العدد الموالي منها خصصت الجريدة ملفاً خاصاً عن الأمير في ثلاث صفحات،وقدمت من خلالها صورة متكاملة عن الفقيد وأعماله الوطنية والفكرية والعلمية.
ومن بين الأبحاث المهمة التي نُلفيها في هذا الكتاب القيم، بحثٌ عن :«الثورة الجزائرية في المسرح التونسي»،فأول نص مسرحي جزائري نُشر في تونس عن الثورة الجزائرية، صدر بمجلة«الفكر» وذلك في شهر جويلية1957م، كان من تأليف الكاتب الجزائري مصطفى الأشرف، تحت عنوان: «الباب الأخير»، إذ أنه كتبه باللغة الفرنسية، وتولت ترجمته إلى العربية هيئة المجلة، وتدور أحداث تلك المسرحية في مقاطعة من مقاطعات مدينة قسنطينة، وتتحدث المسرحية عن الثورة التي التفت حولها جميع طبقات المجتمع الجزائري، كما ركزت المسرحية على ردود فعل المستعمر الفرنسي بجرائمه الفظيعة المعهودة ضد الأبرياء والعُزل ،وهي مسرحية ثورية بامتياز إذ صورت كفاح الشعب الجزائري المقاوم إثر بداية الثورة بأدق تفاصيله، ويتتبع الدكتور محمد صالح الجابري في بحثه المعنون ب:«رحلات الأدباء التونسيين إلى الجزائر» أربع رحلات أسهمت في تعميق التواصل الثقافي بين البلدين ، وذلك نظراً لأهميتها،إذ أن الهدف الرئيس من وراء هذه الرحلات هو الاطلاع على أوضاع الجزائريين الاجتماعية والسياسية والفكرية، وكذلك تدعيم الوشائج الثقافية بالاتصال مع العلماء والمثقفين، وهي:
-رحلة الشيخ محمد الخضر حسين التي نشرت بمجلة«السعادة العظمى».
-ورحلة الشيخ أحمد حسين المهيري،وقد نشرت بجريدة«لسان الشعب».
-ورحلة الطيب بن عيسى ونشرت بجريدة «الوزير».
– والرحلة الخامسة هي رحلة الشاعر الجزائري«حمزة بوكوشة»،وقد كتبها بطلب من جريدة «الوزير»، وقد سجل من خلالها انطباعات دقيقة عن بعض المدن الجزائرية.

الهوامش:
(1) الجابري:الأدب الجزائري في تونس،ج:01، بيت الحكمة،تونس،1991م،ص:8-10.
(2) الجابري:التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس، دار الغرب الإسلامي، ،1990م، ص:08.

* كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر