مُجرمون بعضُهُم من بعض

د.خديجة عنيشل/ ما الذي صنعتهُ غزة؟ إنها تصنعُ تاريخَ فلسطين القادم، وإنها تكتبُ بحروفٍ من دماءٍ طاهرة مجدَ شعبٍ أرادَ له الاحتلالُ الصهيوني أن يعيشَ في قفصٍ مُغلَق فأبى الإذلالَ المُغلَّفَ بالحياة وهبَّ ينتصرُ لحياةِ الكرامة، ويكسرُ قيدَ المهانةِ والغطرسة. غزةُ تُدافعُ عن منطقِ الإنسان الحر في زمنٍ يرفعُ فيه الإنسانُ الواهنُ الذي أُشربَ الحياةَ …

أغسطس 5, 2025 - 12:51
 0
مُجرمون بعضُهُم من بعض

د.خديجة عنيشل/

ما الذي صنعتهُ غزة؟ إنها تصنعُ تاريخَ فلسطين القادم، وإنها تكتبُ بحروفٍ من دماءٍ طاهرة مجدَ شعبٍ أرادَ له الاحتلالُ الصهيوني أن يعيشَ في قفصٍ مُغلَق فأبى الإذلالَ المُغلَّفَ بالحياة وهبَّ ينتصرُ لحياةِ الكرامة، ويكسرُ قيدَ المهانةِ والغطرسة. غزةُ تُدافعُ عن منطقِ الإنسان الحر في زمنٍ يرفعُ فيه الإنسانُ الواهنُ الذي أُشربَ الحياةَ الدنيا وكرهَ الموت عقيرتَهُ مُدّعياً أن المقاومةَ هي سببُ تجويعِ الغزيّين الشرفاء!! من الطبيعي أنَّ الإنسانَ حين يضيقُ عقلُه تنهزمُ لغتُه. وحين تفترسهُ الحياةُ الماديةُ يعجزُ عن فهمِ روح الحياة، وحين يكونُ زادُهُ التاريخيُّ ضئيلاً لا يمكنهُ استيعاب مفهوم التضحية من أجل الوطن والعِرض. لا يمكنني فهمَ أنَّ جزائرياً يقفُ ضدّ صوتِ الانعتاق والتحرّر والجزائرُ أيقونةُ الإباء والحرية، بل إني أعجبُ ممن تُثبتُ (شهاداتهُ) العلميةُ أنه مثقفٌ واعٍ ويرى أنَّ المقاومةَ تجني على الناسِ في غزة !! فرقٌ شاسعٌ بين من يُدافعُ عن وطنهِ بأمعائه وبين من تكونُ أمعاؤُهُ هي هدفُهُ في الحياة.
فرنسا المجرمة كانت تدّعي أيضاً أن مُجاهدي جيش التحرير الوطني هم سببُ الدمارِ والموتِ في الجزائر. ولولا ثباتُ المجاهدين وإيمانُهُم ولولا عظمةُ الشعبِ الجزائريِّ الذي احتضنَ ثورتَهُ وعضَّ عليها بالنواجذ لوجدت تبريراتُ المحتل الفرنسي طريقَها إلى هزيمة الثورة وقمعِ صوتِ الأحرار. الاحتلالُ في كلِّ الأزمنة يقومُ على التفنُّن في خلق مبرّرات أعمالهِ الإجرامية. ولكنّ التاريخ لا ينسى ولا يغفر؛ التاريخُ لا يزالُ يتذكّرُ أولاد رياح ولا يزال يُذكّرنا أن تبريرات فرنسا واهية. فرنسا التي نسيت أنهُ قبل قرنٍ من حربِ التحرير المجيدة في عام 1845 قامت قوافلُ الكولونيل بيليسيي المدجّجة عتاداً وسلاحاً وجنوداً بمهاجمة أهالي أولاد رياح الذين ساندوا المجاهد بومعزة في ثورتهِ الشعبيةِ ضد المحتل الفرنسي رافضين حياةَ الذلّ والقهر التي يفرضها عليهم. وكان هدفُ هذا الهجوم هو نزعُ سلاح هذه القبيلة الثائرة في وجهِ الاحتلال. وفي طريقهِ إلى محاصرة قبيلة أولاد رياح كان جنودُ الاحتلال الفرنسي يحرقون كلَّ أخضر من مزارعَ وحقولٍ وغابات في سياسةِ إبادةٍ وإحراقٍ وحشية انتقاماً من روحِ المقاومة التي كانت جذوةً لا تنطفئ في قلبِ كلِّ جزائريٍ حر. تقولُ المصادرُ التاريخيةُ أنَّ أهالي أولاد رياح لما رأوا مَقدَمَ القافلة العسكرية الكبيرة والممتدّة سارعَ الشيوخُ والأطفالُ والنساء إلى «مغارةِ الفراشيش» يختبؤون فيها من بطشِ الفرنسيين حاملين معهم كل ما يملكون من مؤونةٍ ومتاعٍ وحيواناتٍ . طوَّقَ الكولونيل بيليسيي المغارةَ بجنوده صبيحة 18 جوان 1845 ولكنه عجزَ عن اقتحامها بسببِ ما لاقاه من مقاومة المجاهدين الذين كانوا مع الأهالي في المغارة إذ طالبهم بالاستسلام فأجابوه بالرصاص كما ذكرَ أبو القاسم سعدالله في كتابه الحركة الوطنية الجزائرية. وأمام عجزهِ في افتكاكِ استسلامِ الأهالي الذين كانوا نحو ألف شخصٍ قامَ المجرم بيليسيي في اليوم الموالي 19 جوان بتكويمِ الحطب حول المغارة وفي مدخلها وإضرامِ النارِ فيها بدمٍ بارد !! وظلت النارُ تشتعلُ يوماً كاملاً والقائدُ الفرنسيُّ وجنودُهُ ينظرونَ إلى الأجسادِ تصطلي نظرَ الحاقدِ المتشفّي، يُنصتون إلى تأوّهات وأنين الأبرياء من البشرِ والحيوان وحتى الحجر وهم يتهاوون تحت ألسنةِ النيران دون أن يرمش للقائدِ المجرمِ وجنوده جفن !!
هذه بعضُ الشهادات نقلتها مصادرُ تاريخيةٌ أرّخت لهذه الجريمة الوحشية الهمجية التي فاقت كلَّ تخيّل بل إنها أرّخت للمحرقة الفرنسية قبل النازية: «وبعد انطفاء النار دخل الجنود المغارات فوجدوا مظهرا رهيبا (800) جثة ملقاة على الأرض، نساء، أطفال، شيوخ، آلاف الأغنام والماعز اختنقت مثل مالكيها، أمهات متصلبات متشنجات على الجدران رافعات لأبنائهن المختنقين نحو شقٍّ لاستنشاق هواء نظيف وفي الأرضِ شيوخ وفتيان ممددون .. صمتٌ محزن ومتقطع لحشرجات بعيدة، في المدخل حيوانات غُطيت رؤوسها لكي لا ترى و لا تجأر مرمية محروقة، وهناك أمٌّ مختنقةٌ في وقتٍ كانت تدافعُ عن ابنها ضد هياج ثور، وهناك جثثٌ عاريةٌ يخرجُ الدمُ من أفواه أصحابها أطفال رُضّعٌ اختنقوا مع المُؤَن، وآخرون اختنقوا تحت ملابس أمهاتهم، وفي الأخير كُتَلٌ من اللحمِ الكثير تمَّ الدَّوْسُ عليها أثناء المعركة الداخلية شكَّلت نوعاً من العصيدة البشرية، وقبيلة أولاد رياح لم تعد موجودة»
لم يكن النتن ياهو إلا من نسلِ المجرم بيجو الذي حرَّضَ الكولونيل بيليسيي على إحراقِ الأبرياء في المغارة في رسالةٍ وجهها إليه بتاريخ 11 جوان1845 يأمره فيها قائلا: « إذا لجأ هؤلاء الأوغاد إلى كهوفهم، افعل مثل كافينياك في صبيحة، شدِّد في حرقهم مثل الثعالب
« Si ces gredins se retirent dans leurs cavernes, imitez Cavaignac au Sbehas, « fumez-les à outrance comme des renards»
العقيد كافينياك لمن لا يعرفهُ هو من سُلالة الحقد الفرنسية الذي قام بحرق قبيلة «بني صبيح» في مدينة الشلف سنة 1844 حين رفضت هذه القبيلة الثائرة الشجاعة الخضوعَ لسلطات الاحتلال الفرنسي الغاشم.
هذا المقال إلى أصحابِ الذاكرةِ القصيرة الذين نسوا التاريخَ فأنستهُم شياطينُهم أنَّ ما يرفلون فيه من نِعَمٍ وما يتبطّرون به من ملذّات ما كانوا ليحلموا بها فضلاً على أن يتمتّعوا بها لولا الرجالُ الأُباة الذين رفضوا حياةَ الذل وقاوموا من أجلِ شرفك وشرفِ أمّتك كلّها . لولا رِباطُ أولئك الأسود وشجاعتُهم ورُجولتُهم وأنَفَتهم لكنتَ (خمّاساً) عند الفرنسيّ يسرقُ أرضَك ويلتهمُ رزقك ويدوسُ على عِرضك. هذا المقال إلى أولئك الذين تمكَّنَ الوَهَنُ من نفوسِهم فعشقوا الدنيا عشقاً صرفَهُم عن التفكيرِ في الموتِ الذي يفرّونَ منهُ وهو مُلاقيهم يظنونَ قيمةَ الإنسان في أيامٍ يعيشُها حياً دون اكتراثٍ لقِيَمِ الكرامةِ والعزّةِ والحرية. هذا المقال إلينا جميعاً حتى نرجعَ إلى تاريخِنا الذي هو حصنُنا في وجهِ كلِّ من يتربَّصُ بنا نقرأُ فيهِ كيفَ يكتبُ الأحرارُ مجدَهم.. وكيف يُدافعُ الأُباةُ عن وطنِهِم وعرضهم.. وكيف يعيشُ الإنسانُ حراً لا يرضى بالضّيم ولا يقبلُ المهانة.
هذا المقال إلى أهلي الصامدين في غزة الصابرة لأقولَ لهم: في تاريخِ الجزائر ما يُثبّتُ الله به قلوبَكم.. وفي تاريخ الجزائر ما يؤكّدُ أنكم تسيرون على الطريقِ الصحيح.. وأنّكم الطائفةُ المنصورةُ بإذن الله. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}