التحالفات من سوق الأيدولوجيات إلى أيدولوجيات السوق

كشف الأداء التحليلي العربي لما جرى مؤخراً من حرب صاروخية بين إيران والكيان، عن تقارب يكاد يكون، على الأقل في الفضاء الأزرق، كبيرا في الرؤى بين النخب والعامة، من دون معرفة خلفية الظاهرة، هل لتراجع مستوى النخب أم لتصاعد مستوى العامة ‪!‬ وذلك من خلال ما تبدى من عدم القدرة على تجاوز تقاليد التحليل السابقة …

يونيو 30, 2025 - 20:10
 0
التحالفات من سوق الأيدولوجيات إلى أيدولوجيات السوق

كشف الأداء التحليلي العربي لما جرى مؤخراً من حرب صاروخية بين إيران والكيان، عن تقارب يكاد يكون، على الأقل في الفضاء الأزرق، كبيرا في الرؤى بين النخب والعامة، من دون معرفة خلفية الظاهرة، هل لتراجع مستوى النخب أم لتصاعد مستوى العامة ‪!‬ وذلك من خلال ما تبدى من عدم القدرة على تجاوز تقاليد التحليل السابقة التي لم تعد تنفع معها الاليات القديمة في القراءة والتفكيك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، عدم الاستطاعة في مبارحة مشاعر الانتماء لطرف أو روح الكراهية لطرف آخر، وما تسببه من تعمية على العقل في تناول الظاهرة بأكثر دقة وموضوعية، إذ طغى على الخطاب التحليلي في عموم ما تم رصده، عدا طبعا حالات استثنائية، إما السخرية من إيران وإسرائيل على حد سواء، أو التهويل من قدرات إيران والتهوين مما في جعبة إسرائيل من دفاعات باليستية، لكن قليل هم من امتد بهم النظر إلى قواعد الدعم الخلفي، أو ما يسمى بالتحالفات وكيفية تصرفها حيال ما حدث، بغرض فهم أوسع لما جرى وما سيجري مستقبلا في معركة الحسم الجيوسياسي بالمنطقة.‬
فإذا كان العالم اليوم يتغير بإيقاع رهيب من حيث السرعة والحجم، في كل أنماط سلوكه في العلاقات والثقافات وقواعد التلاقي والتنافر في استراتيجية تحقيق المصالح، فإنه لأولى وأجدى بالعقل العربي التحليلي اليوم أن يرتقي في محاولات فهمه واستيعابه لهذه التغيرات، كي يسعهُ التعامل بحكمة بإيزائها، ويدرأ بذلك عن نفسه عنصر المباغتة والاستغفال الذي به يؤخذ أخذاً في كل المعارك والحروب سواء تلك التي خاضها في مرحلة التحارب الكلاسيكي أو التي يخوضها اليوم في عالم غاية في التعقيد، جيوسياسيا وتكنولوجيا.
الموقف الروسي وتجدد القراءات العربية القديمة
وفي هذا السياق تحديدا طرح الملف الروسي في إطار النقاشات المتعلقة بدور الاحلاف والتحالفات، أين تشظت الآراء وانشقت التوجهات من خلال القراءات غير ذات التأسيس الموضوعي على معطيات واضحة وذكاء فائق ورصيد معرفي رصين، بعضهم عاد، في مسعى تقوية حجته بإدانة الدور الروسي في حرب ايران مع الكيان، القهقرى إلى عهد الإمبراطورية السوفياتية، مؤكدا أن موقفهم السلبي حيال الصراع العربي والإسلامي الصهيوني، هو تاريخي لا بل ومبدئي، واستدعى في هذا السياق البنية الاثنية للنخب الحاكمة في روسيا وقبلها الاتحاد السوفياتي باعتبارها تتشكل من عديد الشخصيات اليهودية الوازنة في مجتمع السياسة ودائرة الحكم، كمؤثر في استمرارية الاتجاه المضاد لمصالح العرب المسلمين في صراعهم مع الكيان والامبريالية الصهيونية العالمية التي تسنده، وهو – حسبه – ما يفسر عدم التحول في سلبية هذا الموقف الروسي وانتقاله إليه حكام موسكو بالوراثة من العهد السوفياتي.
لكن ما قد يغيب عن حملة مثل هاته الرؤى ذات التأسيس المرجعي على قواعد “نظرية المؤامرة” هو عدم إدراك ما يستجد بسرعة في عصر السرعة هذا من تحولات على صُعد التحالفات وطبيعة تشكلها والأهداف المتغيرة والثابتة فيها، إذ لم يعد الأمر هذا مبينا مثلما سلف على خلفيات أيدولوجية سابقة، فقد انهارت منظومات هذا التحالفات وبدأت تتبلور أشكال جديدة في التعاضد والتكاثف الدولي، بين قوى ودول ليست بالضرورة ذات ارتباط أيديولوجي أو اثنتي فيما بينها، بل الأمر صار يخضع لحسابات مِليميترية وسنتيمية (السنتيم النقدي) في استراتيجية تحصيل المصالح.
أمريكا والعلميات الجراحية العسكرية المحدودة
لقد بدت الولايات المتحدة الامريكية حريصة على عدم إطالة عمر حرب إيران مع الكيان، وذلك خضوعا لهذا الحساب الاستراتيجي، الذي من خلاله يتأكد للجميع جنوح إدارة ترامب لبراغماتية السوق وضرورة كسب معركتها واعتبارها أم المعارك اليوم وغدا، أكثر من الاهتمام بكسب أي معركة حربية إقليمية أو دولية، ومن ثم كان خيارها الهجوم التقني الدقيق والمحدود واقفال الملف بأقصى ما يمكن من سرعة، وعدم تقديم الفرصة على طبق من ذهب للصين المكتفية عسكريا بحامية حدودها الجغرافية القومية، كي تزداد قوة وتستفرد باقتصاد العالم فيما لو اتسع نطاق الحرب وتورطت أمريكا أكثر فيه، فالصراع الصيني الأمريكي يمضي بحسابات دقيقة وتوزيع أكثر دقة لكل منهما لزمان ومكان التنافس باتجاه خط النهاية الفارقة الذي تقول بعض الدراسات أن أفقه سيكون 2050.
هذا هو التفسير الأقرب إلى المنطق الذي يمكن من خلاله فهم طبيعة المشاركة الامريكية المحدودة في النطاق والواسعة في الأهداف، في حرب الكيان على إيران، طبعا هذا لا يعني أنه ليس ثمة عناصر أخرى في الاجندة الامريكية من رواء سلوكها البراغماتي في الحرب الذي قادها إلى أن تقتصد في حركة العضلة، وتبدو أكثر سخاء في حركة العقل والحيلة.
الروس حسابات الزمكان
من جانبهم، لم يكن الروس أدنى حنكة وذكاء في رسم الموقف حيال حرب الكيان على إيران، ذلك لأنهم رأوها على نحو ما، كهدية من السماء، تجعلهم لا يتمنون نهايتها (الحرب) بسرعة، وبالمقابل ألا تتسع في النطاق أكثر، مما قد يتهدد مصالحها، ويعقد من التحديات التي تواجهها، كحربها على أوكرانيا المدعومة بقوة من الغرب الأوروبي، بكل الوسائل والمعدات.
رغبة الروس في ألا تنتهي الحرب بسرعة، منبعها أن ذلك سيتيح لهم تحصيل مزايا اقتصادية من خلال بيع النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي، وهو ما قد يغدو متنفسا لاقتصادها الذي يعاني كثيرا من جراء العقوبات التي فرضها الغرب على نظام بوتين ورجالاته مذ أعلن هذا الأخير الحرب على أوكرانيا في فيفري 2022، والمستمرة اليوم وفق إيقاع متنوع.
كما أن استمرار الحرب سيغير من اهتمام الغرب الأوروبي بحرب الروس على أوكرانيا، ما قد يسمع للروس بإدارة المعارك بشيء من الراحة النسبية وفق ما يرونه فعالا في العدة والعتاد، والتدبير الاستراتيجي، خصوصا بعد الضربات التي تلقاها الجيش الروسي في الآونة الأخيرة، تأثرا بالتغييرات في استراتيجية الحرب التي اتبعتها أوكرانيا.
أما عدم رغبة الكرملين ،بالنقيض من ذلك، في عدم اتساع نطاق الحرب، فذلك مخافة من أن تفلت الأمور بالمنطقة، وتضعف قدرتهم على التحكم الجيد في الأمور ما قد يعرض أمنها ولا سيما في السياق الحربي الوجودي مع أوكرانيا للخطر,
نهاية الأداء التحالفي الكلاسيكي
إذن نحن هنا بإيزاء مظهر جديد من العمل أو الأداء التحالفي الجيوسياسي الذي يقفز في معطياته الحسابية على ما سبق من تجارب تاريخية، كان لها أثرها على القوى العظمى في تصادمها وتخاصمها، تجعل من عدم الانخراط الشامل والكامل في الحروب الإقليمية عنوانها الرئيس، حتى لا تفقد ما تملك من قدرة على البقاء في حلبة صراع القمة الاقتصادي والحضاري الضاري اليوم.
فلعبة التوازنات هي مستمرة اليوم بين هاته القوى، لكنها باتت تدار بتفاصيل أخرى غاية في الدقة والتفصيل، لا يفلت من حسابتها رقم مهما كانت طبيعته في معادلة الصراع، ولم يعد الاندفاع الأعمى للقوى على الأرض وعبر السماء الأسلوب الوحيد المتبع (وإن كان لا يزال يحضر في جهات عدة خصوصا بالجنوب) في سياق الاستقطاب وكسب أهم مناطق النفوذ في العالم.
فالروس أحجموا عن دعم إيران بشكل مباشر باعتبارها حليفا جيوسياسيا لها، للغايات التي نوهنا إليها سلفا، ورضوا ضمنا وليس تصريحا، بأن تخطف أمريكا الإيرانيين جوا، على أن تكون الخطفة والضربة محدودة في الزمان والمكان، هذه المحدودية المشروطة التي لا يمكن تصور مبادرة الامريكان بالهجوم من دون اتفاق مسبق مع الروس حولها) هي الجزئية الأهم التي تشكل طبيعة التحالفات الجديدة التي كما أشرنا إليه سلفا تفرضها على جميع القوى العالمية اليوم واقع وأفق الصراع الدولي نحو الريادة، والذي يأبى أن يفرغ الجهد والمال والرجل في حروب إقليمية واسعة تتسبب لأي طرف بالتأخر عن هذا السباق المحموم تجاه السيطرة على العالم.
فالدول المنخرطة في هذا الصراع قابلة لأن تجمد مؤقتا وبشكل ضمني عملي تحالفها مع أي طرف ترى في دعمه أو الوقوف إلى جانبه في مرحلة ما مشتعلة بينه وبين خصمه الاقليمي، مسا بمصالحها، في ظل ما يفرضه السوق بمنطقه السائد اليوم، من ضرورة العناية أولا وأخيرا بالمصالح العليا للأمة، ومن ثم الاكتفاء بمراقبة هاته الحروب والمعارك والنزاعات وعدم التورط فيها من غير داع.
ختما، يمكن القول بأن العالم مقبل على دمار كبير على ضوء ما هو متضح من انتفاء أسس التحالفات القديمة التي ظلت قائمة على سوق الافكار قبل أن تتحول إلى أفكار السوق الصماء والعمياء، وعدم قدرة العقل العربي تحليلا وتدبيرا في استيعاب مثل هكذا معطى خطير سيجعله محل مباغتة دائمة، كونه لا يزال يستند على أدوات قديمة في فهم العالم وتقلباته وصراعاته.
بشير عمري