الذاكرة أهميتها ومقتضياتها بالنسبة للدولة الجزائرية الحديثة
السفير د. محمود براهم تمهيد ما الذاكرة سوى وعي بالتماثل الذاتي عبر الزمن وحامل للهوية وضامن لاستمراريتها وأمنها. وتوسعا سنقول إن الذاكرة الجماعية تصوغ الهوية وتحدد سلوك الدولة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فالذاكرة في رأي البعض شكل من أشكال الوعي الجماعي ومرآة تعكس العالم الاجتماعي وفي ذات الوقت نور يضيئه. إنها في آن …

السفير د. محمود براهم
تمهيد
ما الذاكرة سوى وعي بالتماثل الذاتي عبر الزمن وحامل للهوية وضامن لاستمراريتها وأمنها. وتوسعا سنقول إن الذاكرة الجماعية تصوغ الهوية وتحدد سلوك الدولة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فالذاكرة في رأي البعض شكل من أشكال الوعي الجماعي ومرآة تعكس العالم الاجتماعي وفي ذات الوقت نور يضيئه. إنها في آن واحد نموذج من المجتمع ونموذج للمجتمع، متواجدة في الحاضر أكثر منها في الماضي.
وكيف لمجتمع ما أن يحقق وجوده ويكتسب وعيه الذاتي بنفسه إن لم يكن قادرا على استحضار جملة من الأحداث الحاضرة والماضية ومراجعة الزمن والتنقل عبر محطاته باستمرار. فالذاكرة الجماعية هي حاملة لهويّة الدولة عبر سردياتها المٌؤسِسة الحقيقية. وحتى نحقق أمننا علينا النظر إلى ما وراء الأنا الحاضر والغوص في ماضي ومستقبل الوطن كي نحافظ على وحدته وسلامته من خلال المحافظة على ذاكرته الجماعية. وعمليا ذاكرة الجزائر الحبلى بأحداث جسام هي من حددت سلوك الدولة الجزائرية بعد استعادة استقلالها سنة 1962. ذاكرة صقلتها دهور من المقاومة المستميتة عن حرمة البلاد واستقلالها. ولا عجب أن نرى الجزائر تتكفل بعيد استقلالها بالدفاع عن المظلومين ممن عاشوا مثلها غبن الاستعمار وظلمه وتدفع بهم نحو الاستقلال دفعا. فعندما سقطت الجزائر سقطت إفريقيا كلها وعندما نهضت الجزائر نهضت إفريقيا كلها، وامتد وهيجها الثوري إلى العالم العربي والإسلامي وأعطى دفعا قويا لقضاياه المقدسة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وعملا على الحفاظ على هوية الأمة الجزائرية وسلامتها حاضرا ومستقبلا جعلت السلطات الجزائرية العليا من يوم 08 مايو من كل سنة يوما للذاكرة الوطنية وهو ذات اليوم الذي يوافق اندلاع انتفاضة 08 مايو 1945 المجيدة التي ضحى خلالها شعبنا على مذبح الحرية بـ 45000 شهيد والتي تعمل الدولة الجزائرية الآن من أجل استرداد حقه في الحقيقة.
إن بقاء أمة مرهون ببقاء ذاكرتها التي تمثل الأسمنت الذي يوحدها ويسمح بالتواصل بين أجيالها الحاضرة والماضية. وإذا كانت فرنسا اليوم لا تستنكف أن تنحني أمام “أرواح محاربيها الذي قاتلوا من أجل أهداف استعمارية توسعية ولا تعترف بوجود “حرب منسية”، فما بالك بالجزائر التي لم تتعافى بعد من رضوض العدوان الاستعماري الهمجي الفرنسي عليها؟
فرنسا الاستعمارية ونكران الجميل
بعد الثورة الفرنسية (1789) هاجمت الملكيات الأوروبية فرنسا من جميع الجهات وباشرت إنجلترا محاصرتها وتجويعها في وقت كانت خزيتيها خاوية. فمن أنقذ شعبها من المجاعة؟ إنها الجزائر التي منحتها قرضا بمليون فرنك ذهبي ودون فوائد. وبعد عودة السلم لم تسدد فرنسا دينها لأن البرجوازية الفرنسية آنذاك كانت ترى أن قرض المال لفرنسا يمثل شرف لدائنيها عليهم أن يكتفوا بشرف به. بل وأكثر من ذلك لقد حصلت في مدينة القالة الساحلية على مكان جعلته مستودعا تجاريا بعد التعهد بعدم تحصينه، فأخلفت الوعد وقامت بتحصينات عليه ولذلك غضب الداي ورمى القنصل الفرنسي دوفال Deval بمروحة فاتخذت فرنسا من ذريعة لغزو الجزائر.
كان غزو فرنسا للجزائر حرب غير شريفة لأنها لم تكن حربا بين خصمين متكافئين في القوة. لقد تميز القادة العسكريون الفرنسيون بإجرامهم المنقطع النظير. فعند عجز جيوشهم عن تحقيق النصر في الميدان يعمدون إلى حرق القرى والمحاصيل وتدخين السكان في المغارات وقطع الأشجار وسلب الممتلكات وبيع النساء والاطفال وذهب بهم الأمر إلى حدّ قطع آذان الجزائريين وجمعها في صناديق على سبيل التسلية. لقد أرسلوا عظام ضحاياهم إلى باريس لتزين متاحفهم وصنعوا منها مواد كالصابون وحتى الغذاء. أن تقاريرهم ذاتها تشهد على إجرامهم. راجعوا ان شئتم كتابات الجنرال سانت آرنو والمارشال، Saint-Arnaud بوجو Bugeaud والعقيد بان Pein وستقرؤن أشياء يندى لها جبين البشرية، أشياء تترفع الوحوش الكاسرة عن فعلها. ومع ذلك تواصلت مقاومة الشعب الجزائري لها دون توقف الى غاية العصور الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية وهي فترة ظن فيها الكثير أن الأمر قد استتب لفرنسا وأن الجو قد خلا لها لتبيض وتفرخ لكن هيهات هيهات.
سياق التاريخي لأحداث 08 مايو 1945
طالبت مجموعة صغيرة من النخبة الجزائرية بين 1898 و1900 بالمساواة السياسية بين الفرنسيين والجزائريين في إطار الاندماج لكن دون فائدة لأن فرنسا كانت، وهي محقّة، تشك في نواياهم فالأمير خالد كان قد راسل الرئيس الأمريكي ويلسون يطلب منه تمكين الجزائر من الاستقلال.
وخلال الحرب العالمية الأولى، تم تجنيد 173.000 جندي جزائري شكلوا الجزء الأكبر من القوة غير الأوروبية المعبأة على الجبهات الأوروبية كما تم تحويل 119,000 جزائري إلى الحاضرة الفرنسية للمشاركة في إعادة إعمارها. لم يكافأ هذا الجهد أبدا. لقد عاد أولئك الذين نجوا من هذه الحرب إلى الجزائر بأفكار تحررية ستؤتي أكلها لاحقا.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتكشف عن عورة الجيش الفرنسي وتفند سردية بطولاته المزيفة حول حرب الإبادة التي خاضها في الجزائر ضد شعب أعزل. احتلت ألمانيا فرنسا في بضع أسابيع بين مايو ويونيو 1940 وبموجب الهدنة المبرمة في 22 يونيو 1940، مُنحت حكومة المارشال بيتان Pétain في فيشي Vichy، حكما ذاتيا شكليا على بقية الإقليم الذي سمي مجازا “المنطقة الحرة”. كان جل المسؤولين الفرنسيين على غرار بيار لافال Laval، يؤمنون بالنصر النهائي لألمانيا ويرون من الصواب قبوله بل أن الفرنسيين شكلوا فيلقا من المتطوعين للقتال لصالح ألمانيا على الجبهة السوفيتية وأٌمرت القوات الفرنسية في شمال إفريقيا بمقاومة عمليات الإنزال الأنجلو سكسونية في 8 نوفمبر 1942. كان ذلك عار لا يمحى.
وبدء من 22 أغسطس وعلى نقيض الفرنسيين المتعاونين مع النازيين، خاضت فرقة المشاة الجزائرية الثالثة وفوج الرماة الجزائريون معركة مرسيليا وحرروها في 28 من نفس الشهر نهائيا رغم التحصينات الألمانية الرهيبة.
مجازر 8 مايو 1945
بعد هبوط الحلفاء