ذكريات من زمن الطلب: في الْمزَّة..

عبد العزيز بن سايب/ خرجتُ من مسجد الرفاعي وغادرت حي ركن الدين..ولَمَّا أستفقْ بعدُ مما حَدَثَ..لقاء الشيخ البوطي..ومشاهدة ارتباكه لعدم لقاء والده..الملا رمضان..ورؤية ذلك الوالد العالم الصالح.. فرحةٌ ممزوجة بغَصَّةٍ.. اقترح عليَّ بعدها صديقي مراد أن يأخذني لزيارة منطقة في دمشق..»المزَّة فِيلَّات».. قلت له: ماذا هناك؟! قال لي: سَنَزُور صديقا جزائريا «جمال»، وهو الأخ الأصغر …

مايو 5, 2025 - 19:24
 0
ذكريات من زمن الطلب: في الْمزَّة..

عبد العزيز بن سايب/

خرجتُ من مسجد الرفاعي وغادرت حي ركن الدين..ولَمَّا أستفقْ بعدُ مما حَدَثَ..لقاء الشيخ البوطي..ومشاهدة ارتباكه لعدم لقاء والده..الملا رمضان..ورؤية ذلك الوالد العالم الصالح..
فرحةٌ ممزوجة بغَصَّةٍ..
اقترح عليَّ بعدها صديقي مراد أن يأخذني لزيارة منطقة في دمشق..»المزَّة فِيلَّات»..
قلت له: ماذا هناك؟!
قال لي: سَنَزُور صديقا جزائريا «جمال»، وهو الأخ الأصغر للشيخ عبد المجيد بيرم..
وصلنا إلى المزَّة..واستقبلنا جمال بكل ترحاب وحفاوة وبشاشة..
والبيت بسيط..أصله مستودع..قَلَبَهُ صاحبُهُ إلى شقة للإيجار.. وهذه من مهارات الشوام..يمكنهم الاستفادة من كل شيء..وهي عبقرية نفعتهم في متقلبات حياتهم وظروفهم..
والبيت عبارة عن غرفتين وساحة كالصالون.. والمنافع من مطبخ وحمام..
جلسنا في ذلك الصالون..وجاء «جمال» بصينية.. فيها كؤوس زجاجية وقارورة ماء..فقط..وسكب لنا من ذلك الماء في الكؤوس، وقدَّمها لنا.. وقال: اشربوا واستمتعوا..
تناولتُ كأسا، وشربتُ ماءه..
وخاطبني مبتسما: ما رأيك؟
فاحترتُ بماذا أجيبُهُ.. وكأنه مُشْرَئِّبٌ لجواب خاص يُؤَمِّلُهُ..فقد كان يَرْقُبُ فراغي من الشرب بكل فرحة..فأجبته بجواب فضفاض يُرضيه..قُلْتُ: ما شاء الله.. الحمد لله على نعمة الماء..
فانفرَجَتْ أساريرُهُ بكل فرحة وهو يقول: أرأيت هذا الماء عجيب..!؟ لا مثيل له.. لا تحتاج أن تشرب معه شيئا..إنه «ماء الفيجة» يا سَادة..حُلْوٌ بذاته..لا يحتاج لشيء آخر معه..
كان داخلي يمور بالاستغراب..والتعجب من هذا الإعجاب الكبير بهذا الماء.. من «جمال».. لكني لم أرغب في إفساد فرحته وانتقاد مُستحسناته..
ولم أفهم سر هذا الماء إلا بعد طَوِيلِ الإقامةِ في بلاد الشام.. فـ «مَيَّة الفِيجة» من أسرار دمشق.. فكما يقولون: من شرب منها لا يَحْلُو له ماء بعدها..ولا بُدَّ أن يُعَاوِدَ زيارتها..
ولما علم «جمال» بقصتي اقترح عليَّ أن أقيم معه في هذا البيت فهو وحده الآن..لأني سأحتاج إلى النزول إلى وسط دمشق كثيرا ..حتى تتضح لي الأمور.. خصوصا أن «المعضمية» حيث كنت مقيما بعيدةٌ جدا..بينما النقل من المزة إلى وسط دمشق أيسر وأسرع..
كما يوفِّرُ عليَّ كلفة الأجرة.. فالبيت مدفوع الأجرة إلى آخر الشهر.. خصوصا أني لا أعلم مصيري في هذه البلاد.. البقاء أو المغادرة.. فالأمر موقوف في نظري على قَبُولي في جامعة دمشق..! فلا داعي لاستئجار بيت خاصٍّ..
سُررت بهذا الاقتراح كثيرا..فهو مريح جدا ومناسب لمهمتي..
وهذه الشقة في الحقيقة استأجرها الشيخان الفاضلان عبد المجيد بيرم وعبد الناصر قارة.. كلاهما من إخوتنا الكبار في دمشق.. فكانا في سنتهما الأخير في كلية الشريعة.. السنة الرابعة.. ولكنهما قررا الانتقال إلى بيت آخر بداية هذه السنة واستأجرا بيتا في «المزة جبل».. وبقيت لهم 3 أسابيع فقط في هذه الشقة..فكان جمال مقيما فيها وحده، فالشيخان عبد المجيد وعبد الناصر لَمَّا يلتحقا بعدُ بسوريا، فهما في الجزائر وفَوْرَ وصولهما شهر أكتوبر سيستقران مباشرة في بيت «المزَّة جَبَل» ..
كما أنَّ «جمال» بعد انتهاء دورته في مجال الحاسوب سيسافر أيضا..وتُسَلَّم الشقة إلى صاحبها..
وبالفعل نقلت حقيبتي إلى «المزة فيلات» فكانت أياما طيبة في مدة الانتظار حول موضوع تسجيلي في كلية الشريعة..
ومن سعادات المناسبات في هذا البيت أنه على مقْرُبَةٍ من «المسجد المحمَّدِي» الذي كان فَارِس مِنبره سيدي الشيخ عبد القادر الأرنؤوط رحمه الله تعالى وجزاه كل خير.. الذي تعرَّفتُ عليه أوَّلَ تَعَرُفِي عليه في خطبه بهذا المسجد..وقد استمتعتُ كثيرا بذلك، واستفدتُ عِلميا، وفَنِّيًا في طريقته في عرض الخطبة المتميزة.. فكان نِعْمَ الجوار..
ومن ذكريات الإقامة في المزة فيلات التعرف على أخ لبناني كان يزورنا ونجتمع في صلوات الجماعة في الجامع..
سبحان من خَلّقَه وجمع له بين وسامة وجمال الخَلْق وبين الدماثة العجيبة النادرة في الخُلُق..لم أر مثله..كأنه من غير هذا العالم رغم حياة الرفاهية التي يَرْفُلُ فيها..لو صدق القول «بَشَرٌ ملائكيون» لكان أحدَهم بلا ريب عندي.. هو أبو إبراهيم..من عائلة سَرِيَّة..يقيم مع أسرته في المزة فيلات بدمشق..
وفي ليلة بعد خروجنا من المسجد عقب صلاة العشاء أَصَرَّ علينا بتناول العشاء معه في بيته..وعند دخولنا غرفة الاستقبال.. وجدنا أخاه الصغير وهو طالب ثانوي جالسا وبين يديه على مكتبه حاسوب بيتي.. وهي أول مرة أرى حاسوبا على بُعْدِ أَشْبَارٍ.. فنحن في سبتمبر 1988..ولم تكن الحواسيب وقتها مبذولة كاليوم..
وقد تعلَّق قلبي بالحاسوب أيام الثانوية من حصة كان يبثها التلفزيون الجزائري باللغة الفرنسية عن عالم المعلوماتية وكيفية استعمال الحاسوب تحت عنوان «Octo-Puce» حَبَّبَتْهُ إليَّ وشَوَّقَتْنِي إليه..ولما شَعَرَ الشابُّ بذلك اقترح علي تعليمي باختصار كيفية فتحه واستعماله..وبالفعل جلست معه دقائق..
ثم انتقلنا إلى سُفرة العشاء..وكانت عبارة عن «حواضر»..أي ما هو حاضرٌ في البيوت، فلا يحتاج إلى طبخ أو كبير عناء..من زيتون وطماطم وأجبان تقليدية وبيض وحلاوة «حلوة الترك» و «مارتديلا» وهي مثل «الكاشير» عندنا..فتوجستُ خيفةً منها..فهي تُشبه ما وُزِّعَ علينا في الطائرة من طعام بعد العبور على «آثينا».. فطَمْأَنَني بأنها حلال.. فالعبرة بمن صنعها لا بتشابه أشكالها..
ومن ذكريات المزة حديقة كانت تتوسط الطريق بين البيت والجامع..كنتُ كثيرا ما أنفرد فيها بنفسي متفكرا في مصير هذه المغامرة.. ضاربًا أخماسا بأسداس..وفي إحدى المرَّات وأنا في غمار أفكاري المتصارعة إذْ بيدٍ تقبض على كتفي الأيمن بحنانٍ.. ويقول لي صاحبها «هَوِّنْ عليكَ..» والتفتُ فإذ به رجل عجوز ألقى ما قال وانطلق.. حتَّى إني لم أتبين ملامح وجهه..!؟
وبالمناسبة «المزة» كانت من قرى غوطة دمشق، وهي عتيقة..ربما قبل العهد الروماني، ثم ضُمَّتْ إلى العاصمة مع التوسع العمراني، ولها تاريخ قديم.. ويقال أقام فيها عدد من الصحابة كسيدنا دِحية الكلبي وأسامة بن زيد رضي الله عنهما.. ويُنْسَبُ إليها عدد من أعلام الأمة، كالحافظ المتفنن جمال الدين أبو الحجاج يوسف الْمِزِّي المتوفى سنة 742هـ، صاحب كتاب «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» المطبوع في 35 مجلدا..
وهكذا سَكَنْتُ في «المزة فيلات» أسابيع..ولكن في أول ليلة منها بِتُّ أَرْقُبُ الصبحَ.. لأني على موعد مع سيدي الشيخ البوطي في كلية الشريعة للنظر في موضوع تسجيلي…