الشيخ الدكتور عبد الهادي لعقاب كما عرفته
كمال أبوسنة/ بين الحين والآخر، يفجعنا الموت بالتفريق بين الأحباب، من غير سابق إنذار، فيعظم الرَّزء بسبب ذلك، ويشتد ألم الفُرقة… لقد غادر أخي الحبيب، الشيخ عبد الهادي ـ رحمه الله ـ دنيانا، وهو الذي ملأها علمًا نافعًا، قد استقاه من القرآن الكريم، الذي عاش معه شبابه وكهولته، حافظًا، متعلِّمًا، ومعلِّمًا. وها هو ذا يرتقي …

كمال أبوسنة/
بين الحين والآخر، يفجعنا الموت بالتفريق بين الأحباب، من غير سابق إنذار، فيعظم الرَّزء بسبب ذلك، ويشتد ألم الفُرقة…
لقد غادر أخي الحبيب، الشيخ عبد الهادي ـ رحمه الله ـ دنيانا، وهو الذي ملأها علمًا نافعًا، قد استقاه من القرآن الكريم، الذي عاش معه شبابه وكهولته، حافظًا، متعلِّمًا، ومعلِّمًا. وها هو ذا يرتقي إلى الحياة الأخرى الأبدية، والجزائريون أشدّ حاجة إلى علمه، بعد أن قضى أغلب سنيّ عمره مجتهدًا في طلب علم القراءات خصوصًا، وسائر العلوم العربية والشرعية، حتى أصبح من النادرين الذين يُشار إليهم بالبَنان في فنّه الذي أتقنه، وتفوّق فيه على كثير من أقرانه، وهو علم القراءات ومتعلّقاته من العلوم…
لقد أحسستُ بغربة قاتلة حين بلغني نبأ وفاة أخي العالِم المجدّ، المجتهد، المتواضع، عبد الهادي لعقاب ـ رحمه الله ـ، إذ اختطفه الموت في ذروة نضجه العلمي، وكان المرجوّ أن يكون من أعمدة التعليم القرآني المتخصص في جامع الجزائر، الذي كنا ننافح عن مشروعه، تارة في وجه الحاقدين، وأخرى في وجه المخدوعين. وكنا نرجو من الله، بصدق وإخلاص لا نبتغي به جزاءً ولا شُكورًا، أن يتحقق الخير من خلاله في ميدان العلم والتعليم، وبثّ الخير بشموله. وها هو ذا أحد أعمدة تعليم القرآن ونشره، قد انهار في لحظات وجيزة، ليخلّف فراغًا كبيرًا، ويترك ثغر علم القراءات وقد كان الحارس البصير، لا يعرف الكلل في الدفاع عن حياضه، ونشر أحكام كتاب الله الذي اصطفى لحمله أهل القرآن، الذين تعلّموه وعلّموه، فكانوا خير الناس…
لقد عرفتُ الشيخ عبد الهادي منذ سنين طويلة، جمعتنا فيها الدعوة إلى الله، ومحبّتنا للقرآن وعلومه. وقد فرح فرحًا شديدًا، وطبع قبلة على جبيني يوم بلغه أنني ختمتُ تفسير القرآن الكريم كتابةً. وكثيرًا ما تدارسنا آياته معًا، ونحن في سيارته، متوجّهون إلى نشاط دعوي مشترك، أو حين كان يتطوّع لإيصالي إلى منزلي بعد مشاركته في التدريس بمسجده يوم الجمعة. وكان كثير السؤال عن دقائق الفقه، أو لطائف التفسير، أو أسرار اللغة العربية، التي كان أحد خطبائها البارعين. وقد حدّثني ذات مرة، ونحن في طريقنا إلى غاية مشتركة، أنه ينظم أرجوزة مطوّلة في علم القراءات، وقرأتُ عليه يومها بعض الأبيات من أرجوزة لي في علم التفسير، فطلب مني نسخة منها، إلا أنني اعتذرتُ حينها لعدم اكتمالها بعد. وما زلت أذكر أنه حين دعوتُه لشرح متن الجَزَرِيّة في أحكام التجويد، ضمن دورة أعددناها لمجموعة من الشباب، لبّى الدعوة من غير تردّد، وعاش مع هؤلاء الشباب أربع جُمَع، يشرح المتن، وأجاز بعضهم ممن حفظه عن ظهر قلب.
زرتُ الشيخ عبد الهادي لعقاب في يوم من الأيام، فوجدته حزينًا، مع أنه كان ممن يسعد بما يحمله في صدره من آيات الكتاب الحكيم، وما يحوزه من علومه. فلمّا سألته عن سبب حزنه، شكَا إليّ من بعض البطّالين، الذين لا همّ لهم سوى الأذى، والكذب، والتزوير، والنَّيل من أعراض المؤمنين. واستشارني في ترك العمل المسجدي، والتفرّغ للتعليم الجامعي، فقلت له: “قد يجوز ذلك في حقي لأني من العوام، أما أنت، فلا يحسن بك التخلي عن العمل في المسجد، لأنك من العلماء الذين فتح الله عليهم بعلم نافع، وحق عامة الناس في التعليم كحق طلبة الجامعة الذين يستفيدون من خبرتك الأكاديمية”.
لا يزال صدى صوته في أذني، يحرّك في قلبي الأشجان، حين كان يتّصل بي بعد انقطاع بسبب انشغالاتنا، ليسأل عن حالي، وعن نشاطي، وما أكتبه من جديد، ونتواعد على اللقاء قريبًا، فتُفرّق بيننا مشاغل الحياة، ويتأخر اللقاء، فأبادر بالاتصال به، فأجد في صوته المودة والمحبة والتعاطف… وها هو ذا الموت قد حال بيننا، فمضى إلى ربّه، وبقيتُ أعيش غُربتي بعد أن فقدتُ الكثير من الأحباب الذين يُؤنس بهم وتُعاش الحياة في أكنافهم…
فاللهم ارحم عبدك، ومحبك، وخادم كتابك، رحمةً يُسَرّ بها، بما أعددتَ له من نعيم مقيم، وألحقنا به غير مُفتونين ولا فاتنين… آمين.