المجاهد الملازم الأول فرحاني سالم بن مسعو

بقلم الباحث: طارق عزيز بن الطيب فرحاني تُعدّ حياة المجاهد سالم بن مسعود فرحاني (1929–2012م) نموذجًا حيًّا للتفاني الوطني والالتزام بالواجب تجاه الوطن والمجتمع. فقد امتزجت في شخصيته صفات الشجاعة والصبر والإخلاص، بدءًا من نشأته في أحضان أسرة محافظة بدوار المزرعة بلدية تبسة، مرورًا بمشاركته الفاعلة في الثورة التحريرية المباركة، وتحمله مسؤوليات جسيمة في سلك …

أكتوبر 8, 2025 - 21:02
 0
المجاهد الملازم الأول فرحاني سالم بن مسعو

بقلم الباحث: طارق عزيز بن الطيب فرحاني

تُعدّ حياة المجاهد سالم بن مسعود فرحاني (1929–2012م) نموذجًا حيًّا للتفاني الوطني والالتزام بالواجب تجاه الوطن والمجتمع. فقد امتزجت في شخصيته صفات الشجاعة والصبر والإخلاص، بدءًا من نشأته في أحضان أسرة محافظة بدوار المزرعة بلدية تبسة، مرورًا بمشاركته الفاعلة في الثورة التحريرية المباركة، وتحمله مسؤوليات جسيمة في سلك الأمن الوطني بعد الاستقلال، وانتهاءً بدوره المدني والإصلاح الاجتماعي في قيادة المجلس الشعبي البلدي لبلدية المزرعة. تُظهر سيرته مسار رجل عاش حياته كرسالة وطنية، عاكفًا على خدمة بلده ومجتمعه بكل تفانٍ وعزم‪.‬‬
أولا: المولد والنشأة
وُلد المجاهد سالم بن مسعود بن أحمد فرحاني، سنة 1929م في دوار المزرعة، أحد دواوير بلدية تبسة بالشرق الجزائري، في أسرة محافظة متمسكة بالقيم الإسلامية والأخلاق الفاضلة، ومشدودة بالمبادئ الوطنية الأصيلة. كانت البيئة التي نشأ فيها سالم، بيئة ريفية تتسم بالبساطة والتلاحم العائلي، حيث تعكس حياة أسرته نمط حياة سكان تبسة التقليدي، القائم على الفلاحة وتربية الماشية‪.‬‬
والده، السيد مسعود بن أحمد فرحاني، عاش حياة عائلية واسعة، إذ تزوج مرتين، فأنجب من زوجته الأولى أبناءه: محمد، الطاهر، وعلي، ومن زوجته الثانية السيدة نونة بن المبروك عبد المالك أبناءه: أحمد، يوسف، الصادق المعروف بـ “شادي”، وسالم نفسه. هذا التنوع العائلي شكّل إطاراً اجتماعياً غنيّاً، يربط بين أفراد الأسرة بروابط قوية من المحبة والتعاون، ويُغرس في نفوس الأبناء قيم المسؤولية والعمل الجماعي منذ الصغر‪.‬‬
كما هو شأن معظم العائلات الريفية في تبسة، كان أفراد أسرة السيد مسعود فرحاني يمارسون الفلاحة ورعاية المواشي لتأمين قوتهم اليومي. وقد كانت حياتهم تتوزع بين مواقع متعددة بحسب فصول السنة؛ ففي فصلي الربيع والصيف كانوا يقيمون في مضاربهم ببريغيثة التابعة لدوار المزرعة، بينما في فصلي الخريف والشتاء كانوا يتنقلون جنوباً للاستمتاع بأماكن أكثر دفئاً، مثل فم السد، الدرمون، رأس العش، تخوم الجبل الأبيض، ووادي المشرع، حيث توفرت لديهم مياه الشرب وظروف معيشية ملائمة‪.‬‬
وفي خضم هذه الحياة الريفية، لم يكن سالم وعائلته بمعزل عن واقع البلاد، إذ كانوا يعيشون تحت وطأة السياسة التعسفية للسلطات الاستعمارية الفرنسية، التي سعت إلى تقييد حرية الجزائريين ومصادرة مواردهم، ومحاولة القضاء على كل مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية الأصيلة. وقد شكّلت هذه التجارب المبكرة، مع ما رافقها من صعوبات وتحديات، لبنة أساسية في تكوين شخصية سالم الوطنية، وغرسّت فيه بذور الوعي المقاوم، التي ستتجسد لاحقاً في انخراطه الفاعل في صفوف الثورة التحريرية‪.‬‬
ثانيا: التحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني
رغم القمع السياسي والاجتماعي الذي فرضته السلطات الاستعمارية الفرنسية، ظلّت إرادة الشعب الجزائري أقوى من كل السياسات التعسفية. وكان يوم الأول من نوفمبر 1954م هو اليوم الموعود، الذي انتظرته الجزائر طويلاً، حيث اندلعت فيه الثورة التحريرية المباركة معلنة بداية زوال الاستعمار الفرنسي من كامل الأراضي الجزائرية. وفي هذا السياق الوطني الملهِم، سارعت عائلة مسعود بن أحمد فرحاني إلى المشاركة في معركة الكفاح الثوري، مدفوعة بالوعي الوطني وروح التضحية‪.‬‬
التحق الابن الأكبر، الصادق المكنى شادي، بصفوف جيش التحرير الوطني، وشارك مع إخوانه المجاهدين في العديد من العمليات العسكرية والهجومات التي شهدتها المنطقة، مكتسباً خبرة قتالية وشجاعة استثنائية. ولم يكن شقيقه سالم أقلّ حماسة، فقد التحق بدوره بصفوف جيش التحرير الوطني سنة ‪1957‬م، ليصبح جزءاً من تشكيلة جيش التحرير الوطني الناشطة في جبال أرقو ومناطق تبسة المحيطة. وقد أظهر المجاهد سالم خلال هذه الفترة شجاعة وإقداماً كبيرين، متميزاً في المعارك وعمليات الكمين والهجوم على المواقع الاستعمارية‪.‬‬‬
وللأسف، لم تخلُ هذه المسيرة من الفقد، ففي ديسمبر 1958م، فقد المجاهد سالم شقيقه الصادق “شادي”، الذي استشهد رفقة رفيقه المجاهد بوزيدة رابح، خلال معركة ضارية مع وحدة عسكرية فرنسية فيمرتفعات كاف النسورة الواقعة بتراب الناحية الثالثة من المنطقة السادسة بتبسة، وهو حدث ترك أثراً عميقاً في نفس سالم، وزاد من إصراره على مواصلة الكفاح والنضال حتى تحرير الجزائر‪.‬‬
النشاط الثوري ومهامه العسكرية
واصل المجاهد سالم بن مسعود فرحاني نشاطه الثوري بكل صبر واحتساب، مستلهماً عزمه من دماء الشهداء الذين سبقوه، ومعه إصرار لا يلين على مواصلة النهج الوطني الذي بدأه المجاهدون الأوائل. وفي الفترة الممتدة من ‪1959 ‬إلى 1960م، تم تكليفه بمهمة الشؤون العسكرية على مستوى قسمة المزرعة التابعة للناحية الثالثة [الشريعة] من المنطقة السادسة تبسة، الولاية الأولى أوراس النمامشة‪.‬‬‬
كان تنظيم القسمة قائمًا على توزيع المهام بدقة لضمان سير العمل الثوري بكفاءة، حيث تولى عبد المالك العربي بن محمد منصب أمين القسمة، بينما كُلّف سالم بن مسعود فرحاني بمهمة الشؤون العسكرية، ليشرف على العمليات القتالية والتدريب والتنظيم الميداني. وقد تولى روابحية محمد بن صالح مهام الشؤون السياسية، فيما كان غلاب الباهي مكلفًا بالأخبار وجمع المعلومات الاستخباراتية، بينما اعتنى بن نجوع الشريف بالتموين وتوفير الاحتياجات اللوجستية للقسمة، ليشكل هذا الفريق نواة متكاملة للعمل الثوري المنظم‪.‬‬
هذا التوزيع الهيكلي لم يكن مجرد تنظيم إداري، بل كان أساساً لاستمرارية العمل الثوري وتأمين التنسيق بين مختلف الجوانب العسكرية والسياسية والإعلامية واللوجستية داخل القسمة، مما سمح للمجاهد سالم بالتركيز على مهامه العسكرية وتنفيذ العمليات بكفاءة واحترافية، بما يعزز قدرة المقاومة في مواجهة الاحتلال الفرنسي‪.‬‬
ثالثا: معركة جبل أرقو جوان 1960.
في خضم مهامه الوطنية، واصل المجاهد سالم بن مسعود فرحاني مع رفاقه من أعضاء قسمة المزرعة نشاطهم الثوري بلا كلل، مؤدّين وظائفهم بكل ثبات، ومتصدين للسياسات الاستعمارية الفرنسية في المنطقة، وحاثين المدنيين على الالتفاف حول الثورة وتقديم كل الدعم الممكن للمجاهدين، إلى أن وصل بهم الأمر إلى شهر جوان 1960م‪.‬‬
في اليوم السادس من جوان 1960م، خاض المجاهد سالم فرحاني مع رفاقه معركة شرسة في موقع جبل أرقو والمرفق المسمى الزبيس المطل على ثليجان، حيث أبدى المجاهدون شجاعة وإقداماً استثنائيين، وكانوا في مواجهة مباشرة مع وحدات الجيش الفرنسي التي استخدمت خلالها جميع أنواع الأسلحة الحربية الحديثة آنذاك. انتهت المعركة بسقوط عدد من المجاهدين في الأسر، من بينهم: سالم بن مسعود فرحاني، بوزيدة محمد بن يوسف، غلاب الباهي، عبد المالك العربي المكنى محمد بن حمة، وحسين الحمزة، في حين استشهد كل حارث الباهي، امحمد جدي، ونجاة المجاهد أحمد بن بوضياف عبد المالك‪.‬‬
بعد الأسر، نُقل المجاهدون إلى سجن تبسة، حيث تعرضوا لصنوف التعذيب الشديد من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية، قبل أن يتم تحويلهم إلى سجون ومعتقلات أخرى مثل سجن لمباز بباتنة ومعتقل الملاحة بعنابة، حيث ظلوا محتجزين حتى استقلال الجزائر، محتفظين بعزيمتهم وإيمانهم بالثورة وبالحرية التي كافحوا من أجلها‪.‬‬
رابعا: مسيرته في سلك الأمن الوطني (1963–1987م)

بعد استقلال الجزائر، انخرط المجاهد سالم بن مسعود فرحاني في سلك الأمن الوطني، مواصلاً خدمة وطنه لكن في إطار مؤسسات الدولة، محافظاً على روح الالتزام والانضباط التي ميّزت مسيرته الثورية. بدأت خطواته العملية في مدينة الجزائر العاصمة ضمن وحدة التدخل، حيث تلقى تدريبات مكثفة واكتسب خبرة ميدانية مهمة، قبل أن ينتقل إلى مدينة سيدي بلعباس للمشاركة في دورة تكوينية، أعادته بعدها إلى مقر عمله لمباشرة مهامه الجديدة‪.‬‬
في سنة ‪1968‬م، حوّل إلى ولاية تبسة، حيث عمل في وحدة الأمن بالحي البلدي بمدينة تبسة، ثم التحق لاحقاً بـ مصالح شرطة الحدود، مكلّفاً متابعة الأمن في المعابر الحدودية الهامة، ومنها: رأس العيون وأم علي، ما أتاح له الاطلاع على أهمية الدور الأمني في حماية سيادة البلاد وتأمين الحدود‪.‬‬‬
في سنة ‪1978‬م، انتقل سالم فرحاني إلى مدينة بئر العاتر، حيث واصل نشاطه الأمني حتى سنة ‪1983‬م، وهي السنة التي تُوّجت مسيرته بترقيته إلى رتبة ملازم أول في سلك الشرطة الجزائرية. تم تكليفه بقيادة القطاع الممتد من عقلة أحمد إلى بتيتة، وهي مسؤولية جسيمة أدارها بكفاءة ومهنية عالية، ليواصل تأدية مهامه بكل تفانٍ حتى إحالته على شرف المهنة سنة 1987م، بعد مسيرة استثنائية دامت24 سنة من الخدمة والعطاء، كانت خلالها سيرته مثالاً يُحتذى به في الصرامة والإخلاص والانضباط داخل صفوف هذا السلك الوطني‪.‬‬‬‬
‪ ‬‬
خامسا: توليه رئاسة المجلس الشعبي البلدي لبلدية المزرعة

بعد تقاعده من سلك الأمن الوطني، تفرغ المجاهد الملازم الأول سالم بن مسعود فرحاني لشؤونه الخاصة، مستفيداً من خبراته الطويلة في خدمة الوطن والمجتمع. وفي سنة ‪1990‬م، قرر المشاركة فيانتخابات المجالس الشعبية البلدية، حيث ترشح ضمن قائمة حزب جبهة التحرير الوطني ببلدية المزرعة، ولاية تبسة. خاض سالم حملة انتخابية مكثفة، أظهرت فيها شخصيته الوطنية وسمعته الطيبة، وهو ما انعكس على نتائج الانتخابات، إذ فاز بأغلبية ساحقة وتولى رئاسة المجلس الشعبي البلدي لبلدية المزرعة لعهدة انتخابية استمرت خمس سنوات (1990–1995م)‪.‬‬‬
بعد انتهاء عهدته الانتخابية، فضل المجاهد التفرغ لشؤونه الخاصة، حيث استقر في مدينة بئر العاتر، مواصلاً دوره الإصلاحي والاجتماعي في وسط المجتمع المحلي، وعرف بين الناس بمواقفه الوطنية، وطيبته، ونزاهته، حتى صار أحد أعيان ولاية تبسة. واختتم المجاهد حياته المباركة يوم ‪14 ‬مارس 2012م، ليُوارى الثرى بوصية منه في مقبرة رجال البئر بمدينة بئر العاتر، تاركاً إرثاً من الوطنية، العطاء، والالتزام بالقيم الأصيلة التي ميّزت حياته الطويلة والمشرّفة‪.‬‬‬
سادسا: معلومات عن العائلة
تزوج المجاهد سالم بن مسعود فرحاني خلال حياته مرتين. فقد كانت زيجته الأولى من السيدة فرحاني حدة بنت الحفناوي، والتي أنجب منها بنتين. أما زيجته الثانية فكانت من السيدة بن مدغار يمينة بنت لخضر، والتي أنجب منها أبناؤه: محفوظ، محمد الهادي، مراد، كمال، ونور الدين، وأربعة بنات.
وقد شكلت هذه الأسرة الكبيرة والمترابطة دعامة قوية لحياة سالم الشخصية، حيث عاشت العائلة في جو من المحبة والاحترام، مستلهمة من والده قيم التضحية والالتزام الوطني والاجتماعي التي رسّخها طوال مسيرته الحياتية‪.‬‬
الخاتمة
لقد ترك المجاهد سالم بن مسعود فرحاني إرثًا من الوطنية والعطاء المستمر، حيث جمع بين البطولة في ميادين النضال والثورة، والكفاءة والالتزام في الخدمة الأمنية، والحكمة والحرص على مصلحة المجتمع في المجال المدني. إن مسيرته الطويلة والمشرّفة، الممتدة من جبل أرقو إلى مقاعد المجلس الشعبي البلدي، ومن معارك الثورة إلى مهام الأمن الوطني، تظلّ نموذجًا يُحتذى به للأجيال القادمة، وشهادة على حياة مليئة بالتضحية والإخلاص، قبل أن يوارى الثرى يوم ‪14 ‬مارس 2012م في مدينة بئر العاتر، تاركًا بصمته الخالدة في ذاكرة الوطن والمجتمع‪.‬‬‬