المسلم المعاصر بين مركزية الدّنيا ومركزية الآخرة (1)
لعلّنا لو بحثنا عن السّبب الأهمّ في غفلة أنفسنا وقسوة قلوبنا وإخلادنا إلى الأرض، لوجدنا أنّه في المقام الأوّل تعلقنا بالدّنيا وغفلتنا عن الآخرة، إيثارنا الفانية على الباقية، السّبب هو أنّنا توّجنا الدّنيا مركزا لحياتنا نطوف حولها بالليل والنّهار! المفترض في كلّ عبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن تكون الآخرة الباقية هي محور حياته، لكنّنا […] The post المسلم المعاصر بين مركزية الدّنيا ومركزية الآخرة (1) appeared first on الشروق أونلاين.


لعلّنا لو بحثنا عن السّبب الأهمّ في غفلة أنفسنا وقسوة قلوبنا وإخلادنا إلى الأرض، لوجدنا أنّه في المقام الأوّل تعلقنا بالدّنيا وغفلتنا عن الآخرة، إيثارنا الفانية على الباقية، السّبب هو أنّنا توّجنا الدّنيا مركزا لحياتنا نطوف حولها بالليل والنّهار! المفترض في كلّ عبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن تكون الآخرة الباقية هي محور حياته، لكنّنا -إلا من رحم الله منّا- جعلنا الدّنيا هي المحور والمركز. سعيُنا وعملنا، اهتماماتنا وهمومنا، أمنياتنا وآمالنا، كلّها للدنيا إلا قليلا.
لذلك، فكلّ العوج وكلّ المشكلات في حياتنا، سببها أنّنا نتعامل مع الآخرة كأنّها ضرّة مهملة ليس لها إلا فضول الأوقات والأعمار والأموال. لا نعطيها إلا ما يفضل عن دنيانا من هموم وأوقات وأموال! حتى الأوقات القليلة التي نجعلها للآخرة، نأخذ فيها الدنيا معنا في قلوبنا وألسنتنا! ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)).
لننظر في أحوالنا ولنسأل أنفسنا: لماذا طغت المظاهر الفانية على حياتنا؟ الجواب: لأنّ الآخرة لم تعد هي ميدان التنافس بيننا، وإنّما الدنيا هي حلبة السباق وميدان التنافس الوحيد! لا نتنافس في صلاح أبنائنا وارتباطهم بالمساجد وحرصهم على حفظ القرآن، إنّما نتنافس في أيّنا يطعم ويكسو أهله وأبناءه أفضل وأوفر؟ أيّنا ينفق على أولاده أكثر؟ أيّنا يجعل عرس ولده -أو ابنته- أكبر وأفخم وأصخب!
هذه الحال البئيسة التي أصبحت عليها أغلب نسائنا وبناتنا، حين أضحت المظاهر الفانية هي أكبر همّ يحملنه، حتى انتشر التعالي والتكبّر بينهنّ انتشار النّار في الهشيم؛ ترى المرأة قد غطّت عينيها ونصف وجهها بنظّارات عملاقة أو وضعت النظارات على رأسها، بعد أن لطّخت وجهها بكلّ ألوان وأنواع المساحيق، تسير مختالة مائلة متمايلة كأنّها ستخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولا! أمّا إن ملكت مفاتيح سيارة في يدها فربّما تراها تنافس الطّاووس في خيلائه وانتفاخه. وأمّا إن كانت موظّفة في مكتب من المكاتب، فلا تسأل عن تكبّرها على عباد الله! تنظر إليهم باستعلاء وتكلّمهم من خياشيمها، لكأنّ أرزاقهم بيدها! وإذا اجتمعت بصديقاتها من شاكلتها، فلا تسأل عن المفاخرة والمباهاة والحديث عن المشتريات والمقتنيات وعن حظوظ الدّنيا التي حازتها كلّ واحدة منهنّ.. ومن المفارقات أنّك تجد أقلّ النّساء جمالا وعلما وثقافة هنّ أكثر النّساء تبرّجا وتفننا في وضع المساحيق وأكثرهنّ تكبّرا وخيلاء، كأنهنّ يتسخّطن على الله في أنه –سبحانه- لم يؤتهنّ حظا من الجمال! وهذا النّوع من النّساء تجد الواحدة منهنّ إذا رأت امرأة تلبس حجابا واسعا تشمئزّ منها ويكاد يتطاير الشّرر من عينيها كأنّها رأت ملك الموت! لماذا؟ لأنّ تلك المرأة المحجّبة تذكّرها بالدّين والآخرة، وهي لا تريد أن تسمع بالدّين والآخرة، إنّما تريد أن تعيش حياتها كما يحلو لها!
ما الذي أوصل كثيرا من النّساء إلى هذه الحال؟ إنّها مركزية الدّنيا، إنّه طغيان حبّ الدّنيا. يقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “خَيرُ نِسائِكُم الوَلُودُ الوَدُودُ، والمُواسِيةُ المُواتِيةُ إذا اتَّقَيْنَ اللهَ، وشَرُّ نِسائِكُم المُتَبَرِّجاتُ المُتخَيِّلاتُ، وهُنَّ المُنافِقاتُ، لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مِنهُنَّ إلا مِثلُ الغُرابِ الأَعْصَمِ”. (صحيح الجامع)
لماذا ساءت أخلاق كثير من المسلمين وانحدرت إلى الحضيض؟ لماذا ضاقت الصّدور والنّفوس ونطقت الألسن بالسّباب والبذاءة؟ ولماذا قلّ الحياء بين الرّجال والنّساء؟ السبب -دائما- هو أنّ الآخرة ما عادت هي مركز حياتنا، إنّما الدّنيا هي ميدان التنافس بيننا؛ يحسد بعضنا بعضا في متاع الدنيا الزائل وينافسه في أمتار من الأرض ويسبّه ويعاديه لأجل حظّ من الدّنيا قليل.
لماذا تهافتنا على الحرام إلى الحدّ الذي أصبحت معه كلمة “حرام” تقلقنا وتثير غضبنا؟ إذا سمعنا من ينصحنا خارج المسجد قلنا له: كلّكم أصبحتم علماء تحلّلون وتحرّمون! وإذا سمعنا الإمام في المسجد يذكّرنا بحرمة شيء لا نتحرّز منه قلنا: ولماذا لا يتحدّث عن تلك وتلك؟! ولهذا فكثير من النّاس يأتون الجمعة في الدقائق الأخيرة، حتى لا تنزعج أنفسهم بسماع كلام عن الحرام وعن حدود الله! وهذا ما يفسّر أنّ كثيرا من المسلمين يفرّون من المساجد التي يتحدّث فيها الأئمّة بكلّ صراحة ويغوصون في انتقاد الواقع، بحجّة أنّ أولئك الأئمّة يطيلون خطبهم! يفرّون من تلك المساجد إلى مساجد يبتعد الكلام فيها عن الواقع، حتى لا تزعج أنفسهم السابحة في بحر الدّنيا.
السّبب في كلّ هذا أنّ الدّنيا هي مركز حياتنا ونحن لا نريد أن نتخلّى عن شيء منها؟ نريد أن تكون حظوظنا في ازدياد دائما، ولا نريد أن ينقص شيء منها!
حتى عقيدتنا، خدشت وخرمت، بسبب التعلق بالدنيا، تجد الرّجل يعلم أنّ الله لا يعطيه ما يريد بل ما يصلح له، وأنّه –سبحانه- ربّما يؤخّر عنه إجابة دعائه، فيسارع ذلك العبد إلى من يظنّه سيعطيه ما يريد في الوقت الذي يريد! يلجأ إلى قبر ولي يطلب عنده حاجته! أو ربّما يلجأ إلى ساحر أو مشعوذ يظنّ أنّه سيبلّغه مبتغاه ويحقّق له مناه وما يريد في أسرع وقت!
لماذا كثرت الأمراض النفسية في زماننا هذا؟ لماذا اكتظّت عيادات الأمراض النفسية بالمرضى؟ لماذا أصبحت أدوية القلق والاكتئاب والأعصاب والانهيار النّفسيّ، من أكثر الأدوية التي تباع في الصيدليات؟ السبب هو مركزية الدّنيا والتعلق بالعاجلة. السبب هو تعلق النفوس والقلوب والأرواح بالدّنيا، حتى إذا فاتها حظّ منها حزنت واكتأبت وربّما انهارت! تجد شابا جسده يَهدّ جبلا، ينهار نفسيا لأنّ الفتاة التي تعلّق بها تركته! تجد الطّالب ينهار نفسيا بسبب أنّه لم ينجح في شهادة البكالوريا. تجد الرجل يكاد يفقد عقله بسبب صفقة خاسرة في التجارة… وهكذا!
لقد بلغ بنا التعلّق بالدّنيا أنّنا أصبحنا نريد للدّين أن يصلح لنا دنيانا فقط، لا نهتمّ كثيرا لأن يصلح لنا الدّين آخرتنا وعلاقتنا بربّنا. لا نريد لإمام المسجد أن يحدّثنا عن حقّ خالقنا ومولانا، لا نريده أن يحدّث عن شريعة ربّنا المغيّبة! نريده أن يحدّثنا عمّن يسرق أموالنا ونحن الذين نُسْلمها إليه طوعا، ونريد للإمام أن يحدّثنا عمّن يأخذ منّا الرشوة ونحن الذين نسارع إلى إعطائها عند أول إشارة وأول غمزة، ونريد للإمام أن يحدّثنا عمّن يسرق المال العامّ ونحن الذين نسرق الشوارع والطّرقات أمام محلاتنا ونسرق في عدادات الكهرباء والماء… حتى مواسم الخير والعتق، نلتمسها لأجل دنيانا: نلتمس ليلة القدر لنسأل حوائج دنيانا، ونهتم بساعة الإجابة يوم الجمعة لنسأل ما ينقصنا من حظوظ الدّنيا.. حتى كلام الله القرآن لا نهتم بحلاله وحرامه، ولا تتحرك قلوبنا لحديثه عن الآخرة، إنما نريده رقية تشفى به أبداننا!
هذا هو الواقع إلا ما رحم الله.. هذه هي الحال التي أوصلتنا إليها العلمانية المتمكّنة في القرن الأخير. العلمانية التي أسست لمركزية الدّنيا، بل وأرست لتقديس الدّنيا وإهمال الآخرة، وربّتنا -عن طريق الإعلام المسلسلات والأفلام- على أنّ الآخرة لا تستحقّ إلا فضول الأوقات وبقايا الأعمار! ووسوست لنا بأنّ العمل للآخرة أمر شخصي لا علاقة للأمّة به. بينما حقيقة الأمر أنّ إصلاح الدّين وإصلاح الآخرة هو مشروع الأمّة، فالإسلام دين من أهمّ أهدافه إيجاد البيئة المناسبة لانتشار الفضيلة وانحسار الرذيلة، وإعانة المسلمين على أن يكون رضا الله محور حياتهم.
يُتبع بإذن الله…
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post المسلم المعاصر بين مركزية الدّنيا ومركزية الآخرة (1) appeared first on الشروق أونلاين.