الملحفة التارقية.. تجسيد للهوية النسوية وجمالية الذاكرة في ثقافة الطوارق

 تبرز الملحفة التارقية في أقصى الجنوب الجزائري، وسط امتداد الصحراء الكبرى، حيث يتداخل الواقع مع الأسطورة، والهوية مع الجغرافيا، كلغة بصرية تختزل في تفاصيلها الملامح الثقافية التارقية الأصيلة . هذا اللباس التقليدي النسوي يعد بنية رمزية مشبعة تحمل في طياتها  دلالات اجتماعية وروحية وجمالية، حيث ترمز إلى حشمة والكرامة والهوية المرأة التارقية  المتجذرة. الملحفة التارقية […] The post الملحفة التارقية.. تجسيد للهوية النسوية وجمالية الذاكرة في ثقافة الطوارق appeared first on الجزائر الجديدة.

يوليو 30, 2025 - 12:43
 0
الملحفة التارقية.. تجسيد للهوية النسوية وجمالية الذاكرة في ثقافة الطوارق

 تبرز الملحفة التارقية في أقصى الجنوب الجزائري، وسط امتداد الصحراء الكبرى، حيث يتداخل الواقع مع الأسطورة، والهوية مع الجغرافيا، كلغة بصرية تختزل في تفاصيلها الملامح الثقافية التارقية الأصيلة .

هذا اللباس التقليدي النسوي يعد بنية رمزية مشبعة تحمل في طياتها  دلالات اجتماعية وروحية وجمالية، حيث ترمز إلى حشمة والكرامة والهوية المرأة التارقية  المتجذرة.

الملحفة التارقية هي زي نسائي فضفاض، طويل، تُلفّ به المرأة جسدها بطريقة فنية تغطيه من الرأس إلى القدمين، مع ترك فتحة خفيفة على الوجه والعينين. تُصنع  هذه القطعة التراثية غالبًا من أقمشة سوداء أو زرقاء داكنة، في انسجام مع رمزية الألوان في الثقافة الطارقية، حيث يُمثل الأسود الوقار والغموض، فيما يرمز الأزرق إلى السماء والانتماء الصحراوي.

تُرافق الملحفة عادة زينة فضية ثقيلة: قلائد، أساور، أقراط، وخواتم تُصنع يدويًا بنقوش أمازيغية أو طوارقية، تتوارثها النساء جيلاً بعد جيل، وتُعدّ امتدادًا للهوية الجسدية والروحية للمرأة.

يعد هذا الزي التقليدي رمزا إجتماعيا  في المجتمع التارقي حيث  يُقدّم هذا اللباس  لها عند بلوغها، وتُرتدى في كل المناسبات الأساسية: الزواج، العزاء، الأعياد، والطقوس الإجتماعية.

الملحفة تعد  أكثر من لباس  ترتديه المرأة في الصحراء  فهو تعتبر أداة تواصل اجتماعي ومؤشر انتماء. فطريقة ارتدائها، ونوع القماش، وتفاصيل الزينة المرافقة لها قد تعكس مكانة المرأة داخل القبيلة، أو حالتها الاجتماعية (عزباء، متزوجة، أرملة)، بل حتى حالتها النفسية في بعض السياقات.

الملحفة أيضًا تعتبر منظومة قيم؛ فهي تُمثل الحشمة، الصمت، الستر، ولكن أيضًا الجمال، والاعتداد بالذات. فهي تمنح للمرأة حضورًا مهيبًا لا يخلو من الغموض، في انسجام مع فلسفة الطوارق التي تُقدّس التوازن بين الظهور والاختفاء، بين الكشف والستر.

تُطرّز الملحفة بخيوط فضية أو نحاسية، أو تُنسّق مع ألوان ترمز إلى عناصر الطبيعة الصحراوية: الرمل، الشمس، الليل، والنجوم. وفي هذا المزج بين البسيط والمعقّد، تُولد هوية بصرية ثرية تتجاوز حدود الموضة إلى فضاء الذاكرة الجمعية.

من منظور أنثروبولوجي، يمكن اعتبار الملحفة التارقية وثيقة حية تختزن في خيوطها طبقات من الذاكرة الجماعية، وتُجسّد تطور الأدوار النسائية داخل المجتمع الطارقي، الذي ورغم طابعه القبلي التقليدي، يمنح للمرأة سلطة رمزية ومكانة خاصة في إنتاج الثقافة.

وفي مجتمعات الطوارق، حيث تغلب الثقافة الشفهية، تُعتبر الملحفة إحدى وسائل “الكتابة الصامتة”، التي تحفظ داخلها سرديات غير مكتوبة عن الأنوثة، السلطة، والتاريخ.

مع تسارع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، بدأ حضور الملحفة التارقية يعرف تحولاً مزدوجًا: فمن جهة، تسعى النساء الشابات في الجنوب إلى الحفاظ على اللباس كرمز للهوية، خاصة في المناسبات الرسمية؛ ومن جهة أخرى، بدأ بعض المصممين والفنانين في الجزائر والعالم إعادة تقديم الملحفة في قالب معاصر، سواء عبر التصميم أو عبر الفنون البصرية (الفوتوغرافيا، السينما، الرسم…).

الملحفة التارقية ليست مجرد زيّ تقليدي عابر، بل هي تجسيد فعلي لهوية نسوية أصيلة، تقاوم الاندثار في وجه العولمة، وتحمل في طياتها رواسب ثقافية غنية. في كل خيط من خيوطها، تنسج المرأة التارقية جسرًا بين الماضي والحاضر، بين الصحراء والعالم، بين الجسد والروح.

إن الحفاظ على الملحفة هو في جوهره حفاظ على الذاكرة الأنثوية للمجتمعات الصحراوية، وعلى الرؤية الجمالية والرمزية التي صاغتها المرأة، لا ككائن مُلبَّس، بل كفاعل ثقافي منتج للمعنى والجمال والتاريخ.

The post الملحفة التارقية.. تجسيد للهوية النسوية وجمالية الذاكرة في ثقافة الطوارق appeared first on الجزائر الجديدة.