انطباعات الرائد الشاذلي بن جديد عن زيارته إلى الصين (1964)

أ.د. مولود عويمر/ في هذا الأسبوع انعقدت قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين، واستقبلت الصين عددا من زعماء العالم، وبرهنت مرة أخرى عن إرادتها القوية في مزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية في الزعامة العالمية وإعادة تنظيم العلاقات الدولية وترسيمها من منظور جديد. ولاشك أن الصين وصلت إلى مصف الدولى العظمى بعد سنوات طويلة من العمل …

سبتمبر 17, 2025 - 15:00
 0
انطباعات الرائد الشاذلي بن جديد  عن زيارته إلى الصين (1964)

أ.د. مولود عويمر/

في هذا الأسبوع انعقدت قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين، واستقبلت الصين عددا من زعماء العالم، وبرهنت مرة أخرى عن إرادتها القوية في مزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية في الزعامة العالمية وإعادة تنظيم العلاقات الدولية وترسيمها من منظور جديد. ولاشك أن الصين وصلت إلى مصف الدولى العظمى بعد سنوات طويلة من العمل الجاد والإصرار الصادق على التقدم، وإرادة لا تقهر لاستعادة مكانتها الحضارية في صدارة الأمم.
ولقد لاحظ عدد من أعلام الجزائر الذين زاروا الصين ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين التطوّر الحاصل في هذه البلاد، ولمسوا طموحها اللامحدود في الرقي والتقدم بعدما شاهدوا بأعينهم اقبال الصينيين قيادة وشعبا على التخلص من كل مظاهر التخلف والإقدام على البناء والتنمية. ونملك اليوم شهادات وانطباعات عديدة للنخبة الفكرية والسياسية والعسكرية عن رحلاتهم إلى الصين.
ومن المفيد أن أشير هنا إلى أنني تطرقت من قبل إلى هذا الموضوع في كتابي «الرحلة الصينية» وفي كتابات أخرى، وأقدم أيضا في هذا الركن نصا نموذجيا عن انطباعات الرائد الشاذلي بن جديد-قائد الناحية العسكرية السادسة آنذاك- الذي ترأس وفدا عسكريا في زيارة إلى الصين الشعبية في عام 1964. ويظهر من هذا النص المغمور اعجابه بالنهضة الصينية التي شاهد بعض مظاهرها في مرحلتها الأولى، واستشرف لها مستقبلا عظيما.

طبيعة الانسان الصيني
«يلمس المتجوّل بين صفوف الشعب الصيني وحدة التفكير وعدم التعقيد من رجل الدولة إلى رجل الشارع. وهذه الظاهرة ترجع إلى مدى ما وصل إليه الحزب الشيوعي الصيني من مستوى في التنظيم والتسيير وتغلغله في أوساط الجماهير الصينية رغم كثافتها الخارقة للعادة ومستوياتها العديدة، والشيء الذي يمتاز به هذا الشعب العريق أكثر من غيره، هو البساطة في الحياة والعمل المتواصل. وهذه ظاهرة تشترك فيها القاعدة والقمة على السواء، وبذلك تستطيع أن تدرك بأن الصين بالغة إلى أهدافها لا محالة بفضل اعتمادها على نفسها وثقتها في المستقبل الباسم الذي تخطو نحوه خطى عملاقة في جميع الميادين، سواء كانت صناعية أم اقتصادية، وقد قطعت أشواطا بعيدة في بناء دولة وتكوين أمة من الدرجة الأولى، وستصبح في مدة قصيرة في مصاف الدول العظمى.
وهذه هي عزيمة الشعب الصيني منذ اليوم الأول الذي حطم فيه الأغلال وتحرر من السيطرة الأجنبية، فهو الآن نموذج لكفاح الشعوب التي تريد أن تبني قوتها وتبلغ أوج عظمتها بنفسها.
وإذا ما قارنا هذا البلد الصديق ببلدان أخرى، فإننا لا نظفر بوجه الشبه لأن هذا البلد يؤمن بالأهداف التي سطرها بنفسه ويعمل على تطبيقها لحظة بلحظة. ورغم المصاعب التي اعترضت زحفه في بداية السير، إلا أنه خرج من زحامها قويا مظفرا يشق طريقه نحو التحرر الكامل.
وقد تخلص نهائيا من الأمراض الاجتماعية القاتلة التي خلفتها عهود الاقطاع والرجعية، وأصبح الفرد عضوا حيا في الأسرة الصينية، يعمل بجد، وينتج بعزم. شعب قنوع بحياته، طموح إلى المجد والرخاء، يعطف كل العطف على الشعوب التي تريد التحرر من السيطرة الأجنبية، ويمنحها تأييده واعانته. ويوجد الكثير من أوجه الشبه بيننا وبين هذا الشعب، وكثيرا ما نلتقي في الأهداف السامية التي كافحنا من أجلها رغم بعد المسافة واختلاف الظروف.

النهضة الصينية العظمى
السرعة التي تسير بها الصين في ميدان التصنيع بالخصوص تثير في نفس الزائر الدهشة والاعجاب، فبفضل عزيمة هذا الشعب العظيم الذي يكافح من أجل رفع مستواه المادي والمعنوي بدون كلل نستطيع أن نقول: أن الصين حققت المعجزات في ظرف سنوات قصيرة، ففي كل مدينة زرناها نشاهد مداخن المعامل والمصانع تعانق السحاب وأيادي نشطة تعمل ليلا ونهارا. فهناك معامل الصلب والحديد ومعامل النسيج، ومعامل الاسلحة الخ ..
وقد وقفنا على معجزة هذا الشعب التي تتمثل في السد الذي شيد في ظرف 28 يوما بفضل مشاركة قائد الصين العظيم ما وتسي تونغ في البناء. والوادي الذي أقيم عليه هذا السد كان في كل سنة يغرق القرى، ويجرف المواشي، والآن أصبحت آلاف الهكتارات تسقى من مائه ومن حوله الأرز والذرة تتمايل على جانبيه. وربيع مستمر، وأصبح من القطاعات الفلاحية الجديدة الكبرى التي تم انجازها حسب المخطط الصيني.
كما شاهدنا أعظم وأحدث قنطرة تم بناؤها مؤخرا. وقد أقيمت هذه القنطرة على أكبر واد يفصل الصين إلى شمال وجنوب، وهو واد سوهان ويبلغ طول القنطرة 1610 مترا، وعرضها 1156 مترا وبها طابقان، عرض الأول 18 مترا تمر به السيارات، والطابق الثاني به سكة حديدية تمر عليها القطارات، أما تحت القنطرة فتمر السفن والقوارب، وكان قبل إقامة هذه القنطرة يمر القطار إلى الضفة الأخرى بواسطة باخرة. وتستغرق عملية الشحن أكثر من ثلاث ساعات والآن أصبح المرور يستغرق بضع دقائق.
فالصين حقا تعمل على اخضاع الطبيعة لإرادتها واستغلالها استغلالا كاملا.
وأكبر شيء توليه اهتمامها في الدرجة الأولى هي الصناعة. وقد توفر لهـا وبمجهوداتها الخاصة، الاكتفاء الذاتي وهذا انتصار لاشك فيه. وبالجملة فالصين عبارة عن مصنع، العامل فيها لا فرق بينه وبين إحدى محركات المصنع وله عقيدة خاصة هو أن يجِّد وينتج أكثر من غيره وحينما يحقق هذا يتلقى بطاقة تشجيع شرفية من الحزب عن نشاطه، وتعلق صورته في المعمل أو المصنع الذي يشتغل فيه .. وشيء آخر يلفت الانتباه، هو أن جميع مظاهر النشاط تجري بدون انقطاع وبصفة مستمرة ليلا ونهارا بما في ذلك المسارح التي تشتغل 24 ساعة بدون انقطاع. وتشارك المرأة في النشاط العام في المجتمع الصيني بنسبة %50..
أما الناحية الفلاحية فقد أصبحت على أحدث الأساليب العصرية، وفيها مرشدون فلاحيون. وقد اقتنع الفلاح الصيني بضرورة وجود المرشد الفلاحي بجانبه. وكان من قبل – أي في عهد السيطرة والاحتلال- يري فيه مستعمرا جديدا مستغلا لمجهوداته وعرقه.
ومستوى الفلاح هناك مرتفع جدا وقد زرنا فلاحا صينيا في الريف وكان هذا الفلاح من قبل متسولا في الشوارع، والآن أصبح يملك دارا، ودراجة هوائية، وخنزيرا، والجدير بالملاحظة أن هذه الأشياء الثلاثة هي أمنية كل مواطن صيني.

دور الجيش في المجتمع الصيني الجديد
دور الجيش الصينى هو أولا وقبل كل شيء الدفاع عن الوطن، كسائر الجيوش في العالم.
ثانيا: المشاركة الفعالة في الاصلاح الزراعي والانتاج الصناعي، حسب فصول السنة وتعتبر مادة من البرامج التي يطبقها الجندي مدة خدمته العسكرية.
فعندما يقوم الجيش بإصلاح قطعة من الأرض وتصبح صالحة للإنتاج يقع تسليمها إلى التعاونيات الشعبية وتمنح لكل كتيبة من الجيش قطعة من الأرض تستغلها لفائدة تموينها. وبذلك يخفف على الدولة عبء النفقات اللازمة له، والملاحظ أن كل فرد من الشعب الصيني ينتج سنويا من 150 الى 200 ك غ من الحبوب.
أما في زمن جمع المحصولات الزراعية، فإن الجيش يعمل لفائدة التعاونيات الشعبية، ويعتبر هذا أهم فصل من فصول السنة بالنسبة للجندي، كما يعتبر العمل الذي يقوم به في الحقل الفلاحي جزءا من الواجبات العسكرية، مثل التدريب والتكوين الخ.
وهناك تعاون على نطاق واسع بين الجيش والتعاونيات الشعبية بحيث إذا كان الجيش له مساحة من الأرض، وكانت التعاونية في حاجة إليها فإن الجيش يحتفظ بما يكفيه لتموينه فقط، ويسلم الباقية. لهذا للجيش مكانة خاصة في قلوب الأهالي ويرى فيه الشعب نموذجا للمجتمع الصيني ويوليه عطفه واحترامه.
وقد حدد معلم الصين الزعيم ماو تسي تونغ، علاقة الجيش بالشعب في التعليمات التالية: «تكلموا بأدب»، «ادفعوا ثمن ما تشترون»، «ارجعوا ما تقترضون»، «ادفعوا ثمن ما تخربونه»، «لا تضربوا ولا تشتموا الناس»، «لا تفسدوا المزروعات»، «لا تاخذوا حريتكم من النساء»، «لا تعذبوا الأسرى.
وزيادة عما ذكرت فإن الوعي والتكوين السياسي الذي بلغ إليهما الجندي والضابط الصيني في كل وحدة من الوحدات مرتفع جدا.
وللجندى الحق في انتقاد الاطارات في الاجتماعات الخاصة، وهذه الانتقادات مقبولة شريطة أن تكون بناءة وتسمح في نفس الوقت للضباط بإصلاح الاغلاط، وهذا طبعا يرجع إلى الوعي الذي وصل إليه الجندي الصيني الذي لا يكتفي بالأوامر الجامدة.
وهذه الأشياء يعبرون عنها ب «الديمقراطية السياسية» والتي تتمثل أيضا في انتخاب الأبطال العسكريين ذوي الكفاءة والماضي النظيف للقيادة. أما من حيث التدريب العسكري فإن القادة الصينيين قد استنتجوا دروسا تجريبية من حربهم التحريرية ضد اليابان، ودراسة الميدان الذي جرت فيه أشهر المعارك وسبب الانتصار أو الهزيمة؟
أما عن الحرب الكلاسيكية، فإنهم يتناولون حرب كوريا التي لهم فيها دور كبير بالبحث والدراسة، وهكذا يجمعون بين حربين للجيش الشعبي الصيني في كل منهما انتصارات مظفرة. وأعز شيء يفتخرون به في حربهم التي خاضوها ضد الاستعمار هو «السير الطويل» الذي طواه ما وتسي تونغ وشوان لاي في الأراضي الصينية، والذي يعتبر أطول سير في التاريخ. وعلى أية حال فإن الجيش الصيني يربط ماضيه البطولي بحاضره المزدهر. ويعتبر هذا الماضي قاعدة متينة لا يمكن اهمالها بل من الواجب دراستها في المدارس والكليات العسكرية.

سمعة الثورة الجزائرية في الصين
سمعة الثورة الجزائرية نستطيع أن نقول بأنها بلغت القمة في الأوساط الشعبية مثلما عند القادة ويعتبرون كفاح الجزائر عاملا حاسما في تحرير افريقيا كلها. وهذه حقيقة يؤمنون بها إيمانهم بأنفسهم. وقد خص وفدنا من بين الوفود الأخرى بأحر الاستقبال، وتفضل الزعيم ماو تسي تونغ بمقابلتنا. وقد لمسنا في شعور عبقرية هذا الزعيم الفذ الاعجاب والتقدير لثورتنا المباركة وقال لنا في حديثه: لكم شعب عظيم، وقادة عظام.
وإني أؤمن كما يؤمن الصينيون باستمرار علاقات الصداقة والود التي يجب أن تنمو كل يوم بين شعبينا كما لا حظنا من جانبهم الاعتزاز بالاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمت بين بلدينا مؤخرا ويعتبرونها أكبر ضمان لاستمرار العلاقات الودية بيننا».