بين مالك بن نبي ومصطفى السباعي
أ.د. مولود عويمر/ لقد مرت منذ أيام قليلة ذكرى وفاة العالم والمفكر السوري الدكتور مصطفى السباعي، في صمت بسبب تزاحم الأحداث العالمية حتى لم يعد الإنسان قادرا على متابعتها واستيعاب مفاصلها وتحمل تداعياتها وتقدير مآلاتها. ومع ذلك لا يمكن لنا أن ننسى علماءنا ففي قراءة سيرتهم نستمد الأمل ونستلهم معالم الطريق السوي. وفي هذه المقالة …

أ.د. مولود عويمر/
لقد مرت منذ أيام قليلة ذكرى وفاة العالم والمفكر السوري الدكتور مصطفى السباعي، في صمت بسبب تزاحم الأحداث العالمية حتى لم يعد الإنسان قادرا على متابعتها واستيعاب مفاصلها وتحمل تداعياتها وتقدير مآلاتها. ومع ذلك لا يمكن لنا أن ننسى علماءنا ففي قراءة سيرتهم نستمد الأمل ونستلهم معالم الطريق السوي. وفي هذه المقالة اكتفيت بدراسة مصطفى السباعي من خلال علاقته بالمفكر الجزائري مالك بن نبي، والتي تظهر الصلات المتينة بين المفكرين والعلماء المسلمين ونضالهم من أجل سؤدد القيم السامية، فلا أمل للبشرية ولا نجاة للإنسانية إلا في تفاني نخبتها الراشدة.
مصطفى بن حسني السباعي في سطور
ولد الدكتور مصطفى بن حسني السباعي بمدينة حمص سنة 1915. درس في سوريا ثم التحق بجامع الأزهر بمصر. شارك في الحركة القومية في الشام، وساند بقوة القضية الفلسطينية، فشارك في حرب 1948 إلى جانب الفلسطينيين.
نال شهادة الدكتوراه في أصول الدين من جامعة الأزهر سنة 1949 بعد أن قدم رسالة بعنوان: «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي». عاد إلى سوريا واستقر بدمشق، وعمل أستاذا بكلية الحقوق منذ 1950. أسس كلية الشريعة سنة 1955 وأصبح أول عميد لها.
تربطه علاقات قوية برواد الحركة الوطنية والإصلاحية ببلاد المغرب العربي كمحمد البشير الإبراهيمي، الفضيل الورتلاني ومالك بن نبي من الجزائر، عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي من المغرب، عبد العزيز الثعالبي ومحي الدين القليبي من تونس…الخ.
وفي مجال التأليف، ألف الدكتور السباعي عدة كتب منها: «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي»، «المرأة بين الفقه والقانون»، «النظام الاجتماعي في الإسلام»، «هكذا علمتني الحياة»، «من روائع حضارتنا»، «السيرة النبوية»، «الإستشراق والمستشرقون»…الخ. واستقبل القراء كتبه باستحسان، ورسمت عدة جامعات عربية وإسلامية كتابه «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي»، وجعلته من الكتب المقررة على طلبتها.
كما نشر الدكتور السباعي مقالات كثيرة في الدعوة والتاريخ والفكر والسياسة في أمهات المجلات الإسلامية، وظهر نبوغه الفكري المبكر في مجلة «الفتح» للأستاذ محب الدين الخطيب التي ظلت تصدر بين 1926 و1951. كما قامت مجلة «الشهاب» للشيخ عبد الحميد بن باديس بنشر مقالين للأستاذ السباعي نقلا عن مجلة «الفتح»، وهما: نكبة الدين في انحراف علمائه و العلماء والسياسة.
قام الدكتور السباعي بعدة رحلات إلى أوروبا للإطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية والتعرف على المستشرقين. واستمر الدكتور السباعي في نشاطه العلمي والسياسي إلى أن توفي بدمشق في 3 أكتوبر 1964 بعد مرض عضال ألزمه الفراش عدة سنوات. ورثاه العلماء والمفكرون والشعراء في كل الأقطار العربية والإسلامية، وصدرت بعد وفاته مقالات ودراسات وبحوث وكتب ورسائل جامعية تهتم بسيرته ونضاله القومي وآثاره العلمية.
لقاءات بن نبي مع السباعي في دمشق
زار مالك بن نبي سوريا عدة مرات لإلقاء المحاضرات والالتقاء بالعلماء والمفكرين السوريين أمثال مصطفى السباعي، ومعروف الدواليبي ومحمد المبارك وجودت سعيد. وكذلك الاتصال بناشر كتبه محمد عدنان سالم. وقد نشر مالك بن نبي مجموعة من المحاضرات التي قدمها في دمشق وكانت آخرها « دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين».
وفي سياق هذه الزيارات المتكررة إلى دمشق التقى مالك بن نبي بالدكتور مصطفى السباعي. وكان اللقاء الأول في الفندق الذي كان يقيم فيه بدمشق، فقد بادر الدكتور السباعي بزيارته والتعرف عليه عن قرب بعدما تعرف عليه من بعد من خلال كتاباته وأحاديث أصدقائه السوريين. نترك مالك بن نبي يحدثنا عن هذا اللقاء: «لقد تعرفت بالفقيد تغمده الله برحمته بقدر مقدر أثناء أول جولة محاضرات، قمت بها في القطر السوري في صيف 1958، كنت في غرفة بالفندق، إذ دق الباب علي رجل من مستخدمي الفندق وسلم لي بطاقة الفقيد الذي كان قدم لزيارتي، وأعلمني أنه في قاعة الإنتظار، فعجلت للقائه، فإذا بي بعد لحظات أرى رجلا كبير الهيكل، شديد بياض الوجه، ذلك الوجه المبتسم المستبشر الذي عرفته منذ تلك اللحظة، وكان يتكئ على عصا، ففهمت ما عانى الرجل من مشقة في الصعود إلى غرفتي، حيث كنت نازلا بفندق صغير ليس فيه مصعد، فتعانقنا على عتبة الباب وأعنته على الجلوس على المقعد ودار الحديث بيننا. فمنذ الكلمات الأولى شعرت بأنني تعرفت على رجل يحمل في أحشائه نارا، نار القضية المقدسة التي عاش من أجلها مصطفى السباعي. وكانت الكلمات الدائرة بيننا تزيد في اهتمامي بشخصه، وربما كانت تزيد في اهتمامه بشخصي على المعنى الذي أشار إليه الحديث الشريف: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف»، وما تنافر منها اختلف. هكذا تعرفت على الرجل.»
وما هو رأي الدكتور السباعي في أعمال بن نبي؟ أثنى الدكتور مصطفى السباعي على كتب مالك بن نبي في مجلة «المسلمون» الشهيرة، وجاء فيها على الخصوص: «يتميز الأستاذ مالك بن نبي في جميع مؤلفاته بعمق التفكير، ومنطقيته، وواقعيته، وقوة أسلوبه في الدفاع عن الأفكار التي يتبناها».
وتوثقت العلاقة بين الرجلين واستمر التعاون الفكري المثمر بينهما، ولم يبخل الدكتور السباعي في التعريف بفكر بن نبي في المجلات التي كان يشرف عليها أو يكتب فيها، بل كان لا يتردد عن حضور محاضرات مالك بن نبي في دمشق مع تقدم سنه وتضاعف مرضه.
وقد تأثر مالك بن نبي عندما كان يقدم محاضرة في دمشق ويرى الدكتور السباعي جالسا في الصف الأول يتابع مداخلته وهو صابر على ألم المرض وإرهاق جسده. ورأى بن نبي في هذا السلوك قمة النبل والعظمة قلما نجدها عند أهل الفكر والثقافة في الوطن العربي، لذلك حفظ له كل الود والتقدير إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. فقال بن نبي في هذا الشأن: «نشأت بيني وبينه منذ تلك اللحظات أخوة لا يطفئ حرارتها الموت. إن شخص السباعي قد انتقل، ولكن عمله سيبقى مفعوله جاريا في تشيد حضارة الإسلام».
ولم يتمكن مالك بن نبي من حضور جنازة الدكتور مصطفى السباعي في عام 1964، غير أنه لم ينس أن يعزي عائلته، ويرسل إليهم رسالة مؤثرة، يترحم فيها على صديقه المخلص ويذكر بخصاله الحميدة.
احتفاء مجلة السباعي بفكر مالك بن نبي
لم تقتصر الصداقة والعلاقة بين مالك بن نبي ومصطفى السباعي على تلك المشاهد السابقة والكلمات التقديرية المتبادلة بينهما، بل تجسدت أكثر في مجال العمل الفكري، فتعاون المفكران على خدمة فكرة الإسلامية والارتقاء بالمجتمع العربي في مدارج النهضة والتقدم. وفتح الدكتور السباعي مجلته «حضارة الإسلام» لبن نبي ليساهم فيها بمقالاته. وهكذا نشر فيها عدة مقالات وهي:
-دور الفكرة الدينية في تكوين الحضارة (3 حلقات).
-الديمقراطية في الإسلام (4 حلقات)
-دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين.
– مميزات الداعية الإسلامي
كما احتك مالك بن نبي بأبرز محرريها والمتعاونين معها، ولا نبالغ إن قلنا أن العديد منهم كانوا متأثرين بفكره ومنتصرين لمنهجه الإصلاحي، والدليل على ذلك أن عددا منهم كتبوا عنه ودرسوا أعماله وأثنوا على ابداعاته الفكرية، فكتب على سبيل المثال محمد قنديل ثلاثة مقالات عن بن نبي. فأبرز في المقال الأول كيفية معالجة المفكر الجزائري لمشكلات الحضارة.، وبيّن في المقال الثاني مكانة بن نبي المرموقة في الفكر الإسلامي المعاصر. وتحدث في المقال الثالث عن صلته بالمفكر الجزائري.
ونشرت مجلة «حضارة الإسلام» في باب مكتبة المجلة تقارظ لمؤلفات مالك بن نبي: «حديث في البناء الجديد» و «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»… وقام غازي التوبة بدراسة نقدية لإنتاج مالك بن نبي. ودرس عمر كامل مسقاوي خصوصيات فكر بن نبي، مبرزا ملامح تميّزه. وأكد الأستاذ مسقاوي أن بن نبي رغم إبداعاته الفكرية وعمق تحاليله للمجتمعات المسلمة بقيت تأثيراته في وسط حركات الصحوة الإسلامية محدودة: «بالرغم من أن مفكرنا قد رصد فكره لدراسة العالم الإسلامي من الوجهة الاجتماعية فقد نشأت هنالك غربة بينه وبين المجرى الفكري الذي طغى على تصورات الأجيال الإسلامية في عالمها الحديث».
لقد كان هذا الرأي صحيحا في الستينات وبداية السبعينيات، لكن اليوم كسر فكر مالك بن نبي كل القيود المحيطة به، وأصبح موضع اهتمام النخب العربية والإسلامية بتياراتها المختلفة، ويعد اليوم من أكثر المفكرين العرب والمسلمين الذي صار موضوعا للدرس والبحث من طرف الباحثين في كل أنحاء العالم.
ولا بد أن نشير في الختام إلى أن الدكتور مصطفى السباعي لم يكن على صلة بمالك بن نبي فقط، وإنما كان على صلة بعلماء ومفكرين جزائريين آخرين أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وساهم في التعريف بالفكر الجزائري وأعلامه، ودعم الثورة التحريرية بلسانه وقلمه وماله. كما اتصل أيضا بالجاليات الإسلامية، وحاضر في مساجدها ونواديها. وفي جلسة خاصة مع مجموعة من أعيان الجزائريين حثهم على دعم الثورة بكل ما يملكونه من إمكانات. وكان موقفا مؤثرا لم ينسه له الجزائريون الذين حضروا في ذلك المجلس، واعتبروا كلامه فتوى أخرى صريحة للجهاد ضد المستعمِر، ولا مجال للتردد لمناصرة الثورة التحريرية. كما ألقى خطبة الجمعة في مسجد باريس في عام 1956 وتزامن ذلك مع الاحتفال بذكرى المولد النبوي. وفي هذه الخطبة تحدث الأستاذ السباعي عن العدل والحرية مستنكرا الأساليب الوحشية التي مازالت ترتكبها الدول الاستعمارية في البلدان المستعمَرة.