«معهـد الحياة» بالقرارة ….قرن من العطاء الخصيب

أ. نوار لمباركيّة/ كان الغزو الفرنسيّ لأرض الجزائر غزوا سافرا ماكرا ومزدوجا، فهو غزو عسكري معلن جليّ وغزو ثقافي مبطّن خفيّ. ولم تكن أهداف هذا الغزو المركّب الفاحش ترصد استنزاف خيرات وطننا، وامتصاص موارده، والاستفادة من كنوزه المادية، فحسب، وإنما كانت ترمي إلى مسخ شخصيتنا الوطنية وتشويه عناصر هوّيتنا التي تراكمت عبر القرون، والنيل منها …

مايو 28, 2025 - 14:08
 0
«معهـد الحياة» بالقرارة ….قرن من العطاء الخصيب

أ. نوار لمباركيّة/

كان الغزو الفرنسيّ لأرض الجزائر غزوا سافرا ماكرا ومزدوجا، فهو غزو عسكري معلن جليّ وغزو ثقافي مبطّن خفيّ. ولم تكن أهداف هذا الغزو المركّب الفاحش ترصد استنزاف خيرات وطننا، وامتصاص موارده، والاستفادة من كنوزه المادية، فحسب، وإنما كانت ترمي إلى مسخ شخصيتنا الوطنية وتشويه عناصر هوّيتنا التي تراكمت عبر القرون، والنيل منها بأساليب مخادعة ومخاتلة حتى يخلو الجو للمحتل فيبيض ويفرّخ.
منذ الوهلة الأولى، أظهر الشعب الجزائري الأبيّ منافحة صلبة عن أرضه وعرضه، ووقف في وجه الغازي الهجوم وقفة المقاوم الشجاع، ورفض الاستكانة والاستسلام حتى أصبح مضرب المثل في الذود عن حماه بالنفس والنفيس. واستطاع في نهاية المطاف، وبعد إناخة استيطانية التهمت قرنا وثلث قرن من الزمن، وبفضل جهاده العويص والمرير أن يُحطّم جبروت الوافد الدخيل، وأن يمرّغه في رُغام الهزيمة والخسران ويسقطه في مُخاط المهانة والحقارة، وأن يلقّنه درسا قاسيا لن ينساه.
بعد المجابهات المسلّحة التي تزعّمها رجال المقاومة الشعبية الشجعان، وقادوها في كل جهات الوطن في استماتة وصلابة، جاءت مرحلة الكفاح السياسي الذي تزامن وترافق مع الحركة الإصلاحية بشقيها في الشّمال والجنوب. وقد أدت هذه الأخيرة أدوارها في إبقاء روح الوعي متوهّجة بين أبناء الشعب الجزائري وفي نشر الصحوة في ضميره وثباتها حتى لا يتسلّل إلى عقله وقلبه اليأس والفشل والتراخي، فتخور قواه وتعجز على وضع الأصبع على الزناد في يوم الحسم.
في هذه الفترة بالذات، بدأ الاستعمار في توسيع نشر خطته من خلال إقامة مدارس ينطق لسانها باللغة الفرنسية لتعليم أبناء طبقة المحظوظين من السكان الأصليين الذين يدعونهم “الأهالي”، وهي تسمية تعج بالاستهزاء والاستصغار. وكانت هذه المدارس تعمل وفق مخطط تغريبي أوجز أهم علاماته وأغراضه أحد مربّيهم في قوله: (ليس الغرض من فتح المدارس في شمال إفريقيا أن نكوّن عقولا مثل عقول مونتسكيو أو جان جاك روسو أو فولتير، ولكن لنبدّل لغة بلغة، وعادات بعادات).
وضع رائد الحركة الإصلاحية في الجنوب الجزائري الشيخ الجليل إبراهيم بن عمر بيّوض قدمه على آثار أقدام من سبقوه إلى السير في هذه الطريق كالشيخ العصاميّ محمد بن يوسف طفيّش وتلاميذه الذين منهم الشيخ عمر بن يحيى، وغيره. وراح يتقدّم الصفوف، رغم صغر سنه، في ثقة وثبات الكبار المسلحين بمتانة العزم وقوة الإرادة.
يتوافق الشيخ المصلح عبد الحميد بن باديس مع صنوه الشيخ إبراهيم بيّوض في اختيار ركيزتي حركتهما الإصلاحية وهي التربية والتعليم بشكل أساسي. وقد اهتديا ووفّقا معا إلى حسن الاختيار؛ ذلك لأن المدرسة كانت وما تزال ثغرا دفاعيا أساسيا ووسيلة مثلى لتنوير الأذهان وبناء العقول وصقل الوعي الفردي والجماعي. وهي حجر الزاوية في كل وثبة استفاقة مناهضة للظلم والاستبداد وفي كل طفرة تغييرية تتطلّع إلى تخليص الأمة من أيدي المرتهن.
في خضم هذه الحركية، تأسس في بلدة القرارة الوديعة معهد ثانوي توشحت هامته، في البدء، باسم “معهد الشباب”، ثم تغيّر الاسم إلى: “معهد الحياة” بعد تأسيس جمعية “الحياة” في سنة 1937 التي كانت تشرف عليه. وفتح أبوابه في يوم 21 ماي من سنة 1921م (28 شوال 1343هـ) في جو بهيج لم يشهد له نظير. وعندما يؤرّخ المؤرّخ والمربّي والأديب محمد علي دبّوز هذه اللحظة المبهرة، فإنه يستمطر قلمه الرقراق ليخط ما يلي: (وكان ميلاد المعهد في الربيع في شهر ماي، فولد مع الزهور الفوّاحة، والعراجين المباركة، ومع شباب الدنيا الذي يجددها ويورثها حسنها ونتاجها، فازدادت النفوس تفاؤلا بميلاد معهد الحياة في يوم الجمعة المبارك، في شهر العيد، في موسم الربيع).
لم تكن أشواط البداية التي قطعها الشيخ إبراهيم بيّوض وهو يقود سفينة معهده هينة وممهّدة، وإنما اعترضته عقبات كأداء شاقة المصعد ومعطّلات محيطية داخلية وأخرى خارجية عصية المرتقى من وضع الإدارة الاستعمارية. ولكن عناصر شخصيته القويّة وقناعاته التي لا تتزعزع شكّلت منه قائدا فذا صبورا ومقداما، ورجلا ذكيا يتقن فن المداورة في كل سجال، وجهبذا خبيرا في معرفة خبايا الأمور، واكتشاف مآلات الدسائس والوقوف على كوامن الاحتيالات والتلاعبات.
مثلما لم يمض الشيخ عبد الحميد بن باديس وحيدا في طريق معركته الإصلاحية، فكذلك كان واقع الشيخ إبراهيم بيّوض الذي وقف حوله رجال من أهل العهد والوفاء، ومنهم الشيخ أبو اليقظان والشيخ سعيد شريفي المعروف باسم الشيخ “عدّون” وتلميذه المؤرّخ الأديب محمّد علي دبّوز، وغيرهم. وكان يجد فيهم السند والمدد كلّما ركب ظهر الصّعاب، ويستلهم منهم النصيحة والمشورة، ويستعين بهم أمام الشدائد، ويعوّل عليهم حينما يجابهه مأزق أو يعترضه عارض محرج مستغلق.
جلس الشيخ إبراهيم بيّوض متعلما في حلقات مؤدبه الشيخ المصلح عمر بن يحي المليكي ( 1882 ـ 1921م) الذي أسس مدرسة في مسكنه دعاها باللّهجة المزابية المحلّية “تدّارث أنْوَعْزام”، أي “دار العلم” وبمجرد أن اختطفت المنون الشيخ عمر بن يحي فجأة، وهو في قمة النضج والعطاء، بعد أن أصابه العامل الممرض لداء التيفوس اللعين، حمل تلميذه إبراهيم بيّوض لواء الرسالة وهو شاب يافع، واستجمع قواه لمواصلة المسيرة رغم ثقلها حتى لا تنتكس. و(كان معهد الحياة في دار جميلة واسعة نظيفة، أوقفها والد الشيخ بيّوض السيد عمر بن بابة، رحمه الله، لتكون معهدا. لقد رأى نبوغ ابنه في العلم، فأيقن أنه سيكون أستاذا، فأوقف تلك الدار. وفي ذلك الوقف حثٌّ لابنه على إنشاء معهد التربية والتعليم يزداد به أجرا عند الله. وكان الشيخ عمر بن يحيى هو الذي حثّ الوالد على إيقاف الدّار للعلم، لأنه رأى نبوغ ابنه، فأيقن أنه سيخلفه في التربية والتعليم ويحتاج إلى دار لمعهده. وقد كتب الشيخ الحاج عمر بن يحي الوقف بخطه في وصيّة الوالد الكريم التي كتبها له الشيخ الحاج عمر بن يحي، رحمه الله).
انطلق المعهد ينشد التطوير والتحسين في كل جوانبه بما في ذلك جانب المقر الذي يحتضن نشاطاته، وكان في كل مرحلة يقفز خطوة عملاقة نحو الأمام يحقق معها مكاسب جديدة. ولما زاد عددُ طلبته، تحوّل التدريس إلى جوف المسجد الكبير الذي يعلو هامة القرارة. وفي طور لاحق شيّد معهد لصيق بالمسجد بنظرة حديثة يضم عدة حجرات وبهوا ومكاتب إدارية ومكتبة، وجُهّز تجهيزا عصريا حتى يجد فيه الطلبة راحتهم. وأما اليوم، فيستقرّ المعهد في بناية مستقلة ضخمة ذات طراز هندسي بديع ومزوّد بتجهيزات ومرافق رائعة. وانتصبت بجواره داخلية واسعة للطلبة الوافدين من خارج بلدة القرارة تضمن لهم الإطعام والمبيت والراحة.
تجاوزت سمعة معهد “الحياة” بلدة القرارة التي أصبحت بفضله عاصمة للعلم والإصلاح في الجنوب كما قال أحد خرّجيه المتفوقين وهو الدكتور صالح الخرفي. وتردّد صدى نفعه خارج حدود الوطن، ووصل إلى المشرق العربي بعد أن نال إعجاب كل من زاره أو قرأ عنه أو بلغته أخباره.
واستطاع أن يخطف اعترافات التمجيد والإشادة من أهل العلم وخدّام اللغة العربية الكبار. فقد تحدّث عنه الدكتور شوقي ضيف الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في سطور قائلا: (أحيي الجزائر البلد العربي العظيم، أحيي القرارة ومعهدها معهد الحياة الذي ظل، طوال سبعين سنة مضت، قلعة شامخة من قلاع العروبة والإسلام في الجزائر الشقيقة، وظل أساتذته العاملون البررة، يرعون فيه أبناءهم من الطلاب رعاية مخلصة، مع ما أخذوا من خصال إسلامية حميدة، قوامها الخير العميم. يذكر للمعهد بالثناء المستطاب، أنه خرّج، على مرّ السّنين، نخبة وطنية، عملت بكل ما أوتيت من قوة، ولا تزال تعمل، في بناء الجزائر العربية المسلمة، بناء شاهقا وطيدا، كمّا خرّج المعهد بجانبهم صفوة من العلماء والأدباء الأفذاذ، الذين ملك عليهم الأدب والعلم ذوات نفوسهم، والذين يبذلون لشعبهم في الجزائر، كل ما يستطيعون من جهود خصبة في نهضتها العلمية والأدبية).
تأسست نواة مكتبة معهد “الحياة” مع عهد نشأته الأولى، وطفقت تنتقل معه وتنزل بالأماكن التي أناخ فيها في رحلته الطويلة. وكانت ذخائرها من أعداد الكتب تتزايد بشكل ملفت. وتحتل هذه المكتبة في بناية المعهد الجديد الذي افتتح في سنة 2009م مكانا واسعا في الطابق الأرضي منه.
وتحمل ظهور رفوفها ما يزيد عن أحد عشر ألف عنوان. ولا تحتفظ المكتبة إلا بثلاث نسخ من كل عنوان، وتوجَّه النسخ الزائدة إلى المخزن أو تتنازل عنها إلى مكتبات أخرى بما في ذلك مكتبات المؤسسات التربوية. وتقبل المكتبة هبات الكتب والتركات المكتوبة التي يوقفها أصحابها عليها كما فعل الشيخ عدّون بمكتبته القيّمة والدكتور صالح الخرفي بمكتبته الفاخرة التي جمع كتبها في تونس.
وتحتوي المكتبة على بعض المخطوطات النادرة التي قلّما يصادف لها نسخ أخرى في الخزائن المعروفة. وتتعامل المكتبة بالإعارة الخارجية لمدة أسبوع في كل مرة شريطة أن يكون المستعير منخرطا فيها.
يستطيع الراغب المتعطش للاستزادة المعرفية التاريخية المغنية عن هذا المعهد العريق والحاضرة العلمية المرموقة أن يجد ضالته بالعودة إلى كتابين اثنين هما: كتاب “معهد الحياة.. نشأته وتطوّره” الذي وضعه مديره لسنوات طويلة الشيخ عدّون، والجزء الثالث من كتاب “نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة” للمؤرخ المربّي محمّد علي دبّوز.