تواطئ حلاوة السُكّر مع مرارة الاستبداد

الدكتور سناء الشامي إن اللجوء إلى التحليلات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية أو كل هذا معاً، لا يكفي اليوم لفهم مجريات الأحداث، والأنظمة السياسية وبالتحديد منظومة الهيمنة؟ للتعمق في مفهوم الهيمنة علينا أن ناجئ إلى السُكّر، نعم السّكّر، الذي لم يكن سلعة حلوة الطعم فقط، بل كان له امتداد تاريخي وسياسي، ولعب دور المحرك للتاريخ البشري. علينا …

أكتوبر 1, 2025 - 19:36
 0
تواطئ حلاوة السُكّر مع مرارة الاستبداد

الدكتور سناء الشامي

إن اللجوء إلى التحليلات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية أو كل هذا معاً، لا يكفي اليوم لفهم مجريات الأحداث، والأنظمة السياسية وبالتحديد منظومة الهيمنة؟
للتعمق في مفهوم الهيمنة علينا أن ناجئ إلى السُكّر، نعم السّكّر، الذي لم يكن سلعة حلوة الطعم فقط، بل كان له امتداد تاريخي وسياسي، ولعب دور المحرك للتاريخ البشري. علينا ألا نستغرب الأمر ونحن نعيش عصر سلعنة الحياة، ليس فقط الاقتصادية، بل الثقافية منها والسياسية، فكل مكونات الحياة صارت سلع تُؤثر وتتأثر بالسلع الأكثر أهمية.
لقد غيّر السكر العالم، فقد كان وراء تحولات اقتصادية كبرى، وبنى نظم اجتماعية جديدة، وصراعات سياسية، وثورات علمية، لكنه في الوقت نفسه ارتبط ارتباطا وثيقاً بالاستغلال وبالعبودية، وكلّف البشرية أثمان أخلاقية باهظة. ولو بحثنا في أصول السكر وانتشاره من خلال تتبعنا لجذور زراعة قصب السكر في غينيا الجديدة قبل نحو عشرة آلاف عام، وانتقاله إلى الهند حيث ظهرت أولى تقنيات تكريره، ثم عبوره إلى العالم الإسلامي في العصور الوسطى، وصولًا إلى أوروبا التي حولته إلى سلعة فاخرة تُعرف بـ “الذهب الأبيض”.

طاغية لا يرحم

لقد كان هناك ارتباطا وثيقاً بين انتشار السكر وتوسع شبكات التجارة العالمية، إذ أصبح هذا الذهب الأبيض عنصراً رئيسياً في حركة البضائع بين الشرق والغرب، و طاغية لا يرحم، فمن خلال عرض تاريخي موثق لارتباط الطلب الأوروبي المتزايد على السكر، يتضح كيف نشطت تجارة الرقيق عبر الأطلسي، و بتحليل لظروف عمل ملايين الأفارقة، تبرز جليّاً صور المستعبدين في مزارع الكاريبي والأمريكيتين، حيث كان قصب السكر يزرع ويُعالج في ظروف قاسية للغاية، كما أن حلاوة السكر تحالفت مع الثورة الصناعية، إذ شكّلت حافزاً غير مباشر لهذه الثورة من خلال زيادة الطلب أيضاً على وسائل النقل، الآلات، والمصانع، كذلك تطوير المحركات البخارية لتحسين عمليات طحن القصب وتكريره، مما سرّع في التحولات الصناعية…
كما إن تأثيرات السكر اخترقت السياسة، إذ أن تجارة السكر أشعلت الصراعات السياسية، مثل تمويل حركات الاستقلال في أمريكا الشمالية، وتأجيج ثورة العبيد في هايتي التي غيّرت موازين القوى الاستعمارية.
أيضاً كانت لعائدات السكر فضل كبير في تكوين الثروات السياسية وبناء نفوذ الدول الأوروبية، و ليس هذا و حسب، بل إن التطورات العلمية الناتجة عن الطلب على السكر، أدت إلى تحسين أساليب الزراعة، واختراع تقنيات تكرير جديدة، وإنتاج السكر من البنجر بدلاً من القصب خلال الحصار النابليوني، و برز دور العلماء والمهندسين في جعل إنتاج السكر أكثر كفاءة وربحية، و لكن هذا الإنتاج المتزايد كان له تأثير أخلاقي سلبي على المجتمع و أثمان إنسانية عالية: من استغلال العمّال، تدمير المجتمعات الأفريقية، والأضرار الصحية الناتجة عن الإفراط في استهلاكه. كما أن الحملات المناهضة للعبودية كانت قد استخدمت مقاطعة السكر المستورد من المزارع العبودية كسلاح سياسي وأخلاقي‪.‬‬

استمرار تأثير السكر

وإلى يومنا هذا نجد بأن استمرار تأثير السكر على البُعد الاقتصادي المعاصر ما زال قائم من خلال صناعة الأغذية الضخمة، أساليب التسويق، والأزمات الصحية العالمية مثل السمنة وأمراض القلب.
ما زال السكر سلعة إستراتيجية تتأثر بها السياسات الزراعية والتجارية للدول إلى يومنا هذا‪.‬‬
والسؤال هنا، كيف يمكن لمادة واحدة أن تعيد تشكيل تاريخ البشرية على مستويات الاقتصاد، العلم، والثقافة؟
ولماذا رافق ويُرافق التقدم الصناعي والتجاري استغلال وظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟
وما هي العلاقة بين الرغبة في الاستهلاك وثمنه الإنساني؟
جميع هذه الأسئلة علينا أن نغوص في العمق للرد عليها ولنتحرر من أثر السلع على قيمنا وإنسانيتنا، ولا سيما إننا في زمن سلّعوا فيه الإنسان ذاته… فسياسياً
يكشف ارتباط السكر بالبنية الاقتصادية للاستعمار والعبودية، ودوره في تمويل النظم الاستبدادية والرأسمالية الناشئة، مع ملاحظة وجود مفارقات كبرى بذات الوقت، حيث أن هذ السكر كان أداة قمع وتمويل للاستغلال، لكنه أيضًا ساعد في تمويل وتمكين حركات تحررية كبرى مثل ثورة هايتي. إذاً للسلع تاريخ سياسي يجب البحث فيه لفهم جذور قضايا العدالة الاجتماعية المعاصرة وعلاقة الاستهلاك بالأخلاق، وهذا ما تطرق له الكاتب الأمريكي مارك أورنسون في كتابه (كيف غيّر السكر العالم؟)‪.‬‬
السلع ليست مجرد مواد للاستهلاك، بل يجب النظر إليها بشكل شامل، ومراقبة كيفية تفاعل الاقتصاد، السياسة، والعلم مع سلعة واحدة لتشكيل مسار الحضارة الإنسانية. من العبودية إلى الثورة الصناعية، ومن الاستعمار إلى الحركات التحررية، ومن الاكتشافات العلمية إلى الأزمات الصحية المعاصرة، فالسلع هي مرآة لتأمل تاريخنا الجماعي وفهم الروابط الخفية بين الحلاوة والمرارة في التجربة الإنسانية‪.‬‬
و إذا طبّقنا ذات النظرة اليوم على البترول، الغاز، الطاقة و كل المعادن النادرة التي تحتاجها الصناعة التكنولوجية، نرى بوضوح تأثيرها حتى على الجيوسياسة، و لنأخذ البترول (الذهب الأسود) على سبيل المثال، و مدى تأثيراته السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الأمنية و الغذائية على الشرق الأوسط و العالم بشكل عام، و أيضاً على قوتنا اليومي، فالعالم يأكل بترولاً دون أن يدري، إذ أن الأرقام تشير إلى أن 15% من الوقود الأحفوري (الفحم، النفط و الغاز الأحفوري) يُستخدم في الزراعة و 42% يُستهلك في تصنيع الأغذية و التعبئة و التغليف، و 38% في المطاعم العامة و المطابخ الخاصة، و 20% فقط في الإنتاج الزراعي. إذا أخذنا في الاعتبار المنتجات البتروكيماوية المشتقة من معالجة الوقود الأحفوري فأن 40% منها يُستخدم في الزراعة، مقسّمة بين 44% في إنتاج الأسمدة و6% في صناعة البلاستيك الذي يؤثر بشكل كبير في الزراعة وصيد الأسماك، تربية الأحياء المائية، فالبلاستيك اليوم يمثل 3.5% من إجمالي الاستخدام العالمي‪.‬‬

ندرة النفط

ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة فإن إنتاج النفط التقليدي بلغ ذروته في عام 2006، وبأننا اليوم نعيش في عالم يعاني من ندرة النفط… إذاً ماذا وكيف سنأكل؟ ما دامت السلع هي من يتحكم بحياتنا، لماذا لا نصنع سلعاً بحجم إنسانيتنا نستعيد معها وجودنا وقيمنا؟ أليس من الأجدر للدول العربية أن تبدأ برسم إستراتيجيات سياسية جديدة لها، تقلل من تبعيتها للغرب، وذلك من خلال المراهنة على نموذج زراعي وغذائي معاكس للنموذج السائد، يضع احتياجات الأغلبية والنظام البيئي في المركز.
لا يتعلق الأمر بالحنين إلى الماضي، بل بالحاجة الماسة إلى رعاية الأرض، وضمان الغذاء للجميع دون سلب الحقوق والكرامة، ولتجنيب المجتمع خطر الذل والتهديد، كما حدث أثناء الحصار الاقتصادي الأمريكي على العراق: البترول مقابل الغذاء. ألم يسرق الأمريكان بنك الحبوب في العراق وسوريا؟ البحث اليوم على نموذج فلاحي مختلف يحمي المجتمعات من الاستغلال لتحقيق مكاسب تجارية أشبه بالأسلحة الفتّاكة: فكلما كانت الزراعة صناعية ومكثفة وعالمية، زادت اعتمادها على النفط، وبعكس ذلك، كلّما كان النظام الزراعي المحلي والموسمي الذي يعتمد على الزراعة البيئية، فهو يقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري وعلى التبعية للشركات العالمية التي تستخرجه.

فهم البنية التاريخية

وكما هو معلوم للجميع، فأن المجتمعات الرأسمالية هي أكبر منظمة ومطورة للإنتاج، ومع فهم البنية التاريخية لهذه المنظمة المهيمنة على العالم، نستطيع تدريجياً العودة إلى بنية وعلاقات الإنتاج لجميع المجتمعات السابقة للرأسمالية، والتي بنت الرأسمالية على أنقاضها، من خلال النظام الصناعي للزراعة، الاحتكار في العالم.
علينا أن نعود لمفاتيح الاقتصاد القديم، كي نضعف مركزية الإنتاج الرأسمالي العالمي، الذي يسعى إلى استعباد البشرية، كي نمنع غرق الشباب العربي في البحار، من أجل الوصول إلى الدول الرأسمالية التي ترى في نجاته، وصول سلعة رخيصة الأجر إلى أسواقها: الإمبريالية التي هي أعلى مراحل الرأسمالية، و لكي تضمن استمراريتها و هيمنتها، لا بد أن تستمر في توفير العمالة الرخيصة من أجل تعزيز الرأسمالية الصناعية، و لا جديد تحت الشمس، فقد كانت تجارة الرقيق محرك التقدم الاقتصادي و الصناعي لبريطانيا، و إن صعود و سقوط تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي بين القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، و استخدام الأفارقة كعبيد في الإمبراطورية البريطانية و العنصرية، جميع ذلك ارتبط بأسباب اقتصادية بحتة، و العبودية لم تُلغى إلا عندما سقطت جدواها من الناحية المالية، بحكم تطور الآلة، و هذا يدحض الرواية التي رأت في تحرير العبيد علامة على التقدم الأخلاقي لبريطانيا… إذاً الاستعمار مرتبط بالرأسمالية، أو العكس، و الاثنان معاً مرتبطان بالإنتاج و موارده…إذاً لنحرر الأرض من النظام الصناعي، كي نصنع إنتاجاً بطعم الحرية و الكرامة‪.‬‬