رحلة الحجّ: مشاعر ودروس (1)

عيوننا وأفئدتنا هذه الأيام، شاخصة نحو بلاد الحرمين، نحو تلك البقاع الطّاهرة، حيث تلك الصور التي ينشرح لها صدر كلِّ عبد مؤمن، ويخفق لها قلبه، وربّما تدمع لها عينه، صور حجيج بيت الله الحرام وهم ينسلون من كلّ فجّ عميق نحو بيت الله الأمين. أجسادهم قد توشّحت البياض وألسنتهم تلبّي بنداء التوحيد: “لبّيك اللهمّ لبّيك، […] The post رحلة الحجّ: مشاعر ودروس (1) appeared first on الشروق أونلاين.

مايو 31, 2025 - 19:50
 0
رحلة الحجّ: مشاعر ودروس (1)

عيوننا وأفئدتنا هذه الأيام، شاخصة نحو بلاد الحرمين، نحو تلك البقاع الطّاهرة، حيث تلك الصور التي ينشرح لها صدر كلِّ عبد مؤمن، ويخفق لها قلبه، وربّما تدمع لها عينه، صور حجيج بيت الله الحرام وهم ينسلون من كلّ فجّ عميق نحو بيت الله الأمين. أجسادهم قد توشّحت البياض وألسنتهم تلبّي بنداء التوحيد: “لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة والملك لك لا شريك لك لبّيك”، تلبية يردّد صداها الحجر والشّجر والمدر، يقول النبيّ –صـلى الله عليه وسلم-: “ما من ملبٍّ يلبي، إلا لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا” (صحيح الجامع).
رحلة الحجّ هي الرحلة التي يتمنّاها كلّ عبد مؤمن في مشارق الأرض ومغاربها، لأنّها الرحلة التي يجتمع فيها القلب مع الرّوح والبدن، ويجد فيها العبد من السّعادة والأنس ما لا يجده في غيرها، رحلة يجري فيها القلب قبل القدمين، وتتحدّث العينان قبل اللّسان.. رحلة لا يعرف قدرها إلا من جرّبها، ومن جرّبها يتمنّى من كلّ قلبه لو يعيدها كرّة أخرى.
إنّها الرّحلة التي ينزل بها العبد المؤمن ضيفا على أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ففي حديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم” (السلسلة الصحيحة). وكفى ضيوفَ الرّحمن شرفا أنّ الله يفرح بهم ويباهي بهم ملائكته الكرام: في الحديث أنّ الله –تعالى- يُباهي بأهل عرفات ملائكة السَّماء، يقول: “انظروا إلى عبادي، أتَوْني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم”.
يُذكر أنّ عبد الرحيم البرعي الشّاعر السّودانيّ المتصوّف، حين كان في الشام، واصطُحب في حجته الأخيرة محمولا على ظهر بعير وأمسى على بعد خمسين ميلاً من المدينة، هبت نسائم الأماكن الطّاهرة فاحترق قلبه شوقا، فأنشأ قصيدة لفَظ معها أنفاسه الأخيرة، قال فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي * هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي * الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ * يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا * عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى * عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ * نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى * فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ
ضَحَّوْا ضَحَايَا ثُمَّ سَالَ دِمَاؤُهَا * وَأَنَا الْمُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي
لَبِسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ شَارَاتِ اللِّقَاءِ * وَأَنَا الْمُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي
يَا رَبِّ أَنْتَ وَصَلْتَهُمْ صِلْنِي بِهِمْ * فَبِحَقِّهِمْ يَا رَبِّ فُكَّ قِيَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا مِنِّي * السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الْوَادِي
قُولُوا لَهُمْ عَبْدُالرَّحِيمِ مُتَيَّمٌ * وَمُفَارِقُ الأَحْبَابِ وَالأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللَّهُ يَا عَلَمَ الْهُدَى * مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّمَ حَاد.
رحلة الحجّ، هي أنفع وأمتع رحلة يخرج فيها عبد مؤمن في هذه الدّنيا، رحلة يبذل لأجلها مالا كثيرا لكنّه يبذله عن طيب نفس، لا تحدّثه نفسه بأن يندم عن بذله.. وكيف يندم وهو يعلم حديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله (يقصد جهاد التطوّع لا الجهاد المفروض) بسبعمائة ضعف” (رواه أحمد)؟
رحلة يتمنّى العبد المؤمن أن يرجع منها وقد غفرت ذنوب عمره كلُّها، وحُطّت سيئاتُه التي ملأت صحيفته وسوّدت قلبه وأثقلت روحه وبدنه ويخاف أن يعذّبه الله بها، يتمنّى ذلك وبين عينيه حديث النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام-: “من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه”.
رحلة تُذكّر العبد المؤمن خاصّة وهو يطوف بالكعبة المشرّفة عكس عقارب السّاعة، ويكبّر كلّما مرّ بالحجر الأسود حجر الجنّة، بموطنه الأصليّ وبيته الذي خرج منه أبوه آدم -عليه السّلام-، تذكّره بالجنّة التي ينبغي له أن يتعب ويعمل جاهدا ليعود إليها، ويتذكّر مع ذلك أنّ الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة، كما قال النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-.
في ربعهم لله بيتٌ مباركٌ * إليه قلوبُ الخَلْقِ تهوى وتهواهُ
يطوفُ بِهِ الجاني فَيُغْفَرُ ذَنبُه * ويسقُطُ عنه جرمُه وخطاياهُ
فكم لذةٍ كم فرحةٍ لطوافهِ * فللهِ ما أحلى الطوافَ وأهناهُ
نطوف كأنَّا في الجنانِ نطوفُها * ولا همَّ لا غمٌّ فذاك نفيناهُ
فيا شوقنا نحو الطواف وطيبه * فذلك شوقٌ لا يحاط بمعناهُ
فمن لم يذقْه لم يذقْ قطُّ لذةً * فَذُقْهُ تَذُقْ يا صاحِ ما قد أُذِقنَاه.
رحلة يتمنّى العبد المؤمن أن يرجع منها إنسانا آخر بقلب آخر ونفس أخرى، زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، يحمل همّ الآخرة، ويرجو لقاء ربّه ويتوق إلى جنّته وإلى رؤية وجهه الكريم. لأنّه يسمع حديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة”، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنّ الحجّ المبرور هو الذي يرجع صاحبه زاهدا في الدّنيا راغبا في الآخرة.
رحلة الحجّ تُذكّر العبد المؤمن وهو يرمي الجمرات يوم العيد وفي أيام التشريق بإبراهيم الخليل –عليه السلام- الذي سطر لأمّة الإسلام درسا عظيما في لزوم أمر الله ومخالفة نزغات الشيطان.. وتذكّره بأنّ الخير كلّ الخير والفرج كلّ الفرج في طاعة الله وامتثال أمره، مهما خالف هوى النّفس.
رحلة الحجّ تذكّر العبد المؤمن برحلته الأخيرة، رحلة رجوعه إلى الله، بانتقاله من دار الفناء إلى دار البقاء.. الحاجّ يلبس لباسا يذكّره بالكفن، وينزل إلى منى ويمكث في مكان متواضع ليس فيه شيء من مظاهر الحضارة، يذكّره بحياة البرزخ، وهو يرى النّاس سواسية غنيهم وفقيرهم، ويقف بعرفات في موقف يذكّره بيوم القيامة، بيوم الحساب، يوم شديد حرّه، ينتظر فيه العباد فصل القضاء.
رحلة يشدّ فيها العبد رَحله ليزور مسجد النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- ويقف عند قبره الشّريف مسلّما عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر، ويستشعر أنّ بين بدنه وبدن النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- الذي هو كما كان قبل 14 قرنا، بضعة أمتار.. البدن قريب من البدن، والروح تتمنّى لو تعانق الرّوح.. يمرّ بالأماكن التي كان يجلس فيها الحبيب مع أصحابه، والأماكن التي طالما سجد فيها، وطالما اتكأ فيها، ويرى المكان الذي كان عليه منبره والذي كان فيه محرابه.. يعود القلب 14 قرنا إلى الوراء، لكأنه يعيش تلك اللحظات.. فلا يجد إلا أن يتمنّى أن يحشره الله تحت لواء حبيبه لتكتحل عيناه برؤيته، ويُسكنه في الجنّة قريبا منه.
رحلة الحجّ، رحلة يقف فيها العبد أمام الكعبة المشرفة التي حجّ إليها أكثر من 124 ألف نبيّ، وحجّ إليها ملايير المسلمين عبر الأجيال.. يقف العبد أمامها فتأخذه الرهبة والخشوع، ويستشعر فضل الله عليه أن بلّغه ذلك المقام.. روى الفكهاني في أخبار مكّة عن عبد المجيد بن أبي رواد، عن أبيه، قال: “خرجنا من خراسان ومعنا امرأة، فلما دخلت الحرم جعلت تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فقيل لها: الآن تأتين بيت ربك، فلما دخلت المسجد قيل لها: هذا بيت ربك، قال: فاستندت إلى البيت فوضعت خدها على البيت، فما زالت تبكي حتى ماتت”.
ومع كلّ ذلك ربّما يتذكّر العبد المؤمن أنّ هذه الكعبة بشرفها ومكانتها، سيأتي عليها يوم تهدم فيه وتنقض حجارتها، على أيدي شرار الخلق، بعد أن يُخرج الله مهابتها وحبّها من قلوب النّاس، عندما يكثر الفساد في الأرض وحواليها.. يتذكّر ذلك وهو يرى كيف أنّ تلك الكعبة قد أحيطت بالأبراج العالية، وكيف أنّه افتتحت أماكن للهو والعبث غير بعيد منها!

يُتبع بإذن الله…

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post رحلة الحجّ: مشاعر ودروس (1) appeared first on الشروق أونلاين.