في ذكراه السادسة : الأستاذ محمد الشريف بغامي كما عرفتُه
أ.د. مسعود فلوسي/ في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات خلت، وتحديدا مساء يوم الجمعة 09 ذو القعدة 1440هـ، الموافق 12 جويلية 2019م، فقدنا أخانا العزيز الأستاذ محمد الشريف بغامي رحمه الله، مدير المعهد الوطني للتكوين المتخصص للأسلاك الخاصة بإدارة الشؤون الدينية في زانة البيضاء بولاية باتنة، والذي ربطتنا به علاقة الأخوة والصداقة والمودة والمحبة …

أ.د. مسعود فلوسي/
في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات خلت، وتحديدا مساء يوم الجمعة 09 ذو القعدة 1440هـ، الموافق 12 جويلية 2019م، فقدنا أخانا العزيز الأستاذ محمد الشريف بغامي رحمه الله، مدير المعهد الوطني للتكوين المتخصص للأسلاك الخاصة بإدارة الشؤون الدينية في زانة البيضاء بولاية باتنة، والذي ربطتنا به علاقة الأخوة والصداقة والمودة والمحبة والتعاون على البر والتقوى، وكان – قبل مرضه ووفاته – ملء السمع والبصر عملا ونشاطا وإدارة وانضباطا في نفسه، وتنشيطا وتحفيزا وتوظيفا لغيره فيما يخدم المصلحة العامة.
خلاصة مسيرته في الحياة
هو محمد الشّريف بن محمد بن أحمد بغّامي، ولد يوم الأربعاء 03 ذو الحجة 1380هـ، الموافق 17 ماي 1961م، في قرية (تَاجْرَة)، من بلدية (إينوغيسن) بولاية باتنة. عندما بلغ سن التعلم التحق بكتاب القرية حيث حفظ طرفا من القرآن الكريم على يد والده. ثم التحق بالدراسة الابتدائية، ثم المتوسطة، ثم الثانوية.
شارك بعد نهاية دراسته الثانوية في مسابقة الالتحاق بالمعهد التكنولوجي لتكوين المدرسين، ونجح فيها. وبعد نهاية فترة التكوين، عين معلما في مدرسة سميّة للبنات بباتنة من 1980م إلى 1981م، ثم أستاذا للتّعليم المتوسّط بإكمالية أسماء بنت أبي بكر الصدّيق بباتنة.
نجح في امتحان الحصول على شهادة البكالوريا دورة جوان 1981م، مما مكنه من الالتحاق بجامعة باتنة، مع استمراره في مهنة التعليم. وكان تخرُّجه وحصوله على شهادة الليسانس في اللغة والأدب سنة 1986م.
التحق بعد ذلك بوزارة الشؤون الدينية، حيث عمل أستاذا بمعهد تكوين الإطارات الدينية بتمنراست، ثمّ مديرا للدراسات والتداريب فيه من سنة 1986م إلى 31 ديسمبر 1987م، لينتقل إلى معهد سيدي عقبة مديرا للدراسات والتداريب ونائبا للشيخ عمر دردور الذي كان مديرا للمعهد آنذاك. ثم أصبح مديرا للمعهد من جانفي 1988م إلى نوفمبر 1991م، ثمّ تم تحويله إلى المعهد الإسلامي لتكوين الإطارات الدينية سيدي عبد الرحمن اليلولي بـ(عزازقة) في ولاية تيزي وزو مديرا من نوفمبر 1991م إلى 27 فيفري 1993م، ليُنتدب بعدها إلى وزارة الشّؤون الدّينية بالمديرية الفرعية للتكوين مع التكليف بمهام البرمجة ومتابعة نشاطات المعاهد الإسلامية لتكوين الإطارات الدينية.
عاد إلى ولاية باتنة حيث مارس مَهَمَّة مفتش التعليم المسجدي والتكوين على مستوى مديرية الشؤون الدينية بها من أفريل 1994م إلى جانفي 2001م، ثم انتقل إلى مديرية الشؤون الدينية والأوقاف بولاية خنشلة في نفس المهمة إلى غاية سبتمبر 2006، ثم رئيسا لمصلحة التعليم القرآني والتكوين والثقافة الإسلامية بذات المديرية. وفي 23 أوت 2011م عُيِّن من طرف وزير الشؤون الدينية والأوقاف مديرا للمعهد الوطني للتكوين المتخصص للأسلاك الخاصة بإدارة الشؤون الدينية والأوقاف بزانة أولاد سبع، بلدية زانة البيضاء دائرة سريانة ولاية باتنة، وهي المهمة التي ظل يمارسها إلى غاية وفاته رحمه الله تعالى في الساعة 23:00 ليلا من يوم الجمعة 12 جويلية 2019م.
كان له نشاط بارز تمثل في مشاركاته الإعلامية والثقافية، حيث ساهم في إعداد حصص إذاعية وتنشيطها في إطار برنامج (نور ومنار) بإذاعة الأوراس حول مجموعة من أعلام منطقة الأوراس. كما ساهم في إعداد حصص إذاعية في إطار برامج متعددة منها: (زوم على المجتمع)، (واقع ورؤى)، (في رحاب رمضان)، (من حياة الصحابة)، وحصص تاريخية أخرى بإذاعة خنشلة الجهوية والقناة الإذاعية الوطنية الثانية. إضافة إلى محاضراته وتدخلاته في الندوات والملتقيات والأيام الدراسية المختلقة التي كان لا يتأخر عن المشاركة والإسهام فيها.
ترك مجموعة من الآثار المكتوبة؛ من خطب ودروس ومقالات وكلمات تأبينية وكلمات في مناسبات وطنية.
متى عرفتُ الأستاذ بغامي؟
كانت أول مرة رأيت فيها الأستاذ محمد الشريف وسمعت منه حوالي سنة 1985م، كنت حينها أتردد أحيانا على الحي الجامعي عمار عاشوري، حيث كانت تقام في مسجد الحي المحاضرات والندوات التي يتولى تأطيرها أساتذة يعالجون قضايا مختلفة في إطار الوعي الإسلامي والثقافة الإسلامية، ومن بين الندوات التي حضرُتها حينئذ ندوةٌ قدم فيها مؤطرها قراءة في كتاب: (ثغرة في الطريق المسدود.. دراسة في البعث الحضاري)، وكان المؤطر هو الأستاذ محمد الشريف بغامي، وقد أعجبت أيما إعجاب بطريقته في عرض الكتاب وإسقاطه لمقولاته وأفكاره على الواقع الجزائري، ومما أذكره من كلامه في تلك الندوة قوله رحمه الله: «من المقولات الشائعة في مجتمعنا الجزائري: دير كيما يدير جارك ولاَّ بَدَّلْ باب دارك»، حيث فند هذه المقولة وبين خطأ مضمونها وعلق عليها بقوله: «أوَلَوْ كان جاري سكيرا أو عربيدا او فاسقا، أفأكون مثله وأعمل بعمله؟». ومما شدني إليه كذلك في تلك الندوة أنه ظل يتكلم واقفا طيلة أزيد من ساعة، ولم يجلس على كرسي، وكان يتقد حماسا وتفاعلا مع موضوع ومضمون الكتاب.
كما حضرت في مناسبة أخرى ندوة في المركز الثقافي الإسلامي بمدينة باتنة، وربما كان ذلك في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأعتقد أنها كانت في أحد أيام شهر رمضان المبارك، حيث تناول فيها الكلمة وحلق بنا في آفاق رحبة من الفكر والأدب، وقرأ علينا من ذاكرته مقاطع من قصائد مختلفة لعدد من الشعراء منهم شاعر الثورة مفدي زكريا وشاعر الأوراس حسين زيدان رحمهما الله.
كيف توطدت علاقتي به؟
كان طبيعيا أن أتعرف إلى الأستاذ بغامي رحمه الله وأن تتوطد العلاقة بيننا بفعل التلاقي في المناسبات الفكرية المختلفة، وهنا أذكر أنه كان من بين الحاضرين عند مناقشة رسالتي في الماجستير يوم 15 جوان 1994.
وقد توطدت العلاقة بيني وبين الأستاذ أكثر فأكثر عندما فتحتُ مكتبة وسط مدينة باتنة، كان الأستاذ بغامي يمر بي إما صباحا عند ذهابه إلى عمله في مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية باتنة، أو مساء عند خروجه من العمل. وكنت أدعوه في كل مرة إلى تناول الشاي في المحل القريب من المكتبة، أو أرسل من يأتيه بالشاي إلى المكتبة حيث كنا نجلس لنتبادل أطراف الحديث في مختلف الشؤون، وكنت أستمتع بما أسمعه منه من معلومات وما أستفيده من طرائف، وفي كثير من الأحيان كان ينضم إلينا بعض الأصدقاء من الأساتذة المثقفين. وبعد ذلك اضطُررْتُ إلى إغلاق تلك المكتبة، وانتقل هو إلى مدينة خنشلة، فقلَّتْ لقاءاتي به، حيث لم نكن نلتقي إلا لِمَامًا وكان ذلك يتم عادة في التظاهرات التي كانت تُقام في المناسبات المختلفة الدينية أو الوطنية.
لقاءات ومناسبات جمعتنا
بعد أن تولى الأستاذ محمد الشريف إدارة المعهد الوطني للتكوين المتخصص للأسلاك الخاصة بإدارة الشؤون الدينية والأوقاف بزانة، دعاني أكثر من مرة لإلقاء محاضرات على طلبة المعهد، وخاصة في شهر رمضان المبارك أو في مناسبات أخرى، وقد استجبتُ لدعوته في بعض المرات واعتذرتُ في مرات أخرى لأسباب منعت من الاستجابة، وكان رحمه الله يتقبل اعتذاري. كما كان يدعوني رفقة كل من الأستاذ أحمد بن السائح والشيخ جمال الدين ميهوبي رحمه الله وغيرهما من الإخوة والأصدقاء لحضور احتفال المعهد بتخريج دفعة جديدة من طلبته في نهاية كل سنة دراسية.
إلى جانب ذلك؛ جمعتني بالأستاذ مناسبات مختلفة اشتركنا فيها في ندوات أو ملتقيات عن بعض مشايخ الأوراس، منها الملتقى الذي جمعنا في إينوغيسن وتناول سير أعلام الحركة الإصلاحية في منطقة الأوراس، والندوة التي جمعتنا في المدرسة القرآنية لمسجد أول نوفمبر، وتلك التي جمعتنا في المركز الثقافي لمدينة تازولت في ذكرى وفاة الشيخ دردور رحمه الله.
وآخر ندوة كان يُرجى أن يشارك فيها تلك التي عُقدت لإحياء الذكرى العاشرة لوفاة الشيخ عمر دردور رحمه الله في المركز الثقافي الإسلامي بباتنة، حيث تعذر حضوره بسبب دخوله المستشفى، وقد زرته رفقة كل من الشيخ جمال الدين ميهوبي رحمه الله والأستاذ أحمد بن السائح على إثر الانتهاء منها وأخبرناه بما جرى خلالها من مداخلات فكان فرحه كبيرا بذلك رحمه الله.
مرضه ووفاته
لم أعلم بمرض أخينا سي محمد الشريف إلا بعد إبلاله المؤقت منه، حيث دعاني باعتباري عضوا في مجلس إدارة المعهد لكوني عميدا لكلية العلوم الإسلامية بجامعة باتنة1 حينئذ، لحضور اجتماع مجلس الإدارة الأخير في حياته رفقة الأخ الفاضل الأستاذ مداني بوستة مدير الشؤون الدينية والأوقاف وأعضاء آخرين، ولاحظت أنه رغم تجلده وتصبره ومحاولته الظهور بمظهر الصحيح المُعافى، إلا أن علامات المرض والإرهاق والضعف كانت بادية عليه، وقد لاحظت أثناء تناولنا طعام الغداء تظاهره بالأكل حتى لا يُحرجنا لكنه في الحقيقة ما أكل إلا القليل جدا من الطعام.
لم يطل الأمر بعد ذلك حتى علمنا أن الرجل عاوده المرض ودخل المستشفى الجامعي بمدينة باتنة، فعُدناه مرارا طيلة المدة التي مكثها فيه، وقد لاحظت أنه كان يتشبث بكل من يزوره ويحرص على أن يحتفظ بيد زائره في يده ويسأله عن كل كبيرة وصغيرة مما يعرفه عنه، وهو ما حدث لي معه أكثر من مرة، وكأن الرجل استشعر قرب أجله فكان يحرص على أن يُشبع روحه من أحبابه قبل فراقهم والرحيل عنهم. وأذكر أن عشرات إن لم أقل مئات من الإخوة والأصدقاء والزملاء الذين عرفوه في مختلف أطوار حياته زاروه وكرروا له الزيارة، وكلهم كان يتمنى له الشفاء والبُرْءَ من مرضه واستعادة نشاطه وحيويته التي عُرف بها، إلا أن ما كان يحدث هو تدهور صحته يوما بعد يوم، وهو ما كان يؤلم كل من يراه من عائديه الذين ظهر حبهم له وتألمهم لما كان يعانيه.
وما هي إلا أيام حتى دخل الأستاذ رحمه الله في غيبوبة، انتهت بوفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى، وكانت جنازتُه التي شهدها المئات من إخوانه وأصدقائه ومحبيه وعارفي فضله خيرَ دليل على ما كان يتمتع به من مكانة في المجتمع صنعها بتواضعه الجمِّ وحيويته الدافقة وتفتحه على كل الناس وصولاته وجولاته الفكرية في الملتقيات والندوات التي كان يشهدها ويُسْهِمُ فيها بتدخلاته وتعليقاته الممتعة بما كانت تزخر به من معلومات ثرية واستشهادات غزيرة.
صفات عرفتها في الأستاذ
إننا لو أردنا أن نلخص حياة وشخصية الأستاذ الشيخ محمد الشريف بغامي رحمه الله، لما وجدنا أفضل من أن نقول: إن الرجل كان مجموعة من الخصال الشريفة الفريدة والأخلاق العالية المُنيفة التي تكاتفت وتكاملت لتشكل شخصيته الفذة، ومن هذه الخصال والأخلاق:
1- الثبات على المبدأ: فقد كانت له مجموعة من المبادئ التي أقام عليها حياته، واتخذها منهجا له في سائر شؤونه، سواء فيما يتعلق بتوجهاته الشخصية أو في علاقاته بغيره من الناس، هذه المبادئ لم يحد عنها طول حياته ولم يتراجع عن أي منها في يوم من أيامه، فما كان يغير رأيا اقتنع به، ولا يحابي أحدا فيما يراه مخالفا لما يعتقده، ولا يتردد في أن يصف الواقع كما هو بكل جرأة ودون خوف ولا وجل ولا حذر.
2- الجدية والانضباط والإخلاص للعمل: فلم يكن يتسامح مع أي كان فيما يتعلق بالعمل، وهذا ما عرفه منه من عملوا تحت إدارته في المؤسسات التي تولى تسييرها. وهذا المنهج كما فرضه على غيره، فرضه كذلك على نفسه، فلم يكن يتسامح معها أو يتيح لها مجالا للراحة، بل كان يرهقها في متابعة الأعمال وإنهاء المهام وحل المشكلات، حتى يمنع تراكمها واستفحالها.
3- الإدارة الحكيمة: فكان يُحسن وضع الأمور في مواضعها ويتخذ لكل موقف القرار المناسب المحقق للمصلحة والدافع للمفسدة.
4- غزارة العلم وكثرة المحفوظات: كان رحمه الله موسوعة علمية وثقافية متنقلة، فقد آتاه الله بسطة في العلم، ورزقه ذاكرة نادرة تختزن الكثير من النصوص القرآنية والنبوية والشعرية والحِكَمية، تلك النصوص التي كان يستحضرها وتنثال على لسانه بكل سهولة ويُسر وكأنه يقرؤها من كتاب مفتوح أمامه عندما يكون بصدد الحديث في موضوع معين.
5- الفصاحة والبلاغة: حيث كان نموذجا للمثقف الفصيح اللسان الذي مهما أطال في الحديث لم يكن لسانه يتعثر أو يتلعثم في كلمة أو يخطئ في حركة إعرابية، فقد كانت الكلمات تنثال من لسانه مرصوفة متقنة فصيحة لا يعتورها لحن ولا عوج. وإلى جانب الفصاحة فقد كان بليغا ينتقي الكلمات بإتقان ويتفنن في استعمالها ويضع كل كلمة في موضعها اللائق بها.
6- التفتح على مختلف فئات المجتمع: فقد كان قريبا من المثقفين والعلماء، مصاحبا للمجاهدين وكبار السن، متوددا للشباب والفتيان. وهذا ما مكنه من أن يحظى بمكانة متميزة في قلوب الناس ويستولي على حبهم له، فكانوا يدعونه في المناسبات المختلفة ويطلبون حضوره في مجالس الصلح وينتدبونه لتأبين موتاهم.
7- تقدير الأعلام والوفاء للمشايخ: فالرجل كان يخزن في ذاكرته الكثير من المعلومات والمعارف عن المجاهدين والشهداء وأبطال الجزائر عبر التاريخ، وكذا عن رجال الحركة الإصلاحية من أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وكان يدلي بهذه المعلومات في المحافل التي يشهدها والمحاضرات التي ينشطها والمناسبات الوطنية التي يُدعى للحديث فيها. أما وفاؤه لمشايخه فقد ضرب فيه المثلَ وأعطى فيه القدوة والنموذج، فقد كان أول من سعى إلى تنظيم يوم دراسي تكريمي للشيخ عمر دردور رحمه الله بعد وفاته، في قاعة المحاضرات الكبرى بكلية العلوم الإسلامية في جامعة باتنة، يوم 15 جوان 2009م، واستقدم له عددا من الأساتذة ممن عرفوا الشيخ في مختلف مراحل حياته وكان منهم الدكتور أبو القاسم سعدالله والدكتور مختار فيلالي رحمهما الله. وظل يذكر شيخه عمر دردور في كل مناسبة ويُعرف بسيرته العطرة ومآثره الكريمة كلما سنحت له الفرصة. وكذلك كان حاله مع الشيخ الأمير صالحي والشيخ معلم محمد البخاري رحمهما الله.
وبعد، فهذه كلمات بسيطة في حق فقيدنا العزيز الأستاذ محمد الشريف بغامي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وهي وإن لم تَفِ فقيدَنا حقه إلا أنها عبرت عما له في القلب من محبة ومودة واحترام وتقدير.