ركن تاريخ وتراث / البيوتات العالمة بالجزائر : آل القنفذ القسنطينيين « بيت علم وجاه»
د. عبدالقادر بوعقادة */ آل القنفذ من البيوتات القسنطينية المرموقة التي بلغت من المكانة ما جعلها تستقطب اهتمام الجميع قديمًا وحديثا، ينسب هذا البيت إلى بطن من قبيلة أشجع المضرية العدنانية، وقد سمّي أهلها ببني قنفذ بن حلاوة بن سبيع بن أشجع، أمّا كنية قنفذ فتعود إلى جدّهم. ويذكر الإسم بالتعريف أو نكرة، والأشهر التعريف …

د. عبدالقادر بوعقادة */
آل القنفذ من البيوتات القسنطينية المرموقة التي بلغت من المكانة ما جعلها تستقطب اهتمام الجميع قديمًا وحديثا، ينسب هذا البيت إلى بطن من قبيلة أشجع المضرية العدنانية، وقد سمّي أهلها ببني قنفذ بن حلاوة بن سبيع بن أشجع، أمّا كنية قنفذ فتعود إلى جدّهم. ويذكر الإسم بالتعريف أو نكرة، والأشهر التعريف كما جاء في تحقيق كتاب الفارسية.
برزت قيمة آل القنفذ بسلوكها طريق العلم ومصاهرتها العائلة الملارية العريقة، فوالد والدة ابن القنفذ «أبو العباس» هو يوسف بن يعقوب الملاري الصوفي (ت. 764هـ/1363م)، الذي يعدّ أحد أبرز أعلام ومتصوفة قسنطينة ممّن بلغ تأثيره إفريقية والمغرب والأندلس بفعل زاوية العلم والتصوف التي تنسب اليه. وبالعودة إلى آل القنفذ فإنّ أربعة من الأعلام أوردتهم كتب التراجم والطبقات آخرهم شهرة أبو العباس أحمد بن قنفذ الخطيب (ت 810ه/1407م) صاحب التصانيف الوفيرة، وعلى رأسها كتابه الفارسية الذي أشار من خلاله إلى ثلاثة من آل القنفذ، أوّلهم والد جدّه حسن بن علي بن ميمونة بن قنفذ (ت. 664 هـ/ 1266م) الموصوف بالفقيه والموثوق في علم الحديث «المحدّث»، اهتم بقسنطينة بتدريس علم الحديث الذي أخذه بسند مميّز عن أبي يعقوب الغماري عن أبي علي السخاوي عن أبي الطاهر بن عوف عن الأستاذ أبي بكر الطرطوشي عن القاضي «أبو الوليد الباجي» بسنده ليتبوأ من خلالها مكانة ضمن السند الحديثي. ثمّ ورث المكانة العلمية لهذا الجد ابنه علي بن حسن بن قنفذ (644-733هـ / 1246-1332م) المعروف بالخطيب المفوه والبارع في الفهم، المتولي منصب الخطابة بقسنطينة لمدة خمسين (50) عامًا، مثلما تولى القضاء مدة ثلاثين (30) سنة ليستعفي بعدها…، وقد ورثه في المكانة ابنه حسين بن علي بن قنفذ الملقب بالخطيب «وهو والد أبي العباس» والمتوفى سنة 750هـ/1349م ورابع آل القنفذ الذي لمع في التصوف خصوصا بعد وقوع المصاهرة مع شيخ الزاوية الملارية. هذا الرجل الذي رحل إلى الحجاز مرتين، وتكلم في بعض النوازل كمرض الطاعون التي حلّ بالبلاد، وكان سببا في وفاته. وقد وقع الخلاف بين طلبته في الفرار ممن مرض به، فعمد إلى تأليف كتاب سماه بـ «المسنون في أحكام الطاعون»، يذكر فيه الوباء وأحكامه. كما ألّف كتابًا في المسائل سمّاه «المسائل المسطرة في النوازل الفقهية».
وورث عن هؤلاء جميعاحفيدهم الأخير أحمد بن حسين بن علي بن الخطيب، صاحب التصانيف المرموقة والنسخ المحققة…والذي حلّاه كل من التنبكتي والسرّاج بالعالم القاضي والمحدث الرّحلة . حيث أخذ عن جلّة من علماء عصره كحسن بن القاسم الباديسي، والشريف الإمام أبو القاسم السبتي، والشريف التلمساني والخطيب بن مرزوق، ورحل إلى المغرب الأقصى عام 759هـ/1358م وبقي هناك 18 سنة أخذ عن علمائه أمثال الولي الصالح أحمد بن عاشر الاندلسي(ت764ه/1362م).
أما بالنسبة للتأليف فقد أنجز أحمد بن الحسين (بن قنفذ ت 810ه) العديد من المصنفات التي لقيت رواجًا كبيرًا، منها ما تمّ تحقيقه ومنها ما ينتظر، وقام على شرح كتب «كالرسالة ومصنف الخونجي وأصلي ابن الحاجب، وله شرح على منظومة غرامي صحيح في اصطلاح الحديث «، مثلما ألف «تيسير المطلب في تعديل الكوكب، والفارض في الحساب والفرائض، وتحفة الوارد في اختصاص الشرف من جهة الوالد، وكتاب الوفيات وأنس الفقير وعزّ الحقير» وغيرها… وقد وُصفت مؤلفاته بالتنوع العلمي «العقلي والنقلي» والمسحة الصوفية، وبالنظر إلى براعته في العلوم ومكانته الاجتماعية فإنّ الأمراء كانوا يستدعونه للخطابة والإفتاء والقضاء والتدريس، وبقي يشغل هذه المناصب إلى وفاته سنة 810هـ/ 1407م. وقد عدّ هذا العالم من أبرز ما أنجب آل القنفذ.
ولم يقتصر باب التعلّم والتدين على ذكور العائلة، وإنّما اهتمّ أربابها بالبنات، مستندين في ذلك إلى الطريقة الصوفية التي سلكها والد ابن قنفذ، حينما تزوج من ابنة يوسف بن يعقوب الملاري المنسوبة إلى الزاوية الملارية، فيذكر في السياق أخواته الأربعة اللواتي تعلمن في حلقة الفقيه المبارك الصالح السائر على الطريقة المدينية وهو «أبو عبد الله محمد الصفار» الذي اختصه والده لبناته، يعلمهن القرآن والفقه وأبواب العلم، فكان لا يفارقهن حتى يحفظن القرآن، واستمر في تدريسهن إلى سن متقدمة. وهذه الزاوية من التاريخ – تعليم البنات- لا تزال معتمة تحتاج إلى تسليط الضوء بحثا في ثنايا المخطوطات لنتلمّس مكانة البنت في مجتمع الجزائر قديما، وكيف كانت تحظى بالرعاية والعناية.
وازداد وقع آل القنفذ تأثيرًا على المستوى العلمي والاجتماعي والسياسي، بفعل ذلك الاقتران الذي حدث بينهم والعائلة الملارية ذات الامتداد الصوفي العريق، حيث تحدث ابن قنفذ عن ذلك الاتصال وهو يذكر جدّه «والد والدته» يوسف بن يعقوب الملاري، فيسرد سلسلة سنده الصوفي إلى النبي(ﷺ)، فتحدث عن العلاقة بين جدّه لأمه (الملاري) يعقوب بن عمران البويوسفي 630-717هـ/ 1232-1317م والشيخ أبي مدين عبر سلسلة تلاميذ الطريقة، وأشار إلى جده لأمه الذي أخذ عن والده يعقوب عن أبي مسعود ابن عريف الشلفي عن أبي مدين، فكان بينه وبين أبي مدين رجلان، وقد سمع ذلك من جدّ أمه سنة 758هـ/1357م. حينما قال له: « هذه بركة شيخنا « تلميذ أبي مدين أخذا عن أبي الحسن بن حرزهم عن القاضي أبي بكر بن العربي عن أبي حامد الغزالي عن إمام الحرمين الجويني عن أبي طالب المكي عن أبي القاسم الجنيد عن سيدي السقطي عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي بن أبي طالب عن النبي(ﷺ). وقد أفاض ابن قنفذ (ت. 810هـ) في خصال جدّه وكراماته وأعماله بما يفيد مرتبة ابن قنفذ من جهة أمه فضلاً عن أبيه، وأشار -من خلال مؤلفيه أنس الفقير والفارسية- إلى الدور السياسي والاجتماعي الذي قامت عليه العائلتان الملارية وآل القنفذ، ، ليشكل آل القنفذ بهذا «بيت علم متميز جمع بين العلم والتصوف والمال والثراء» -توارثوا هذا أبًا عن جدّ- كما شكل قربهم من العائلة الحفصية الحاكمة حضورا وامتدادًا ذو جاه، ممّا جعل الأسرة تتصدر مكانة اجتماعية مرموقة وموقعا سياسيا مهمّا، وكل هذا يفيد بقيمة العناية ببيوتات العلم والعلماء في تاريخ الدول والمجتمعات، كما يؤشر على حضور هذه البيوت كتراث حضاري وجب رصدها واستثمار تجربتها.
* جامعة البليدة2 –