قَوَارِبُ المَوْتِ

البروفيسور عليّ .كشرود/ أَعْلَمُ تَمَامًا مَا تَعْنِيهِ «قَوَارِبُ المَوْتِ»… وَقَدْ بَلَغَنِيْ مِنْ وَجَعِهَا مَا لَا يُنْسَى. هِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَرَاكِبَ مُتَهَالِكَةٍ، بَلْ صَرْخَاتِ بَشَرٍ أَنْهَكَهُمُ اليَأْسُ فِيْ وَطَنٍ لَمْ يَعُدْ وَطَنًا. هِيَ قَوَارِبُ مُحَمَّلَةٌ بِأَرْوَاحٍ مُنْهَكَةٍ، تَبْحَثُ عَنْ كَرَامَةٍ مَهْدُورَةٍ، وَعَنْ رَغِيفِ خُبْزٍ لَا يُسْرَقُ مِنْهُ العَرَقُ، وَعَنْ حِضْنِ حَيَاةٍ لَا يُهِينُ، وَعَنْ حُلْمٍ لَا …

أغسطس 5, 2025 - 14:41
 0
قَوَارِبُ المَوْتِ

البروفيسور عليّ .كشرود/

أَعْلَمُ تَمَامًا مَا تَعْنِيهِ «قَوَارِبُ المَوْتِ»… وَقَدْ بَلَغَنِيْ مِنْ وَجَعِهَا مَا لَا يُنْسَى. هِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَرَاكِبَ مُتَهَالِكَةٍ، بَلْ صَرْخَاتِ بَشَرٍ أَنْهَكَهُمُ اليَأْسُ فِيْ وَطَنٍ لَمْ يَعُدْ وَطَنًا. هِيَ قَوَارِبُ مُحَمَّلَةٌ بِأَرْوَاحٍ مُنْهَكَةٍ، تَبْحَثُ عَنْ كَرَامَةٍ مَهْدُورَةٍ، وَعَنْ رَغِيفِ خُبْزٍ لَا يُسْرَقُ مِنْهُ العَرَقُ، وَعَنْ حِضْنِ حَيَاةٍ لَا يُهِينُ، وَعَنْ حُلْمٍ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
رَأَيْتُ مَنْ سَافَرَ فِيْ تِلْكَ القَوَارِبِ وَفِيْ عَيْنَيْهِ نَظْرَةُ وَدَاعٍ طَوِيلَةٌ لِلتُّرَابِ الَّذِيْ رَبَّاهُ. وَرَأَيْتُ مَنْ غَابَ فِيْ جَوْفِ البَحْرِ مِنْ غَيْرِ شَاهِدِ قَبْرٍ. وَرَأَيْتُ مَنْ وَصَلَ الضِّفَّةَ الأُخْرَى بِجَسَدٍ حَيٍّ وَقَلْبٍ مَيِّتٍ؛ لأَنَّهُ تَرَكَ أُمًّا تَبْكِيْ أَوْ أُخْتًا دُونَ مَأْوَى أَوْ حُلْمَهُ مَكْسُورًا فِيْ زُقَاقِ مَدِينَتِهِ الأُولَى.
«قَوَارِبُ المَوْتِ»، لَيْسَتْ قِصَّةَ مُهَاجِرٍ فَقَطْ، بَلْ هِيَ فَصْلٌ دَامٍ مِنْ كِتَابِ خِذْلَانِ الأَوْطَانِ لٍأَبْنَائِهَا. فَكُلُّ مَنْ رَكِبَهَا، لَمْ يَكُنْ عَاشِقًا لِلْمُغَامَرَةِ، بَلْ مَنْفِيًّا مِنَ الدَّاخِلِ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالهُرُوبِ مِنْ وَطَنٍ أَدَارَ لَهُ الظَّهْرَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ أَصْلًا… هِيَ لَيْسَتْ هِجْرَةً… إنَّهَا نَزِيفُ كَرَامَةٍ وَاِخْتِبَارٌ قَاسٍ لِلْإنْسَانِ فِيْ أَقْسَى لَحْظَاتِهِ…
فَمَنْ قَالَ إنَّهُمْ ذَهَبُوا طَمَعًا؟ وَمَنْ قَالَ إنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَوْطَانَهُمْ؟ إنَّ الَّذِينَ اِخْتَارُوا البَحْرَ، لَمْ يَكُونُوا عُشَّاقَ مُغَامَرَةٍ، بَلْ ضَحَايَا أَوْطَانٍ ضَاقَتْ بِهِمْ، لَا فِيْ مِسَاحَتِهَا، بَلْ فِيْ إنْسَانِيَّتِهَا.
فَكُلُّ قَارِبٍ صَغِيرٍ، يَحْمِلُ وَجَعًا كَبِيرًا… طِفْلًا لَمْ يَجِدْ مَدْرَسَةً، وَشَابًّا سُدَّتْ فِيْ وَجْهِهِ الأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَأُمًّا كَسَرَتْ قَلْبَهَا وَهِيَ تَحْزِمُ الأَمْتِعَةَ لِاِبْنِهَا الوَحِيدِ، وَرَجُلَا لَمْ يَعُدْ لَهُ مَكَانٌ إلَّا عِنْدَ حَافَّةِ المَعْنَى.
لَا يَعِدُ البَحْرُ بِشَيْءٍ؛ لَكِنَّهُ -عَلَى الأَقَلِّ- لَا يَكْذِبُ. فَإمَّا أَنْ يَبْتَلِعَكَ أَوْ يَدْفَعَكَ صَوْبَ أَمَلٍ… أَمَّا اليَابِسَةُ، فَاِمْتَهَنَتْ لُعْبَةَ الإبْقَاءِ عَلَى الحَيَاةِ دُونَ مَعْنًى، وَدُونَ كَرَامَةٍ، وَدُونَ أُفُقٍ.
مَا لَمْ يَفْهَمْهُ أَصْحَابُ القَرَارِ: أَنَّ الإنْسَانَ، لَا يُرِيدُ الكَثِيرَ وَلَا يَحْتَاجُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعَامَلَ بِصِفَتِهِ إنْسَانًا. لَكِنْ، حِينَ يُصْفَعُ فِيْ كَرَامَتِهِ كُلَّ صَبَاحٍ، وَيُذَكَّرُ فِيْ كُلِّ دَائِرَةٍ بِـأَنَّهُ لَا يُسَاوِيْ شَيْئًا… فَإنَّهُ يَخْتَارُ أَنْ يَمُوتَ وَاقِفًا بَدَلَ أَنْ يَعِيشَ رَاكِعًا.
لَمْ يَرْكَبُوا البَحْرَ حُبًّا فِيْ المَوْتِ، بَلْ لِأَنَّ الحَيَاةَ فَقَدَتْ مَلَامِحَهَا الأَصْلِيَّةَ. فَالكَرَامَةُ، لَيْسَتْ تَرَفًا. إنَّهَا الشَّرْطُ الأَوَّلُ لِلْوُجُودِ؛ وَحِينَ تُهَانُ الكَرَامَةُ، تَغْدُو الهِجْرَةُ فِعْلًا أَخْلَاقِيًّا.
حِينَ يَغْدُو الاِنْتِظَارُ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ نَتِيجَةٍ، وَحِينَ تَتَحَوَّلُ الحَيَاةُ إلَى دَائِرَةٍ مُغْلَقَةٍ أَوْ سِجْنٍ مَفْتُوحٍ، تَصِيرُ الهِجْرَةُ أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ حَرَكَةِ جَسَدٍ، تَصِيرُ ثَوْرَةً فَرْدِيَّةً ضِدَّ العَبَثِ: أَنْ تَقُولَ «لَا»، وَأَنْ تَرْفُضَ أَنْ تَبْقَى فِيْ مَكَانٍ يَسْتَهْلِكُكَ وَلَا يَحْتَضِنُكَ. أَنْ تَخْرُجَ لَا لِأَنَّكَ ضَعِيفٌ، بَلْ لِأَنَّكَ تَرْفُضُ أَنْ تَمُوتَ دَاخِلِيًّا وَأَنْتَ عَلَى قِيدِ الحَيَاةِ… فَالهِجْرَةُ هُنَا، لَيْسَتْ هُرُوبًا بَلْ سُؤَالًا فَلْسَفِيًّا مُفَادُهُ: «مَا مَعْنَى البَقَاءُ فِيْ مَكَانٍ يَسْرِقُ مِنْكَ رُوحَكَ؟».
لَا يُطْلِقُ المَجْتَمَعُ الرَّصَاصَ؛ لَكِنَّهُ فِيْ صَمْتِهِ يُبَارِكَ القَتْلَ المَعْنَوِيَّ. فَحِينَ يَعْتَادُ النَّاسُ وَدَاعَ أَحِبَّتِهِمْ طَوْعًا، وَحِينَ تَمُرُّ أَخْبَارُ الغَرَقِ مِثْلَ طَقْسٍ يَوْمِيٍّ، وَحِينَ تُصْبِحُ الهِجْرَةُ حَلًّا صَامِتًا… نَكُونُ إزَاءَ مُجْتَمَعٍ نَزَعَ قَلْبَهُ بِيَدِهِ. فَلَيْسَتِ السُّلْطَةُ وَحْدَهَا مُذْنِبَةً، بَلْ كُلُّ مَنْ صَمَتَ أَوْ بَرَّرَ أَوِ اِعْتَادَ… فَمَنْ يَطْبَعُ مَعَ الذُّلِّ، يَتَحَوَّلُ مَعَ الزَّمَنِ إلَى جُزْءٍ مِنْ آلَةِ الطَّرْدِ الجَمَاعِيِّ.
أَيُّهَا السَّادَةُ، يَا مَنْ تَنَامُونَ آمِنِينَ فَوْقَ أَعْمِدَةٍ مِنْ خُطَبٍ جَوْفَاءَ، اِقْرَأُوا وُجُوهَ مَنْ غَرِقُوا… لَمْ يَطْلُبُوا سِوَى الحَيَاةِ بِقَدَرٍ مَعْقُولٍ مِنَ الكَرَامَةِ. لَكِنَّكُمْ، ضَيَّقْتُمْ عَلَيْهِمُ الهَوَاءَ، فَفَتَّشُوا عَنْهُ فِيْ المَوْجِ. فَأَنْتُمُ السَّبَبُ، وَأَنْتُمُ العَارُ، وَأَنْتُمُ الخَرَائِطُ الخَطَأُ، وَالأَسْلَاكُ الشَّائِكَةُ، وَالبَوَّابَاتُ المُوصَدَةُ بِوَجْهِ مَنْ لَا يَمْلِكُ سِوَى أَمَلٍ بَسِيطٍ: أَنْ يَعِيشَ إنْسَانًا…
فَيَا أَيُّهَا الإنْسَانُ، فِيْ أَيِّ مَكَانٍ كُنْتَ، لَا تُغْلِقْ قَلْبَكَ. فَالهِجْرَةُ، لَيْسَتْ فَقَطْ قِصَّةَ حُدُودٍ. إنَّهَا، قِصَّةُ قَلْبٍ طُرِدَ مِنْ أَرْضِهِ. فَحِينَ تَرَى قَارِبًا يَغْرَقُ، لَا تُحَاكِمْ مَنْ فِيهِ بَلِ اِبْكِ عَلَى العَالَمِ الَّذِيْ جَعَلَ المَاءَ أَكْثَرَ رَحْمَةً مِنَ الأَرْضِ.
وَلَكَ أَيُّهَا الغَرِيبُ الَّذِيْ لَمْ يَجِدْ مَوْطِنًا يَحْتَضِنُهُ، نَقُولُ: إذَا ضَاقَتْ بِكَ الجِهَاتُ، فَسِرْ نَحْوَ الجِهَةِ الوَحِيدَةِ الَّتِيْ لَا تُغْلَقُ فِيْ وَجْهِ أَحَدٍ… جِهَةِ اللهِ -عَزَّتْ قُدْرَتُهُ وَجَلَّتْ- هُنَاكَ، حَيْثُ لَا يُقَاسُ الإنْسَانُ بِلَوْنِهِ أَوْ بِمَالِهِ أَوْ بِوَطَنِهِ… بَلْ بِوَجَعِهِ وَبِمَا بَقِيَ مِنْ صِدْقِهِ.