الديمقراطية بين الإسهال والإمساك

سناء شامي إلى سكارى الديمقراطية في بلاد الشرق “الأوسط” استفيقوا، وحاولوا أن تفهموا بأنه لم يعد يوجد ديمقراطية تشاركية ، بل هناك فقط ديمقراطية نخبوية، أي للنخبة فقط. حاولوا أن تستوعبوا كيف تدمر الديمقراطية النخبوية والنيوليبرالية المجتمعات وأسس الحياة. لقد شرح الكاتب والمفكر الألماني راينر ماوسفيلد كيف يتم في ظل النظام النيوليبرالي والديمقراطية النخبوية التلاعب …

يوليو 21, 2025 - 22:30
 0
الديمقراطية بين الإسهال والإمساك

سناء شامي
إلى سكارى الديمقراطية في بلاد الشرق “الأوسط” استفيقوا، وحاولوا أن تفهموا بأنه لم يعد يوجد ديمقراطية تشاركية ، بل هناك فقط ديمقراطية نخبوية، أي للنخبة فقط.
حاولوا أن تستوعبوا كيف تدمر الديمقراطية النخبوية والنيوليبرالية المجتمعات وأسس الحياة. لقد شرح الكاتب والمفكر الألماني راينر ماوسفيلد كيف يتم في ظل النظام النيوليبرالي والديمقراطية النخبوية التلاعب بالرأي العام، وتفكيك أسس التضامن الاجتماعي والديمقراطية الحقيقية. يا سكارى الحلم الديمقراطي، أن ما يحدث ليس مجرد أزمة اقتصادية أو سياسية، بل هو هجوم منظم على الوعي الجماعي والخيال السياسي يهدف إلى إخماد روح المقاومة، وجعل الناس صامتين خاضعين‪.‬
لقد تم تحويل الديمقراطية، من قِبل النخبة إلى واجهة شكلية تحمي مصالح القلة، فتحولت من ديمقراطية تشاركية إلى ديمقراطية نخبوية: في الماضي، كانت الديمقراطية قائمة على مشاركة المواطنين والرقابة الشعبية، اليوم، تحولت إلى ديمقراطية نخبوية. النخبة الاقتصادية والسياسية هي من تتحكم اليوم بالخيارات السياسية، أمّا المواطنون يُتركون كمتفرجين سلبيين‪.‬

لعبة الديمقراطية التمثيلية

إن لعبة الديمقراطية التمثيلية أصبح معناها ينحصر في‪ ‬تصنيع القبول الشعبي بدل التمثيل الحقيقي للإرادة العامة. ثم تندمج مع هذه اللعبة إيديولوجيا النيوليبرالية التي لا تقتصر على السوق الحر، بل هي عقيدة سياسية واقتصادية تهدف لتدمير التضامن الاجتماعي من خلال خصخصة الخدمات العامة، إضعاف حقوق العمل، تسليع كل شيء وتعزيز اللامساواة، لذلك يجب على كل فرد أن يتسلح بالوعي واليقظة لأن النيوليبرالية تتلاعب أيضاً باللغة والمفردات، فتستبدل مفاهيم مثل العدالة الاجتماعية بعبارات تقنية مثل الكفاءة، وتُقدّم الفقر والبطالة كمسؤولية فردية وليست هيكلية. فالنيوليبيرالية تتقن و تملك آليات إنتاج الطاعة والصمت و ترويض الوعي من خلال التضليل الإعلامي المنهجي، تبسيط الأخبار حتى تفقد سياقها النقدي، إشغال الناس بالخوف والقلق والاستهلاك لدرجة الإجهاد النفسي، و سياسات التقشف وضغوط العمل تجعل الناس منشغلين بالبقاء اليومي، و ليس بالحياة، فاستنزاف الطاقة الفكرية والعاطفية يمنعهم من التفكير النقدي و من البناء و يلغي لديهم البدائل و تقديم النموذج النيوليبرالي على أنه الوحيد الممكن في هذه المرحلة و تشويه سمعة كل محاولة لتصور أنماط اجتماعية جديدة من خلال دور الإعلام كأداة للهيمنة، إذ أن الإعلام لا ينقل الحقائق فقط، بل يحدد ما يمكن التفكير فيه و يصنع التوافق الزائف لخدمة مصالح الشركات الكبرى. النيوليبرالية تُجيد إدارة الإدراك حيث يصبح الإعلام أداة لبرمجة الوعي الجماعي لتدمير أسس العيش المشترك. النيوليبرالية لا تقوض الاقتصاد فقط، بل أيضًا قيم التضامن والشعور بالمسؤولية الجماعية وتقتل الثقة بين الناس، وبهذه الطريقة يتم إضعاف الديمقراطية من الداخل وتفتيت القدرة على المقاومة‪.‬

أمام هذا الوحش الجشع ما هي إمكانيات المقاومة؟

كل ما يحدث ويحيط بنا قد يدعو إلى التشاؤم، ولكن باستعادة النقد والوعي التاريخي وإعادة بناء المجال العام المستقل عن مصالح السوق وتطوير حسّ المسؤولية الجماعية والخيال السياسي، كل هذا يشكّل الخطوة الأولى نحو التحرر، فالوعي بأنهم يتلاعبون بوجودنا، سيكون دافع وحافز للتحرك نحو البحث عن الحلول. إذا لم نستعد قدرتنا على التفكير النقدي والتشكيك في بديهيات النظام القائم، فسوف يبقى الجميع خرافاً منصاعة، تُساق إلى الذبح بسرور ودون مقاومة، منخدعةً بقناع الديمقراطية التي تعمل على إخفاء سلطة المال والنخب، وتلتزم الخراف الصمت ليس عجزًا طبيعيًا بل نتيجة ترويض وتلاعب مقنن وموجّه لشلّ أية محاولة للتمرد، كما أنّ الأمل بتحسين الأحوال يصبح مخدراً يومياً يُهم العامة باقتراب الحلول. في كتاب روح الديمقراطية، الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرة، ذكر الكاتب لاري دايموند بأنه منذ 1974 بدأت في البرتغال موجة تحولات ديمقراطية عمّت بين 1974 و في عام 2000 تضاعف عدد الديمقراطيات ثلاث مرات تقريباً، لكنها مع التسعينيات بدأت جودة الحكم بالتراجع، و بدأت مؤسسات الدولة بالضعف، و زاد صعود الشعبوية و التطرف و الفساد، و لعبت الثورات التكنولوجية و الإعلام المتواطئ و الفاسد أدوراً سلبية، و كل هذه الظروف أدت إلى ركود و تراجع الديمقراطية و لاسيما بدأت تتراجع، حتى في المجتمعات المتقدمة، سيادة القانون، و بات المجتمع المدني كسولاً و مثقلاً بهموم سبل العيش، كما أن العامة من الناس باتت تفتقر لثقافة سياسية ديمقراطية، و لقيادات سياسية تجيد الإصلاح بأوجه الشاملة، و تعرف كيف‪…‬
فالإنسان تحت حكم النيوليبرالية لم يعد يُعرَّف فقط بأنه منتِج أو مستهلِك، بل أصبح فرداً مديناً يجب أن يفي بالتزاماته المالية. يجب أن تفهم شعوب منطقة الشرق “الأوسط الحديث” بأن الانفتاح الاقتصادي النيوليبرالي الذي يُهم الفرد بالرفاهية، هو في الحقيقة يسعى من وراء هذا الانفتاح إلى إنشاء مجتمعات قائمة على الدَّيْن، وتصبح العلاقة بين الحكومة والفرد قائمة
بين الوعد والدَّيْن والمسؤولية الأخلاقية: إذ يتطور الدَّيْن من علاقة اقتصادية بسيطة إلى هيكل اجتماعي ونفسي يفرض على الفرد الإحساس بالذنب والواجب‪.‬

النيو ليبرالية تلوم الفقير لأنه لا يُحسن تدبير أمره

وتُقدم الدَّيْن باعتباره التزامًا أخلاقيًا واجب السداد بغض النظر عن الظروف، وبالتالي فأن هذه الرؤية تُحوّل مشكلات اقتصادية كالبطالة والفقر إلى أخطاء شخصية وتُعيد تكوين الأفراد بوصفهم مستهلكين دائمين للقروض، ملتزمين بتسديد الديون وخاضعين لمراقبة مالية وسلوكية دائمتين… حتى الدول نفسها أصبحت “مديونة” للبنوك والأسواق المالية، وتعيد إنتاج نفس المنطق على مواطنيها. الدَّيْن ليس مجرد مسألة مالية يخلق شعورًا دائمًا بالذنب والخوف

يجرّد الناس من الشعور بالسيادة على حياتهم

يمنع التضامن الجماعي، لأن الجميع منشغلون بالوفاء بالتزاماتهم الفردية. إذاً يربط هذا النظام الرأسمالي النيوليبرالي بين الدَّيْن كأداة طوعية ظاهريًا والقهر كواقع عملي، لذلك فأن أول خطوات مقاومة هذا النظام تبدأ بزعزعة المركزية القسرية لفكرة الدَّيْن، الذي يُعد صناعة آلية جوهرية لإنتاج الطاعة والسيطرة في الرأسمالية المعاصرة. أن النيوليبرالية لم تغيّر فقط السياسات الاقتصادية بل أيضاً الوعي الذاتي للأفراد، عبر خلق شعور دائم بالتقصير والمسؤولية الأخلاقية عن الديون، لذلك أقول لكل المنتظرين الانفتاح الاقتصادي واللاهثين إلى الرخاء القاتل، حذروا وتعاملوا بوعي وحرص على التراث والهوية والتضامن بينكم، وتذكروا، في غياب الوعي وحضور الجهل الملون، يصبح الفقر المدقع، والرخاء الممّول عن طريق تسهيل القروض، وجهان لعملة واحدة هي فرض الاستبداد واستعباد الناس. دافعوا عن المنشأ الطبيعي للحياة من عمل وتضامن وأخلاق وهوية وانتماء، لا تبعدوا عن أصول منشأ آليات الحياة، تعاملوا مع البنوك بحذر ومعرفة، وطبّقوا المثل القائل: ليس كل ما يلمع ذهباً، كي تسلموا وتنقذوا أجيالكم القادمة من الذوبان.