عمي حسين.. شيخ الدوم الذي علّمته الحياة كيف يحوّل الليف إلى مصدر عيش وتراث
مجتمع: في زوايا احدى شوارع وهران ، يجلس عمي حسين، رجل ستيني ملامحه مطبوعة بآثار الزمن، لكن عينيه لا تزالان تلمعان بحبّ حرفةٍ لازمته منذ شبابه. بين يديه ينساب الليف الخشن بخفة، ليخرج في شكل سلة متينة أو قبعة أنيقة، وكأن أنامله تحفظ سرّاً توارثته الأجيال. بدأت القصة وهو في السادسة عشرة من عمره، حين كان يراقب والده يجلس في باحة الدار منشغلاً بالدوم. يقول بابتسامة دافئة: "كنت أنظر بإعجاب إلى ما يصنعه والدي من أوراق الدوم وليفه، حتى جاء يوم أمسك بيدي وقال: اجلس بجانبي وتعلّم. ومنذ ذلك اليوم أصبحت الحرفة جزءاً من حياتي." الحرفة لم تكن مجرّد هواية، بل مدرسة في الصبر والدقة. ومع مرور الوقت، تحوّل عمي حسين من متعلّم صغير إلى أستاذ بارع، يزاوج بين قوة الليف وقسوة طبيعته وبين الإبداع الفني الذي يجعل من كل قطعة حكاية. منتجاته لم تقتصر على الاستعمال اليومي، بل دخلت البيوت والأسواق والأعراس، لتصبح شاهداً على علاقة الإنسان بمواده البسيطة. لكن قيمة عمي حسين لا تكمن فقط في براعته، بل في رسالته الاجتماعية. فقد حرص على أن لا تبقى الحرفة حبيسة يديه، بل علّمها لعدد كبير من النساء في محيطه، ممن وجدن فيها وسيلة لتأمين قوت يومهن بكرامة. يقول بفخر: "كنت أرى نساء يعانين من البطالة وقلة الدخل، فقلت لنفسي لماذا لا أشاركهن سرّ هذه الصنعة؟ واليوم كثيرات منهن يعتمدن على الدوم في إعالة أسرهن." ورغم تغيّر الزمن ودخول البدائل الصناعية، لم يفقد عمي حسين إيمانه بقيمة الدوم. فهو يراه رمزاً للبساطة والارتباط بالأرض، وقطعة حيّة من الهوية الجزائرية التي لا يجوز أن تندثر. "الحرفة تراث، والتراث حياة. وإذا لم نحمه نحن، فلن يبقى لأبنائنا شيء يتعلّقون به." وفي نهاية اليوم، حين يغلق عمي حسين صندوق أدواته، يظل صدى حكايته يرافقك رجل ورث عن أبيه صنعة، وحملها على كتفيه عقوداً طويلة، ليحوّل نباتاً بسيطاً إلى فنّ يعيش باليد والقلب، ويُطعم به أسرًا كاملة.

في زوايا احدى شوارع وهران ، يجلس عمي حسين، رجل ستيني ملامحه مطبوعة بآثار الزمن، لكن عينيه لا تزالان تلمعان بحبّ حرفةٍ لازمته منذ شبابه. بين يديه ينساب الليف الخشن بخفة، ليخرج في شكل سلة متينة أو قبعة أنيقة، وكأن أنامله تحفظ سرّاً توارثته الأجيال. بدأت القصة وهو في السادسة عشرة من عمره، حين كان يراقب والده يجلس في باحة الدار منشغلاً بالدوم. يقول بابتسامة دافئة: "كنت أنظر بإعجاب إلى ما يصنعه والدي من أوراق الدوم وليفه، حتى جاء يوم أمسك بيدي وقال: اجلس بجانبي وتعلّم. ومنذ ذلك اليوم أصبحت الحرفة جزءاً من حياتي." الحرفة لم تكن مجرّد هواية، بل مدرسة في الصبر والدقة. ومع مرور الوقت، تحوّل عمي حسين من متعلّم صغير إلى أستاذ بارع، يزاوج بين قوة الليف وقسوة طبيعته وبين الإبداع الفني الذي يجعل من كل قطعة حكاية. منتجاته لم تقتصر على الاستعمال اليومي، بل دخلت البيوت والأسواق والأعراس، لتصبح شاهداً على علاقة الإنسان بمواده البسيطة. لكن قيمة عمي حسين لا تكمن فقط في براعته، بل في رسالته الاجتماعية. فقد حرص على أن لا تبقى الحرفة حبيسة يديه، بل علّمها لعدد كبير من النساء في محيطه، ممن وجدن فيها وسيلة لتأمين قوت يومهن بكرامة. يقول بفخر: "كنت أرى نساء يعانين من البطالة وقلة الدخل، فقلت لنفسي لماذا لا أشاركهن سرّ هذه الصنعة؟ واليوم كثيرات منهن يعتمدن على الدوم في إعالة أسرهن." ورغم تغيّر الزمن ودخول البدائل الصناعية، لم يفقد عمي حسين إيمانه بقيمة الدوم. فهو يراه رمزاً للبساطة والارتباط بالأرض، وقطعة حيّة من الهوية الجزائرية التي لا يجوز أن تندثر. "الحرفة تراث، والتراث حياة. وإذا لم نحمه نحن، فلن يبقى لأبنائنا شيء يتعلّقون به." وفي نهاية اليوم، حين يغلق عمي حسين صندوق أدواته، يظل صدى حكايته يرافقك رجل ورث عن أبيه صنعة، وحملها على كتفيه عقوداً طويلة، ليحوّل نباتاً بسيطاً إلى فنّ يعيش باليد والقلب، ويُطعم به أسرًا كاملة.
