ماذا فعلت فرنسا بسكان الشلف بعد 20 أوت 1956 .. إبادة واعتقالات بالجملة وقمع عسكري ومجاعة

الذاكرة: يُعد يوم 20 أوت 1956 من المحطات المفصلية في تاريخ الثورة الجزائرية، فقد شهد انعقاد مؤتمر الصومام بمنطقة إيفري ببجاية، وهو المؤتمر الذي وضع اللبنات الأساسية للتنظيم السياسي والعسكري للثورة، ورسّخ مبدأ أولوية الداخل على الخارج وأولوية السياسي على العسكري، غير أن أصداء هذا التاريخ لم تبقَ حبيسة جبال القبائل، بل امتدت لتشمل مختلف مناطق الجزائر، منها مدينة الأصنام سابقا، الشلف حاليا، التي عاشت على وقع حالة استنفار قصوى بفعل التفاعل الشعبي مع التطورات الثورية والرد الاستعماري العنيف الذي تبعها. كانت الشلف في تلك الفترة تعرف باسم أورليانفيل، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للاستعمار الفرنسي، إذ تقع على محور حيوي يربط العاصمة بالغرب الجزائري عبر وادي الشلف. هذا الموقع جعلها منطقة حساسة، حيث كثّفت السلطات الفرنسية وجودها العسكري والاستخباراتي فيها، وفرضت إجراءات مشددة على السكان عقب تصاعد العمل المسلح بعد صيف 1955. ومع حلول 20 أوت 1956، وجد السكان أنفسهم في قلب أجواء من التوتر، فبينما كانوا يستمعون خفية إلى أخبار العمليات الفدائية التي تعمّ الوطن ويتداولون سرا عن مؤتمر الصومام وما يعنيه من تنظيم للثورة، كان الجيش الفرنسي يفرض الرقابة ويقيم الحواجز ويشن حملات اعتقال طالت العديد من الشباب. رغم القبضة الحديدية، كان لسكان الشلف حضور فعّال في دعم الثورة، سواء عبر تقديم المؤونة والملجأ للمجاهدين أو من خلال الانخراط المباشر في صفوف جيش التحرير الوطني. وبحكم أن الشلف منطقة ريفية في محيطها، فقد شكلت الجبال والقرى المحيطة بها مجالا خصبا للعمل الفدائي. وتشير شهادات مؤرخين محليين إلى أن أحداث 20 أوت أعادت شحن عزائم السكان، حيث اعتبروا أن نجاح الثورة في تنظيم نفسها سياسيا وعسكريا هو دليل على قرب النصر، ما جعل الحاضنة الشعبية للمجاهدين تتوسع بشكل ملحوظ. أما بالنسبة للجانب الاستعماري، فقد تعاملت السلطات الفرنسية بصرامة مع سكان المنطقة. إذ تم تكثيف عمليات المداهمة وتوسيع نطاق “مناطق الحظر” لمنع أي اتصال بين الأهالي والمجاهدين. كما فُرضت مراقبة على الأسواق والتنقلات، ما ضاعف من معاناة السكان الذين كانوا بين سندان الفقر والمجاعة ومطرقة القمع العسكري. ومع ذلك، ظلت الروح الوطنية أقوى، فالأغاني الشعبية والقصائد البسيطة التي تناقلها الأهالي كانت تحمل رسائل مشفرة عن الصمود والإصرار على التحرير. وإذا كانت أحداث 20 أوت 1955 في الشمال القسنطيني قد شكّلت منعطفا تاريخيا بإخراج الثورة من بعدها المحلي إلى بعدها الوطني، فإن 20 أوت 1956 جاء ليؤكد نضج هذه الثورة من خلال مؤتمر الصومام، وهو ما انعكس على كل ولايات الوطن بما فيها الشلف. ولعل الأثر الأكبر في المدينة، تمثل في بروز وعي سياسي جديد، حيث أصبح الأهالي يدركون أن الثورة لم تعد مجرد عمليات متفرقة، بل مشروع وطني منظم له أفق واضح. بعد الاستقلال، ظل يوم 20 أوت يحمل رمزية خاصة لدى سكان الشلف، إذ يتم إحياؤه سنويا عبر تنظيم وقفات تذكارية وندوات تاريخية وزيارات إلى مقابر الشهداء. ويستذكر الجيل الجديد قصص أجدادهم الذين عاشوا تلك المرحلة القاسية، حيث الحصار العسكري والاعتقالات، لكن أيضا قصص التضامن الشعبي والإيمان العميق بالحرية. وبمرور الوقت، تحولت هذه الذكرى إلى مدرسة مفتوحة تُعلّم الناشئة معنى التضحية والوحدة، وتغرس فيهم قيم المقاومة والتشبث بالهوية الوطنية. في سنة 2025، أي بعد مرور 69 عاما على مؤتمر الصومام، لا يزال صدى 20 أوت حاضرا بقوة في الذاكرة الجماعية لسكان الشلف. فالمؤسسات التعليمية والثقافية بالولاية تحرص على استحضار هذه الذكرى لتذكير الأجيال الجديدة بأن الحرية لم تكن منحة مجانية، بل ثمرة نضال مرير دفع الجزائريون ثمنه دما ودموعا. ولعل أهم ما يميز احتفاء سكان الشلف بالذكرى، هو ربطها بالواقع الراهن، حيث يعتبرونها فرصة للتفكير في التحديات المعاصرة، من بناء اقتصاد وطني قوي وتحقيق التنمية المحلية، إلى تعزيز الوحدة الوطنية أمام التحديات الإقليمية والدولية. إن 20 أوت 1956 بالنسبة للشلف ليس مجرد تاريخ في كتاب مدرسي، بل هو جزء من كيانها وهويتها، ذكرى صنعتها معاناة وصمود جيل كامل، وأصبحت اليوم مصدر إلهام للأجيال المتعاقبة التي ترى في تلك اللحظة التاريخية تجسيدا لمعنى التضحية والوحدة والوفاء للوطن. وهكذا تبقى الذكرى محطة متجددة تذكّر سكان الشلف، وكل الجزائريين، بأن الثورة كانت فعل جماعة لا فرد، وأن الحفاظ على مكتسبات الاستقلال واجب لا يقل قدسية عن الكفاح نفسه.

أغسطس 20, 2025 - 16:44
 0
ماذا فعلت فرنسا بسكان الشلف بعد 20 أوت 1956 .. إبادة واعتقالات بالجملة  وقمع عسكري ومجاعة
الذاكرة:
يُعد يوم 20 أوت 1956 من المحطات المفصلية في تاريخ الثورة الجزائرية، فقد شهد انعقاد مؤتمر الصومام بمنطقة إيفري ببجاية، وهو المؤتمر الذي وضع اللبنات الأساسية للتنظيم السياسي والعسكري للثورة، ورسّخ مبدأ أولوية الداخل على الخارج وأولوية السياسي على العسكري، غير أن أصداء هذا التاريخ لم تبقَ حبيسة جبال القبائل، بل امتدت لتشمل مختلف مناطق الجزائر، منها مدينة الأصنام سابقا، الشلف حاليا، التي عاشت على وقع حالة استنفار قصوى بفعل التفاعل الشعبي مع التطورات الثورية والرد الاستعماري العنيف الذي تبعها. كانت الشلف في تلك الفترة تعرف باسم أورليانفيل، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للاستعمار الفرنسي، إذ تقع على محور حيوي يربط العاصمة بالغرب الجزائري عبر وادي الشلف. هذا الموقع جعلها منطقة حساسة، حيث كثّفت السلطات الفرنسية وجودها العسكري والاستخباراتي فيها، وفرضت إجراءات مشددة على السكان عقب تصاعد العمل المسلح بعد صيف 1955. ومع حلول 20 أوت 1956، وجد السكان أنفسهم في قلب أجواء من التوتر، فبينما كانوا يستمعون خفية إلى أخبار العمليات الفدائية التي تعمّ الوطن ويتداولون سرا عن مؤتمر الصومام وما يعنيه من تنظيم للثورة، كان الجيش الفرنسي يفرض الرقابة ويقيم الحواجز ويشن حملات اعتقال طالت العديد من الشباب. رغم القبضة الحديدية، كان لسكان الشلف حضور فعّال في دعم الثورة، سواء عبر تقديم المؤونة والملجأ للمجاهدين أو من خلال الانخراط المباشر في صفوف جيش التحرير الوطني. وبحكم أن الشلف منطقة ريفية في محيطها، فقد شكلت الجبال والقرى المحيطة بها مجالا خصبا للعمل الفدائي. وتشير شهادات مؤرخين محليين إلى أن أحداث 20 أوت أعادت شحن عزائم السكان، حيث اعتبروا أن نجاح الثورة في تنظيم نفسها سياسيا وعسكريا هو دليل على قرب النصر، ما جعل الحاضنة الشعبية للمجاهدين تتوسع بشكل ملحوظ. أما بالنسبة للجانب الاستعماري، فقد تعاملت السلطات الفرنسية بصرامة مع سكان المنطقة. إذ تم تكثيف عمليات المداهمة وتوسيع نطاق “مناطق الحظر” لمنع أي اتصال بين الأهالي والمجاهدين. كما فُرضت مراقبة على الأسواق والتنقلات، ما ضاعف من معاناة السكان الذين كانوا بين سندان الفقر والمجاعة ومطرقة القمع العسكري. ومع ذلك، ظلت الروح الوطنية أقوى، فالأغاني الشعبية والقصائد البسيطة التي تناقلها الأهالي كانت تحمل رسائل مشفرة عن الصمود والإصرار على التحرير. وإذا كانت أحداث 20 أوت 1955 في الشمال القسنطيني قد شكّلت منعطفا تاريخيا بإخراج الثورة من بعدها المحلي إلى بعدها الوطني، فإن 20 أوت 1956 جاء ليؤكد نضج هذه الثورة من خلال مؤتمر الصومام، وهو ما انعكس على كل ولايات الوطن بما فيها الشلف. ولعل الأثر الأكبر في المدينة، تمثل في بروز وعي سياسي جديد، حيث أصبح الأهالي يدركون أن الثورة لم تعد مجرد عمليات متفرقة، بل مشروع وطني منظم له أفق واضح. بعد الاستقلال، ظل يوم 20 أوت يحمل رمزية خاصة لدى سكان الشلف، إذ يتم إحياؤه سنويا عبر تنظيم وقفات تذكارية وندوات تاريخية وزيارات إلى مقابر الشهداء. ويستذكر الجيل الجديد قصص أجدادهم الذين عاشوا تلك المرحلة القاسية، حيث الحصار العسكري والاعتقالات، لكن أيضا قصص التضامن الشعبي والإيمان العميق بالحرية. وبمرور الوقت، تحولت هذه الذكرى إلى مدرسة مفتوحة تُعلّم الناشئة معنى التضحية والوحدة، وتغرس فيهم قيم المقاومة والتشبث بالهوية الوطنية. في سنة 2025، أي بعد مرور 69 عاما على مؤتمر الصومام، لا يزال صدى 20 أوت حاضرا بقوة في الذاكرة الجماعية لسكان الشلف. فالمؤسسات التعليمية والثقافية بالولاية تحرص على استحضار هذه الذكرى لتذكير الأجيال الجديدة بأن الحرية لم تكن منحة مجانية، بل ثمرة نضال مرير دفع الجزائريون ثمنه دما ودموعا. ولعل أهم ما يميز احتفاء سكان الشلف بالذكرى، هو ربطها بالواقع الراهن، حيث يعتبرونها فرصة للتفكير في التحديات المعاصرة، من بناء اقتصاد وطني قوي وتحقيق التنمية المحلية، إلى تعزيز الوحدة الوطنية أمام التحديات الإقليمية والدولية. إن 20 أوت 1956 بالنسبة للشلف ليس مجرد تاريخ في كتاب مدرسي، بل هو جزء من كيانها وهويتها، ذكرى صنعتها معاناة وصمود جيل كامل، وأصبحت اليوم مصدر إلهام للأجيال المتعاقبة التي ترى في تلك اللحظة التاريخية تجسيدا لمعنى التضحية والوحدة والوفاء للوطن. وهكذا تبقى الذكرى محطة متجددة تذكّر سكان الشلف، وكل الجزائريين، بأن الثورة كانت فعل جماعة لا فرد، وأن الحفاظ على مكتسبات الاستقلال واجب لا يقل قدسية عن الكفاح نفسه.
ماذا فعلت فرنسا بسكان الشلف بعد 20 أوت 1956 .. إبادة واعتقالات بالجملة  وقمع عسكري ومجاعة