محنة الهلال: كيف حوّلت القوميات العلمانية شعيرة دينية إلى أداة سياسية؟
د. بدران بن الحسن */ في كل عام، مع اقتراب نهاية شهر رمضان أو ذي الحجة، يتجدد الجدل حول رؤية هلال العيد، لكن هذا الجدل لم يعد مجرد نقاش فقهي أو علمي بين الفلكيين وعلماء الشرع. بل تحول إلى معركة هوياتية وسياسية، حيث تُختزل شعيرة دينية ينبغي أن توحد المسلمين إلى أداة لتعزيز الانتماءات القومية …

د. بدران بن الحسن */
في كل عام، مع اقتراب نهاية شهر رمضان أو ذي الحجة، يتجدد الجدل حول رؤية هلال العيد، لكن هذا الجدل لم يعد مجرد نقاش فقهي أو علمي بين الفلكيين وعلماء الشرع. بل تحول إلى معركة هوياتية وسياسية، حيث تُختزل شعيرة دينية ينبغي أن توحد المسلمين إلى أداة لتعزيز الانتماءات القومية والوطنية الضيقة، من خلال الانحياز إلى قرارات وطنية في رؤية الهلال بدل الاعتماد على العلماء الشرعيين والفلكيين.
ففي الماضي، كان الخلاف حول رؤية الهلال يعكس تنوعًا طبيعيًا في الاجتهادات الفقهية والفلكية، لكن اليوم، أصبح إعلان كل دولة عن موعد العيد بمثابة تأكيد على «سيادتها» و«استقلاليتها»، وكأن تحديد موعد العيد إنجاز وطني يُضاف إلى سجل «الانتصارات» الوهمية في أزمنتنا المتأخرة!
هذا التحول ليس بريئًا، بل هو جزء من استراتيجية الأنظمة القومية العلمانية لاختطاف الدين وتوظيفه سياسيًا لخدمة مشاريعها.
1. القومية العلمانية وتوظيف الدين
تسعى العلمانية الانتقائية في عالمنا الإسلامي إلى احتكار الدين وجعله أداة من أدوات بسط سياستها غير الدينية، بل تصنع الدين على عينها لتصنع به هوية وفق رؤيتها الاختزالية للدين؛ فتنكر الدين حيناَ وتنساه أيحانا أخرى، وتسعى لصناعة هوية وطنية عبر الدين وليس الاحتكام على الدين منهجا للحياة.
حيث تتبنى العديد من الأنظمة القومية خطابًا علمانيًا يرفض «تسييس الدين» عندما يتعلق الأمر بالعدل الاجتماعي أو تحرير فلسطين أو مواجهة الاستبداد والفساد أو توزيع السلطة والثروة، لكنها في المقابل تسارع إلى توظيف الدين عندما تحتاج إلى تعبئة المشاعر الجماهيرية أو تعزيز شرعيتها. ففي مثل هلال العيد؛ تُنفق الحكومات الملايين على المراصد الفلكية وتُعلن عن «استقلاليتها» في تحديد موعد العيد، بينما تتجاهل أحكام الدين عندما يتعلق الأمر بموقفها من العدوان على غزة أو دعم المقاومة. كما أنها تُستخدم الشعائر الدينية، مثل إعلان العيد، وسيلة لتعزيز الولاء للدولة، بينما يتم قمع أي خطاب ديني يدعو إلى الوحدة الإسلامية أو مقاومة الاحتلال او إقامة العدل أو الاحتكام إلى الشورى الملزمة.
من جهة أخرى، تعمل الأنظمة القومية على خلق هوية وطنية منفصلة عن الهوية الإسلامية الجامعة، وتستخدم الدين كأحد أدوات هذه العملية؛ إذ تُصر كل دولة على توحيد موعد العيد داخل حدودها، وكأنها تقول: «نحن كيان مستقل حتى في عبادتنا»، بينما ترفض توحيد الصفوف في القضايا المصيرية. ويتم يتم تقديم إعلان العيد كحدث «وطني»، مع التركيز على دور الدولة وهيئاتها الرسمية في «إدارة» الشأن الديني، مما يعزز فكرة أن الدين يجب أن يخضع لسلطة الدولة وليس العكس.
2. تناقضات الخطاب القومي
وهذا يقودنا إلى ملاحظة المعايير المتناقضة التي تعمل بها السياسات القومية. فأحد أكثر التناقضات وضوحًا هو الفرق بين حماس الأنظمة في الخلاف على رؤية الهلال وصمتها المطبق تجاه القضايا الكبرى مثل القدس وغزة. فتُثار المنافسات بين الدول حول «من يثبت الرؤية أولاً»، وكأن الأمر مسابقة كأس عالم! ونفس هذه الدول تقف عاجزة أو غير راغبة في مواجهة إبادة غزة أو الدفاع عن الأقصى، مما يكشف أن «الدفاع عن الدين» مجرد شعار أجوف.
وهذا يتبين لنا كيف تجعل هذه الأنظمة الدين خادما للسياسة، وكيف تهمل السياسة الدين. فعندما يكون الدين مفيدًا لهذه الأنظمة القومية تُستخدم الشعارات الدينية في التعبئة الانتخابية أو تعزيز الشرعية، كما في خطابات «حماية مقدسات الأمة». وعندما يكون الدين عائقا أمام تنفيذ السياسات ويتعارض مع المصالح السياسية يتم إقصاء الدين، مثل تحالفات بعض الأنظمة مع دول تدعم الاحتلال.
3. الأبعاد المفقودة للشعيرة الدينية
إن ما سبق من تحليل يقودنا إلى التأكيد على الأبعاد الغائبة لهذه الشعيرة الدينية، فقد تحول العيد من رمز لوحدة الأمة إلى منافسة لتمجيد الكيانات القومية. فبالرغم من أنه في الإسلام، العيد مناسبة لتذكير المسلمين بوحدتهم وتضامنهم، فإن الأنظمة القومية حوّلته إلى مناسبة وطنية؛ حيث يتم التركيز على «خصوصية» كل دولة في الاحتفال. كما تحول إلى أداة تقسيم؛ إذ صار الخلاف على موعد العيد يعمق الانقسام بدلاً من أن يكون فرصة للتقارب. والتكبير في العيد تعبير عن عبودية المسلم لله وحده، لكنه تحول في الخطاب الرسمي إلى نشيد وطني مُموّه يتم توظيفه لتعزيز الانتماء للدولة بدلاً من الانتماء للأمة الإسلامية.
4. نحو استعادة مكانة الهلال
ومن أجل استعادة مكانة الهلال عند الأمة، ومن أجل الخروج من ضيق القوميات إلى سعة الانتماء إلى الأمة نحتاج إلى تحرير الشعائر من التوظيف السياسي، وتصحيح مفهوم العيد ذاته، ومواجهة الاختراق القومي العلماني للدين. ففي سياق تحرير الشعائر من التوظيف السياسي؛ نحتاج إلى إعادة مكانة الدين إلى مجاله العام، بتحرير الشعائر من الصراعات السياسية الضيقة وتحريرها من التوظيف العلماني، وتوحيد الجهود الفلكية بإنشاء هيئات إسلامية مستقلة تعتمد على معايير علمية موحدة لتحديد الرؤية يجتمع في هذه الهيئات فقهاء علماء عدول وخبراء فلكيون مشهود لهم بالخبرة الفلكية العلمية. وفي سياق تصحيح مفهوم العيد ينبغي أن نغرس في وعي أبناء أمتنا أن العيد مناسبة لإظهار الشكر لله على ما هدانا إليه من صيام وقيام طيلة شهر رمضان المبارك، معلنين فرحتنا بما من الله علينا من اكتمال الصوم، وكذلك هو عيد للوحدة بين المسلمين بإعلان الشعائر عبر العالم الإسلامي صلاة للعيد وتكبيرا لله تعالى وتزاور وتغافر وصلة رحم ودفع لزكاة الفكر لإدخال السرور على الناس، وأنه ليس مناسبة وطنية بمعناها القومي العلماني الحديث المستورد إلينا من السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي الغربي، بل هو مناسبة أمة بأكملها على اختلاف شعوبها ودولها. وكذلك ربط العيد بالقضايا المصيرية للأمة بجعله مناسبة للتضامن مع قضايا مثل فلسطين، بدلاً من تحويله إلى احتفال فارغ من معانيه الروحية والاممية. وفي سياق مواجهة الاختراق القومي العلماني للدين بفضح تناقضات القومية العلمانية وإبراز تناقض الأنظمة التي تتلاعب بالدين لخدمة مصالحها. وتعزيز الوعي الجماعي بأن الإسلام جاء لتحرير البشر من عبادة الحدود المصطنعة، وجمعها وفق منطق الأمة الواحدة وليس وفق كيانات متناقضة.
الخاتمة: هلال واحد.. وأمة ممزقة
الهلال الذي كان يجب أن يكون رمزًا لوحدة المسلمين، أصبح شاهدًا على تمزقهم. فبينما يُولد الهلال في السماء كل عام موحدًا، يسقط على الأرض أسيرًا للصراعات السياسية والهويات المصطنعة. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل نستعيد الهلال شعيرة توحد الأمة، أم نتركه يُختزل إلى مجرد أيقونة في متحف الكيانات الهزيلة؟
والجواب على ذلك يعتمد على قدرتنا على تحرير الدين من قبضة السياسيين وأن يكون الدين مرجعا لا أداة من الأدوات أم مكتبا تابعا للحكومة مهما كانت، وتذكير أنفسنا بأن العيد ليس مناسبة لتعزيز الولاء للوطن بمعناه القومي الضيق المفصول عن الانتماء للمة التي جاء الإسلامي لبنائها تقوم على الأخوة (إنما المؤمنون إخوة)، وعلى الوحدة (إن هذه أمتكم امة واحدة)، وعلى الاعلاء من شعائر الإسلام التي تعلو بها كلمة الله (وأنا ربكم فاعبدون)، مما يحفظ الانتماءات القومية ضمن وحدة الامة وفي وتحت سقفها وضمن الولاء للإسلام والأمة.
وبهذا نجعل الهلال يشرق على أمة موحدة، بدل أن نستسلم لاستمرار لعبة «الهويات الوطنية» التي لا تنتج إلا مزيدًا من التمزق.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر