نظرات في كتابات الدكتور محمد ناصر (1938-2025)
أ.د. مولود عويمر/ قبل أيام قليلة (20 أوت) فقدت الجزائر والعالم العربي والإسلامي واحدا من الباحثين الجادين والعلماء العاملين، الدكتور محمد ناصر، عن عمر ناهز87 عاما، فرحمه الله برحمته الواسعة. وقد ترك أعمالا نفيسة في الأدب، والنقد الأدبي، وأدب الطفل، والشعر والقصص والتراث الإباضي. كتب عن مسيرته في كتابين: «مشايخي كما عرفتهم» (2008)، و«ذكرياتي ومذكراتي» …

أ.د. مولود عويمر/
قبل أيام قليلة (20 أوت) فقدت الجزائر والعالم العربي والإسلامي واحدا من الباحثين الجادين والعلماء العاملين، الدكتور محمد ناصر، عن عمر ناهز87 عاما، فرحمه الله برحمته الواسعة. وقد ترك أعمالا نفيسة في الأدب، والنقد الأدبي، وأدب الطفل، والشعر والقصص والتراث الإباضي. كتب عن مسيرته في كتابين: «مشايخي كما عرفتهم» (2008)، و«ذكرياتي ومذكراتي» (2013، 2019) في 3 أجزاء، لذلك أقتصر فقط في هذا المقال على دراسة بعض المحاور الكبرى لعطائه الفكري والأدبي.
حفريات في الأدب الجزائري المعاصر
تخرج محمد ناصر من معهد الحياة الثانوي بالقرارة في سنة 1959. ولما توفرت الأسباب التحق بجامعة القاهرة في سنة 1963م ليواصل دراساته العليا، ونال منها شهادة الليسانس في الأدب في عام 1966. وقد تفطّن خلال دراسته في الجامعة المصرية إلى أن أساتذته لا يعرفون من الأدب الجزائري إلا ما هو مكتوب باللغة الفرنسية، فاستغرب من ذلك «الجهل» بالأدب الجزائري العربي وبذل جهدا للدفاع عن أدبنا الأصيل في حدود ما درسه في الجزائر. وقد وجد الأمر لم يتغيّر كثيرا عندما عاش في الخليج العربي بين 1991 و1998، إذ ظل أدبنا غائبا في تلك رغم مرور الأعوام وتطوّر وسائل الاتصال ووفرة امكانات التواصل.
بعد اتمام دراسته في جامعة القاهرة عاد إلى مسقط رأسه القرارة حيث عيّن أستاذا في معهد الحياة. لكن نفسه تطلّعت إلى مواصلة تعليمه فسجل في جامعة الجزائر حيث نال دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي. وقد كان الفضل لأستاذته بالجامعة المصرية الدكتورة سهير قلماوي التي وجهته نحو البحث في موضوع الأدب الجزائري المعاصر المكتوب باللغة العربية.
اختار موضوع «المقالة الصحفية الجزائرية نشأتها وتطوّرها وأعلامها (1847-1931)» لنيل شهادة الدكتوراه الدرجة الثالثة التي نالها من جامعة الجزائر في جوان 1972. وقد أشرف على رسالته الكاتب السوري المعروف الدكتور شكري فيصل الذي تأثر كثيرا بسلوكه الرزين وعلمه الرصين، وقد خصّ له صفحات مشرقة في كتابه «مشايخي كما عرفتهم».
ولم يتوقف الباحث محمد ناصر عند هذا الحد من التحصيل الجامعي، فقد أعد أطروحة لنيل شهادة دكتوراه الدولة حول موضوع «الشعر الجزائري الحديث: اتجاهاته وخصائصه الفنية من 1925 إلى 1975». وسجل أولا في جامعة الرباط مع الدكتور عباس الجراري الذي عرفه عندما كان أستاذا معارا بجامعة الجزائر، وبعد أن ساءت العلاقة بين الجزائر والمغرب وغلق الحدود بين البلدين، حوّل تسجيله إلى جامعة عين شمس ليشرف على أطروحته الدكتور إبراهيم عبد الرحمان، غير أن ابرام الحكومة المصرية اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني وقطع العلاقات بين مصر والجزائر، اضطر محمد ناصر مرة أخرى لتحويل تسجيله الإداري والبيداغوجي إلى جامعة الجزائر تحت إشراف الدكتور عبد الله الركيبي. وهكذا ناقش أطروحته في أكتوبر 1983 ونال شهادته باستحقاق، ورحبت بها الصحافة وأجرت معه حوارا ت مثمرة حول رسالته وما طرحه من قضايا أدبية وفكرية.
أعلام الفكر والأدب من وادي ميزاب
استهل أبحاثه بالكتابة حول أعلام الأدب والإصلاح في وادي ميزاب، وكان أول مقال له في هذا المجال عن الشيخ إبراهيم أبو اليقظان نشره في حلقتين في مجلة «الثقافة» في عام 1974. وأتبعه بمجموعة مقالات وأبحاث جمعها في كتاب صدر بعنوان: «أبو اليقظان وجهاد الكلمة» الذي تضمن فصلا عن حياة أبي اليقظان وفصولا عن نشاطه الإصلاحي، وقد ركز فيه أكثر على نشاطه الصحفي، ودرس صحفه الثمانية المحظورة من طرف السلطة الاستعمارية الفرنسية. ولم يتوقف عند هذا الحد فقد ذيّل الكتاب بفهارس هذه الجرائد، وخدم بذلك الباحثين خدمة لا نظير لها. كذلك أشرف على إعادة طبع ديوان أبي اليقظان في جزأين.
ولم يكن الشيخ أبو اليقظان العالم المصلح الوحيد الذي تأثر به وكتب عنه، فقد كان للدكتور ناصر فضل السبق في التعريف بالعالم أبو إسحاق إبراهيم أطفيش الذي استقر في القاهرة بعد أن ساهم في الحركة الأدبية والإصلاحية في الجزائر وتونس. فكتابه «الشيخ إبراهيم أطفيش في جهاده الإسلامي» كان أول بحث علمي كشف النضال الوطني والعمل الفكري لهذا العالم الجزائري الذي اشتهر اسمه في المشرق العربي بفضل مواقفه السياسية الصريحة، وبكتاباته الجريئة في القضايا العربية والإسلامية التي عبر عنها في كتابه «الدعاية إلى سبيل المؤمنين»، ومجلته المعروفة «المنهاج» وفي غيرها من الصحف والمجلات. ولم يكتف الدكتور ناصر بدراسة نشاطه المتعدد وإنما نشر أيضا مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الشيخ أطفيش وبعض معاصريه من الأدباء والعلماء. وهي وثائق في غاية الأهمية لكل باحث يشتغل على التاريخ الأدبي والسياسي الجزائري المعاصر.
وهناك شخصية إصلاحية ميزابية ثالثة درسها باستمرار الدكتور محمد ناصر، إنها شخصية الشيخ إبراهيم بيوض. فقد أصدر عنه كتابا كاملا بعنوان: «الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض مصلحا وزعيما». ولم يتوقف عند دراسة حياته وأعماله الإصلاحية كالتعليم في مدرسة الحياة بالقرارة، والوعظ والإرشاد في مساجد وادي ميزاب والتفسير للقرآن الكريم، وكتاباته في الصحف، بل توقف كذلك بشكل ملفت للانتباه عند نضاله السياسي في الحركة الوطنية ودعمه للثورة التحريرية، ونشر وثائق هامة في هذا الموضوع. كذلك ساهم في إصدار تراثه المخطوط مثل الكتابين: «في رحاب القرآن»، و»أعمالي في الثورة».
اهتم بدراسة حياة وأعمال الشاعر والكاتب رمضان حمود الذي مات وهو مازال شابا يافعا. وقد عرّف الدكتور ناصر القُراء بهذا الشاعر الجزائري النابغة وبيّن ملامح الثورة والتجديد في شعره، وقارنه بالشاعر التونسي أبو القاسم الشابي. وفي عام 1978 نشر كتابا عن هذا الشاعر بعنوان: «رمضان حمود حياته وآثاره»، جمع فيه كل ما كتبه عنه من مقالات ودراسات وأضاف إليه مجموعة من نصوصه المعروفة والمغمورة، وهو يعتبر أول كتاب أصدره الدكتور محمد ناصر في حياته العلمية. وغير بعيد عن عالم الشعر، اهتم الدكتور ناصر بأعمال الشاعر الكبير مفدي زكريا الذي وصفه بـ «شاعر النضال والثورة». وساهم في نشر أشعاره المجهولة ووثائقه ورسائله مع معاصريه.
وفي كتابه «محمد علي دبوز والمنهج الإسلامي لكتابة التاريخ» نلمس إعجاب محمد ناصر وتقديره لأستاذه في معهد الحياة، والوفاء له وحرصه على التعريف بأعماله في مجال التاريخ. فالشيخ دبوز كان من رواد الكتابة التاريخية في الجزائر، عاصر غيره من المؤرخين الجزائريين أمثال الشيخ مبارك الميلي، والأستاذ أحمد توفيق المدني، والشيخ عبد الرحمان الجيلالي، وقد أصدر مجموعة من الكتب، أذكر منها: «أعلام الإصلاح في الجزائر» في 5 أجزاء، «نهضة الجزائر الحديثة» في 3 أجزاء، و«تاريخ المغرب الكبير» في 3 أجزاء.
فضلا عن الأعلام الميزابيين السابقين الذين خص كل واحد منهم بكتاب مستقل، فإن الدكتور محمد ناصر خلّد أعلاما آخرين في كتبه الأخرى. كما ألف مؤلفات حول أعلام منحدرين من المناطق الجزائرية الأخرى أمثال الأمير عبد القادر، والشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والأستاذ عمر راسم، والأستاذ محمد الهادي الحسني…الخ.
تاريخه الرائد للصحافة العربية في الجزائر
إن اشتغاله في أطروحته على موضوع المقالة الصحفية قاده إلى مراكز الأرشيف في الجزائر والخارج بخاصة الأرشيف الفرنسي بباريس الذي احتفظ بعدد كبير من الصحف العربية التي كانت تصدر في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية. ولا شك أنه استفاد أيضا من الأرشيف الصحفي للشيخ أبي اليقظان والشيخ إبراهيم بيوض وغيرهما من رجال الفكر والإصلاح الذين قابلهم خلال إعداد رسائله الجامعية.
يعتبر كتابه «الصحف العربية الجزائرية (1847- 1939م)» الصادر عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع في عام 1980م أهم كتاب صدر لحد الآن عن تاريخ الصحافة العربية في الجزائر خلال العهد الاستعماري. ولم يسبقه إلى تأريخ الصحافة المكتوبة بالعربية إلا الشاعر مفدي زكريا الذي أذاع فصولا في الموضوع في الإذاعة التونسية أيام الثورة التحريرية، والأستاذ الزبير سيف الإسلام الذي نشر كتابه «تاريخ الصحافة في الجزائر» في عام 1972، إضافة إلى مقالات قليلة نشرها الدكتور عبد الملك مرتاض والشيخ علي مرحوم في الدوريات الجزائرية.
وقد طبع كتاب «الصحف العربية الجزائرية» 4 مرات لحد الآن، وكانت طبعته الثالثة الصادرة عن دار الغرب الإسلامي ببيروت في عام 2007 تحتوي على إضافات جديدة حيث شملت أيضا الفترة الممتدة بين 1940 و1954، وكذلك الطبعة الرابعة المنشورة في الجزائر في 2015 ضمن أعماله الكاملة.
في هذا الكتاب أحصى فيه الكاتب 90 جريدة جزائرية باللسان العربي صدرت في بلادنا بين 1847 و1954. وتختلف الدراسة من صحيفة إلى أخرى على حسب المادة المتوفرة لديه، فكثير من هذه الجرائد لم يبق للأسف من آثارها إلا أعداد قليلة جدا، وأخرى ضاعت تماما.
ومن أعلام الصحافة وروادها نشر الدكتور ناصر مقالا عن عمر راسم في عام 1978 في مجلة «الثقافة»، وهو صاحب قلم سيال كتب في عدة جرائد جزائرية وتونسية، وأنشأ جريدة «الجزائر» في عام 1908، ثم جريدة «ذو الفقار» في عام 1913. وكعادته جمع الدكتور ناصر مقالاته عن عمر راسم ونشرها في كتاب بعنوان: «عمر راسم المصلح الثائر» الذي تضمن أيضا نصوصا مغمورة نشرها في جرائد جزائرية مثل «الحق الوهراني» و«البصائر» و«هنا الجزائر»، وفي صحف تونسية مثل «مرشد الأمة» و»التقدم»، ومنها مقالاته المبكرة عن الحركة الصهيونية وأطماعها في فلسطين. وقد لفت نظري في ملاحق هذا الكتاب رسالة طويلة أرسلها إليه الأمير شكيب أرسلان مما يدل على مكانة عمر راسم بين أعلام عصره.
اهتم الدكتور محمد ناصر بعلَم آخر من أمجادنا الصحفية الذي كان له دور بارز في تاريخ الصحافة العربية في الجزائر أقصد عمر بن قدور الجزائري. فقد نبّه الدكتور ناصر منذ عام 1972 في مجلة «الأصالة» إلى هذا المصلح الذي كادت الأيام تطويه نسيانا رغم ما قدمه للصحافة، لقد كتب في الجرائد الجزائرية والمشرقية مقالات قيمة في قضايا الإصلاح، وأنشأ صحيفة من ماله الخاص اسمها «الفاروق» والتي عمرت 8 سنوات، وجعلت نهضة الجزائر في المقام الأول من كل منشوراتها.
وحفاظا على التراث الفكري الذي تحتويه صفحات الجرائد والدوريات الجزائرية، أنجز الدكتور محمد ناصر الفهارس العامة لمجلة «الثقافة» التي كان يكتب فيها المقالات الأدبية وينشر فيها القصائد الشعرية. فكانت تربطه علاقة متينة برئيس تحريرها الدكتور صالح الخرفي والذي كان أيضا زميله في كلية الآداب، وكانت اهتماماتهما الأدبية متقاربة جدا.
إن الدكتور محمد صالح ناصر لم يمت بعد أن ترك علما ينتفع به الناس، ولقد قدمت ومضات من أعماله في هذا المقال التأبيني، ولا شك أن كثيرا من الباحثين سيهتمون بدراسة كتبه وأبحاثه، وبتوصيل فوائدها العلمية والتهذيبية إلى الأجيال الراهنة والقادمة.