ابتسم أو تبرع بأسنانك

مراد ترغيني إن عبارة “ابتسم أو تبرع بأسنانك” تتجاوز كونها شعارًا على جدار لتصبح نصًا فلسفيًا واجتماعيًا مكثفًا. مضمونها العميق لا يكمن فقط في التناقض السطحي، بل في قدرتها على تشريح علاقة الفرد بالسلطة، وبالمجتمع، وبجسده، في ظل أنظمة تفرض ضغوطًا وجودية 1‪. ‬الابتسامة كأداة للسلطة والانصياع الاجتماعي‪ (Biopolitics)‬ في العمق، العبارة ليست عن السعادة، …

يوليو 21, 2025 - 22:06
 0
ابتسم أو تبرع بأسنانك

مراد ترغيني
إن عبارة “ابتسم أو تبرع بأسنانك” تتجاوز كونها شعارًا على جدار لتصبح نصًا فلسفيًا واجتماعيًا مكثفًا. مضمونها العميق لا يكمن فقط في التناقض السطحي، بل في قدرتها على تشريح علاقة الفرد بالسلطة، وبالمجتمع، وبجسده، في ظل أنظمة تفرض ضغوطًا وجودية
1‪. ‬الابتسامة كأداة للسلطة والانصياع الاجتماعي‪ (Biopolitics)‬
في العمق، العبارة ليست عن السعادة، بل عن الأداء الإجباري للسعادة. إنها تكشف كيف تحولت الابتسامة من تعبير عفوي عن الفرح إلى واجب اجتماعي وسياسي‪.‬
الابتسامة كقناع: تطالب السلطة (سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية) الأفراد بارتداء قناع الرضا. المواطن الصالح هو المواطن المبتسم، لأنه لا يشكل تهديدًا، ولا يعكس فشل النظام. الابتسامة هنا هي إعلان صامت عن القبول بالوضع الراهن، حتى لو كان مجحفًا. العبارة تسخر من هذا الطلب، وتفضحه كشكل من أشكال السيطرة الناعمة‪.‬
السلطة البيولوجية‪ (Biopower): ‬يتجلى هنا مفهوم الفيلسوف ميشيل فوكو عن “السلطة البيولوجية”، وهي قدرة النظام على التحكم ليس فقط في أفعال الأفراد، بل في أجسادهم وحياتهم. الطلب بـ “الابتسام” هو تدخل في أعمق تعابير الوجه الإنساني. وعندما يفشل هذا التدخل، يأتي التهديد البديل الذي يطال الجسد مباشرة: “تبرع بأسنانك”. إنها سلطة تمارس نفسها على الحياة والجسد‪.‬

2‪. ‬الأسنان كرأس مال رمزي ومادي
لماذا الأسنان تحديدًا؟ لأنها تحمل دلالات تتجاوز وظيفتها البيولوجية. الأسنان هنا هي رأس مال متعدد الأوجه‪:‬
رأس المال الصحي: أسنان سليمة هي مؤشر واضح على الصحة والرفاهية. في المقابل، الأسنان المفقودة أو المسوسة هي وصمة جسدية تكشف عن الفقر والإهمال وعدم القدرة على الوصول إلى رعاية صحية لائقة. العبارة تربط مباشرة بين الوضع الاقتصادي وصحة الجسد‪.‬
رأس المال الاجتماعي: الابتسامة الجميلة هي جواز عبور اجتماعي. إنها تؤثر على فرص العمل، والعلاقات الاجتماعية، والجاذبية الشخصية. فقدان الأسنان ليس مجرد مشكلة صحية، بل هو اغتيال اجتماعي يؤدي إلى العزلة وفقدان الثقة بالنفس. “التبرع بأسنانك” هو إذن تبرع بمستقبلك الاجتماعي‪.‬
رأس المال الجمالي: في عصر الصورة، أصبحت الأسنان البيضاء المصقولة معيارًا للجمال والنجاح. العبارة تهدم هذا المعيار وتكشف عن الحقيقة المرة التي تقع خلف صور الإنستغرام المثالية: واقع يكلفك أسنانك حرفيًا‪.‬
عندما تقول الجدارية “تبرع بأسنانك”، فهي لا تقصد مجرد عضو في الفم، بل تقصد التنازل عن صحتك، ومكانتك الاجتماعية، ومظهرك، أي التنازل عن كل ما يمثله هذا “الرأس المال الجسدي‪”.‬
3‪. “‬التبرع” كأسمى درجات السخرية من التضحية
استخدام كلمة “تبرع” هو ضربة معلم في الكوميديا السوداء. فالتبرع فعل نبيل واختياري، ينم عن الكرم والإيثار. لكن هنا، يتم تحوير المعنى ليصبح‪:‬
تضحية قسرية: ليس هناك خيار حقيقي. “التبرع” هنا هو مصطلح ملطّف لفعل عنيف هو “الخلع” أو “الفقدان”. إنها الطريقة التي تجبر بها الأنظمة الناس على تقديم تضحيات، ثم تسميها “مساهمة طوعية” أو “تضامنًا وطنيًا”. إنها تسخر من اللغة التي تستخدمها السلطة لتجميل القمع‪.‬
الجسد هو آخر الممتلكات: في نظام يجردك من كل شيء (المال، الكرامة، الفرص)، لا يتبقى لديك سوى جسدك. “التبرع بأسنانك” هو الوصول إلى المرحلة النهائية من الإفقار، حيث يصبح جسدك هو السلعة الوحيدة التي يمكنك “التبرع” بها. إنها إشارة إلى أنك وصلت إلى “الصفر المادي‪”.‬
4‪. ‬المأزق الوجودي: الخيار المستحيل
التركيبة “ابتسم أو…” تضع المتلقي في مأزق وجودي لا فكاك منه. الخياران المطروحان كلاهما هزيمة‪:‬
الخيار الأول (ابتسم): هو أن تعيش كذبة. أن تخنق ألمك وتشارك في مسرحية الرضا الجماعي. إنها موت للروح، وتنازل عن الأصالة والصدق مع الذات‪.‬
الخيار الثاني (تبرع بأسنانك): هو أن تعترف بالهزيمة وتعيشها جسديًا. أن تحمل على وجهك علامة مرئية لقهرك. إنه موت اجتماعي وجسدي‪.‬
المأزق يعكس بدقة شعور الكثيرين بالعجز، حيث تبدو كل المسارات المتاحة مؤدية إلى شكل من أشكال الخسارة. إنها عبارة تلخص الشعور بأن “اللعبة كلها مزورة‪”.‬
خلاصة: جدارية “ابتسم أو تبرع بأسنانك” هي تشريح عميق للمجتمع المعاصر. إنها تكشف عن آليات السيطرة الخفية التي تتجاوز
القوانين لتصل إلى التحكم في تعابير وجوهنا وأجسادنا. هي بيان عن كيف يمكن للاقتصاد أن ينحت أجسادنا، وكيف تتحول أبسط الأفعال الإنسانية كالابتسامة إلى ساحة صراع سياسي. وأخيرًا، هي تعبير فني شديد الذكاء عن الكوميديا المأساوية للعيش في واقع يخيرك بين الزيف الجميل والحقيقة البشعة، ليقول في النهاية إن كلا الخيارين يؤديان إلى فقدان جزء من إنسانيتك‪.‬