رحل في أوج عطائه: الدكتور محمد بن صالح حمدي كما عرفته
بقلم: مسعود فلوسي قبل أن يُتم عامَه الحادي والسبعين، وفي أوج عطائه وقمة نشاطه، قضت إرادة الله عز وجل أن يرحل أخونا وزميلنا وصديقنا الأستاذ الدكتور محمد بن صالح حمدي عن هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، حيث أدركه أجله وفاضت روحه إلى بارئها حين كان في الطريق بين باتنة وبسكرة لزيارة بعض أقاربه بمناسبة …

بقلم: مسعود فلوسي
قبل أن يُتم عامَه الحادي والسبعين، وفي أوج عطائه وقمة نشاطه، قضت إرادة الله عز وجل أن يرحل أخونا وزميلنا وصديقنا الأستاذ الدكتور محمد بن صالح حمدي عن هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية، حيث أدركه أجله وفاضت روحه إلى بارئها حين كان في الطريق بين باتنة وبسكرة لزيارة بعض أقاربه بمناسبة عيد الأضحى المبارك، وذلك يوم الأحد 12 ذو الحجة 1446هـ، الموافق 8 جوان 2025م، وتم نقل جثمانه إلى مسقط رأسه القرارة في ولاية غرداية أين صُلي عليه في مسجد النور صلاة الجنازة بعد صلاة العصر من اليوم الموالي، ودُفن في مقبرة الحاج محمد المؤذن رحمه الله.
متى عرفتُه؟ وكيف؟
عرفتُ أخانا الشيخ محمد حمدي رحمه الله أول مرة سنة 1992م، وذلك حين التحق بنا ونحن في بداية السنة الأولى ماجستير بالمعهد الوطني للتعليم العالي في العلوم الإسلامية بباتنة، كان حينئذ قد عاد من القاهرة بجمهورية مصر العربية، أين زاول دراسته في معهد الدراسات الإسلامية الكائن مقره بالزمالك، حيث حصل منه على دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية، ولما تقدم بشهادته تلك وكشوف نقاط المواد التي درسها إلى وزارة التعليم العالي للحصول على المعادلة، ألزمته لجنة المعادلات في الوزارة بالتوجه إلى إحدى المؤسسات الجامعية الجزائرية التي تتولى التكوين في العلوم الإسلامية للحصول على معادلة داخلية تمكنه من تسجيل موضوع للبحث في الماجستير بصورة مباشرة. وبما أنه من سكان مدينة باتنة، فقد قصد معهدنا، ولما عُرض ملفه على المجلس العلمي ألزمه بدراسة مواد تخصصية حتى يتمكن من تسجيل موضوع بحثه. وهكذا التحق بنا نحن طلاب الدفعة الأولى في الدراسات العليا على مستوى المعهد، ودرس معنا عاما ونصف العام “ثلاثة سداسيات” كما كان نظام الدراسات العليا حينئذ.
وفي أثناء دراسته معنا، عرفتُ منه أن تكوينه اقتصادي أساسا، فقد سبق له أن حصل على الليسانس في العلوم الاقتصادية، تخصص الاقتصاد المالي، من جامعة باتنة سنة 1988، وأنه متفرغ للعمل في التجارة، لكن شغفه بمواصلة التحصيل العلمي، جعله يلتحق بالقاهرة ويسجل في معهد الدراسات الإسلامية السابق الذكر.
رسالته في الماجستير:
عندما أنهينا الدراسة النظرية، اختار كل منا موضوعا للبحث للحصول على درجة الماجستير، وقد وقع اختيار أخينا محمد على موضوع “أثر الاستخلاف على وظيفة المال في الفقه الإسلامي”، وسجله تحت إشراف الأستاذ الدكتور غازي عناية، وبعد عودة هذا الأخير إلى بلاده حول إشرافه إلى أستاذنا الدكتور محمد محده رحمه الله، وكان تاريخ التسجيل على مستوى المجلس العلمي هو 01 أكتوبر 1994م.
جدَّ الأخ محمد واجتهد في إعداد رسالته، لكنه تأخر نوعا ما في إتمامها بسبب انشغاله بالتجارة، وبعد أن أتمها طلب مني أن أتولى رقنها له على جهاز الكومبيوتر، وكنت حينئذ قد فتحتُ مكتبة وسط مدينة باتنة كان من بين أنشطتها رقن الرسائل الجامعية وطباعتها، وفعلا فقد تولينا في المكتبة رقنها وإخراجها وتصحيحها بعد مراجعتها ثم تصويرها وتجليدها، وعند الانتهاء من كل هذه المراحل قام بتسليم نسخها إلى مصلحة الدراسات العليا في المعهد، وتم اختيار لجنة مناقشتها على مستوى المجلس العلمي، وجرت مناقشتها يوم 5 مارس 1998. وكانت جلسة المناقشة مشهودة، حيث غصت قاعة المناقشات عن آخرها بالحضور من أعيان الإباضية الذين جاؤوا من القرارة ومن العاصمة ومن غيرهما من المدن الجزائرية.
التحاقه كأستاذ بكليتنا:
عندما كان الأستاذ محمد يعد رسالته في الماجستير، أسند إليه تدريس بعض المواد على مستوى المعهد، وكان يقوم بذلك بكل جدية ونشاط واهتمام، مما مكنه من أن ينال إعجاب الطلبة ورضا الإدارة في آن واحد.
وبعد مناقشته لرسالته وحصوله على شهادة الماجستير، واصل تعاونه مع المعهد في التدريس، حتى تهيأت الظروف وتوفر منصب عمل دائم، التحق بالمعهد – بعد أن تحول إلى كلية – كأستاذ مساعد، وبذلك أصبح أحد أعضاء هيئة التدريس الدائمين، ليبدأ منذ ذلك الحين رحلته الوظيفية كأستاذ جامعي، إضافة إلى نشاطه المعتاد في التجارة، والذي أصبح أبناؤه يساعدونه فيه ويكفونه الكثير من متطلباته، مما أتاح له التفرغ للنشاط العلمي والفكري.
وأذكر أنه؛ إما بمناسبة مناقشته لرسالة الماجستير، أو بمناسبة التحاقه بالكلية كاستاذ مساعد، دعاني رفقة كل من المجاهد الحاج لخضر وعميد الكلية حينئذ الدكتور محمد خزار رحمهما الله، وزميلنا الدكتور صالح بوبشيش، إلى بيته، حيث أكرمنا بمأدبة فاخرة، حضرها إلى جانبنا عدد من أعيان الإباضية من باتنة ومن القرارة، كان على رأسهم الشيخ عدون شريفي رحمه الله.
وقبل ذلك كان قد دعاني ، رفقة عدد من الزملاء كذلك، إلى بيته، أين حضرنا حفلا أقيم بمناسبة حفظ أحد أبنائه القرآن الكريم، حيث حضر الشيخ عدون أيضا وعدد من أعيان الإباضية، الذين تولوا تكريم الطالب الحافظ.
دعوته لي لزيارة القرارة:
في سنة 2000، أقامت جمعية الحياة بالقرارة، الملتقى الأول لفكر الإمام الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض رحمه الله، وكان ذلك يومي 8-9 محرم 1421هـ، الموافق 13-14 أفريل 2000م، وقد حضرتُ الملتقى برفقة الدكتور حسين شرفه والدكتور محمد العيد مطمر وعدد من الإخوة، وكان حضورنا بدعوة شخصية من أخينا الدكتور محمد حمدي رحمه الله، والذي تولى توفير وسيلة النقل لنا ذهابا وإيابا، كما وفر لنا إقامة مريحة، وقد سعدنا أيما سعادة بحضور الملتقى، حيث التقينا بعدد من أعلام الإباضية أذكر منهم الشيخ محمد الحاج الناصر رحمه الله الذي كان أحد تلاميذ الشيخ بيوض ثم هاجر إلى المغرب أين أصبح من كبار العلماء هناك، كما لقينا كلا من الدكتور سليمان الشيخ والدكتور محمد ناصر والدكتور محمد لعساكر، وعدد من مشايخ الإباضية من أمثال الشيخ عدون وابنه الشيخ بلحاج والشيخ محمد سعيد كعباش والدكتور محمد بن سعيد شريفي الذي كتب بخط يده عدة مصاحف، وغيرهم.
وبعد الملتقى أكرمنا أخونا محمد حمدي بزيارة إلى غرداية، التي قضينا فيها يوما كاملا، طفنا خلالها بمختلف معالم المدينة، كما زرنا عددا من مشايخها ومنهم الشيخ حمو فخار، وزرنا أيضا مكتبة الشيخ امحمد بن يوسف اطفيش ومكتبة الشيخ محمد علي دبوز.
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي دعانا فيها أخونا محمد لزيارة القرارة، بل دعانا مرة ثانية، وكان ذلك لحضور ﻣﻬﺮﺟﺎن اﻟﺼﺤﻔﻲ اﻟﺸﻴﺦ أﺑﻲ اﻟﻴﻘﻈﺎن اﻟﺤﺎج إﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺑﻦ ﻋﻴﺴﻰ الذي نظمته جمعية الحياة بمناسبة الذكرى الثلاثين لوفاة الشيخ أبي اليقظان رحمه الله، وذلك يومي 27-28 مارس 2003، حيث سافرت رفقة كل من الزملاء عبد الحليم بوزيد وأحمد عيساوي وبدر الدين زواقة، وكان أخونا محمد هو من تولى تدبير وسيلة السفر ذهابا وإيابا، كما تولى تدبير إقامة مريحة لنا. وفي هذه الرحلة ذهبنا أيضا إلى غرداية، التي زرنا فيها أسرة أخينا وزميلنا الأستاذ بكير وعلي رحمه الذي عمل معنا مدة ثم توفي إثر تعرضه لعملية اغتيال خلال سنة 1996.
الرحلة المصرية:
في أواخر شهر جانفي وأوائل شهر فبراير من سنة 2003، جمعتنا رحلة قادتنا إلى جمهورية مصر العربية، وشاركنا فيها الزملاء: العربي بن الشيخ وبلقاسم ساعي رحمهما الله، وأحمد عيساوي وعبد الكريم حامدي والذوادي قوميدي حفظهم الله، وذلك تنفيذا لمنحة تربص قصير المدى حصلنا عليها من كليتنا التي أصبحت تسمى منذ سنة 1998 “كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية”، وكان الموعد في القاهرة مع معرضها الدولي للكتاب الذي يُقام في مدينة المعارض في مدينة نصر.
أجرنا شقة في شارع شامبليون قريبا من ميدان التحرير في وسط القاهرة، أقمنا فيها قريبا من أسبوعين، وكنا ننطلق منها كل صباح إما إلى معرض الكتاب أو إلى معلم من معالم القاهرة، وقد زرنا معا جامع الأزهر وجامع الحسين، وتجولنا في الأهرام، كما زرنا قلعة محمد علي باشا وجامع عمرو بن العاص ومختلف معالم القاهرة القديمة، إضافة إلى زيارتنا لمختلف المكتبات التي تعج بها مختلف شوارع القاهرة.
كما سافرتُ برفقته ورفقة زميلنا وأخينا الدكتور بلقاسم ساعي رحمه الله، دون بقية الزملاء، إلى الإسكندرية، حيث ركبنا القطار صباحا، ووصلنا إلى الإسكندرية بعد حوالي ثلاث ساعات، وبعد الوصول لقينا الأخ محمود دردور الذي كان مقيما هناك، فرافقنا إلى مكتبة الإسكندرية، كما تجول بنا في مختلف معالم المدينة، وخاصة القديمة منها، مثل قلعة قايتباي، وغيرها. لنعود إلى القاهرة في آخر المساء، حيث وصلناها بعد منتصف الليل.
وبعد أيام جميلة ورائعة قضيناها معا في القاهرة عدنا إلى الجزائر، حيث استأنفنا من جديد عملنا في الكلية.
توفيره لي أجزاء تفسير الشيخ بيوض:
هذا، وإن أعظم مأثرة أجد نفسي مدينا بها لأخي الشيخ الدكتور محمد حمدي رحمه الله هي مساعدته لي المستمرة في الحصول على أجزاء تفسير الشيخ بيوض رحمه الله “في رحاب القرآن” والتي كانت تصدر تباعا سنة بعد سنة، حيث كانت جمعية الحياة تنشر كل شهر رمضان جزءا أو جزئين من أجزاء هذا التفسير الرائع، حتى أتمت نشرها في ثمانية وعشرين جزءا، وقد وفقني الله عز وجل إلى الحصول عليها كلها، وما كان ذلك ليتم لولا فضل الله عز وجل أولا، ثم حرص أخينا الشيخ محمد على أن يأتيني في كل رمضان من كل سنة بالجزء الجديد الصادر تلك السنة. وكان كثيرا ما يرفض أخذ ثمن ذلك الجزء ويصر على أن آخذه منه كهدية أخوية. ولم يكن يأتيني فقط بجزء التفسير، وإنما كان يأتيني معه أيضا بالعدد الجديد من مجلة الحياة الذي يصدر أيضا كل شهر رمضان.
إهداؤه مؤلفاته لي:
بعد حصول الشيخ محمد على الدكتوراه من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة سنة 2008م، إثر مناقشة رسالته “توازن الموازنة العامة: دراسة مقارنة بين الاقتصاد الإسلامي والوضعي”، ازداد نشاطه العلمي، وأصبح أكثر حضورا في الملتقيات العلمية، كما تضاعف نشاطه على مستوى البحث العلمي، حيث أصبح ينشر المقالات والمؤلفات، مما أهله لأن يترقى في الدرجات العلمية حتى حصل على درجة الأستاذية.
وقد أهداني عددا من مؤلفاته، وكان أولها رسالته للماجستير التي نشرتها له جمعية الحياة سنة 2005 تحت عنوان “نظرية الاستخلاف على الأموال في الاقتصاد الإسلامي”، كما أهداني بعض مؤلفاته الأخرى ومنها “مدخل إلى الاقتصاد الإسلامي” و”فقه المعاملات المالية” و”فقه الاقتصاد الربحي”، إضافة إلى أجزاء السلسلة التي كان ينشرها مركب المنار في الحميز بالجزائر العاصمة تحت عنوان “سلسلة الدين المعاملة” وبلغت ثلاثة عشر جزءا.
تقاعده وتفرغه للبحث في الاقتصاد الإسلامي:
في السنوات الأخيرة، طلب إحالته على التقاعد، وبما أنه يتوفر على الشروط القانونية لذلك ومنها بلوغه الستين من العمر، فقد أجيب إلى طلبه وتم تمكينه من التقاعد. هذا التقاعد لم يكن بالنسبة له وسيلة للتفرغ من العمل والركون إلى الراحة والقعود، وإنما كان فرصة للتفرغ التام للبحث في الميدان الذي استأثر باهتمامه وملأ عليه كيانه، وهو الاقتصاد الإسلامي. وقد كان تأسيس مركز التميز للبحوث والدراسات الاقتصادية في الجزائر العاصمة وتوليه رئاسته فرصة له لإشباع تطلعاته في هذا الباب، حيث أشرف على تنظيم عدة ندوات في موضوعات دقيقة متعلقة بهذا المجال، وصدرت الأعمال التي قدمت في هذه الندوات في مطبوعات خاصة.
ولأن هذا المركز كان مقره في الجزائر العاصمة، فقد أصبح وجودُ أخينا محمد هناك أكثر من وجوده في باتنة، هذا فضلا عن حضوره المستمر في أنشطة الجمعيات الإباضية في وادي ميزاب التي كان عضوا فاعلا فيها، كل ذلك أبعده عنا وجعل لقاءاتنا به قليلة جدا.
آخر تواصل بيننا:
بمناسبة عيد الأضحى المبارك، وفي صبيحة ثاني أيامه، وصلتني رسالة إلكترونية على الواتساب من أخي الدكتور محمد، جاء فيها: “السلام عليكم ورحمة الله. أخي د. مسعود، عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير وصحة وعافية. تقبل الله منا ومنكم أضاحينا كما تقبلها من إبراهيم عليه السلام. أخوكم محمد صالح حمدي”. وقد رددتُ عليه في الحين برسالة مماثلة قلت فيها: “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تقبل الله منا ومنكم وغفر لنا ولكم، أعاد الله علينا جميعا هذا العيد بالخير واليُمن والبركات والتوفيق إلى عمل الصالحات، وكل عام وأنتم وجميع أفراد عائلتكم الكريمة بخير وعافية وطمأنينة وقرب من الله عز وجل”. وقد شاء الله عز وجل أن تكون هذه المحادثة الطيبة بيننا مسك ختام علاقتنا الأخوية التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاما، مَيَّزتها المودةُ والمحبةُ والتعاونُ على البر والتقوى.
رحم الله الأخ العزيز محمد بن صالح حمدي، وألهم أهله وأبناءه وأحفاده وكل ذويه وأحبابه الصبر والسلوان، وجمعنا به في جنات النعيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. إنا لله وإنا إليه راجعون.