الدّكتور محمد بن صالح حمدي.. الطّائر النّادر
لم يكن المنعيُّ، في هذه المرة كذلك، شخصا عاديا مما جعل موته مصيبة قاصمة وفراقه كربا محزنا. وإنما هو عالمٌ ألمعي بارز عزّ نظيره في الثقة والعمل، وإنسان خفيف الرّوح، ونقي الفؤاد، وشاطر الحركة. وعاش بحضوره القوي والمكثف في تصدّر مجالس المجتمع في أفراحه وأتراحه، وفي الوقوف في مدرجّات الجامعة، وفي تقدّم صفوف أهل الرأي […] The post الدّكتور محمد بن صالح حمدي.. الطّائر النّادر appeared first on الشروق أونلاين.


لم يكن المنعيُّ، في هذه المرة كذلك، شخصا عاديا مما جعل موته مصيبة قاصمة وفراقه كربا محزنا. وإنما هو عالمٌ ألمعي بارز عزّ نظيره في الثقة والعمل، وإنسان خفيف الرّوح، ونقي الفؤاد، وشاطر الحركة. وعاش بحضوره القوي والمكثف في تصدّر مجالس المجتمع في أفراحه وأتراحه، وفي الوقوف في مدرجّات الجامعة، وفي تقدّم صفوف أهل
الرأي والقول، وفي ترؤس مجالس الذكر وحِلق العلم والفكر، وفي الجلوس على كراسي الخطابة وصعود منابر المساجد، وفي الانتصاب على مصاطب الملتقيات العلمية. وخلّفت هذه الاجتهادات خلاصة ميراث علمي مفيد، لا ينكفئ له مدح ولا يغيض، وعصارة من الخلق الرّفيع الذي سيبقى تاجا نورانيا مشرقا يلمّع اسمه كلما نطق به لسان.
لم تكن حياة الرجل انصرافا إلى نفسه، ولم يضرب سورا من العزلة والانسلاخ عن محيطه، ولم يقطع حبال الوصل مع جواره، ولكنّه فضّل الالتحام في مودّة وتجاوب مع الناس باختلاف طبقاتهم في بلدته القرارة وفي غيرها من المدن التي سكنها، أو قصدها زائرا، أو أقام فيها تاجرا أو متعلّما أو معلّما.
وبفضل شخصيته التي تبرق بالأنس والتفاعل الإيجابي المرن وحديثه العذب والجذّاب الذي يخلف انطباعا عطرا في النفوس، استطاع أن يجذب الناس كبيرهم وصغيرهم إلى جانبه، وأن يؤثر فيهم. ولا أعتقد أن هناك من اقترب منه، ولو لمرّة واحدة، ثم باعده وانفصل عن لقائه وقطع صلته به؛ لأنه مزوّد بسرّ اختطاف القلوب وأسرها في طوع ولين بوداعته وصدقه وحنوّه وظرافته وتواضعه ووداده ودماثة خلقه واستعداده لتقديم الخدمة في إيثار ومدّ يد العون في تقليد حاتمي بلا تظاهر أو تفاخر أو مقابل وصدقه في الكلام. ونظرا لتطابق سريرته مع مظهره، فلا أرى مانعا بأن يُكنّى بالطّائر النّادر.
تجمّل الفقيد بكل صفات الرجال الاستثنائيين الذين يكال لهم الاحترام والتقدير بمقادير مضاعفة، وتحلّى بمزايا ذوي الفكر النيّر الذي يرسم مسارات الخلاص، ويخطط لمستقبل الأيام بنظرات تفضي إلى مرافئ النجاح والتفوق والسلامة. ولم يُعرف في كل المواقف التي وقفها إلا ناشرا للخير وجامعا للكلمة وموحدّا للصفوف وجابرا للخواطر ورابتا على الأكتاف وداعيا إلى نبذ الخلاف ومكفكفا للدموع ومواسيا في لحظات الحزن ومسليا مخففا عن الشاكين والباكين من عضّات الأيام.
لم أصادف الفقيد الصديق الدكتور محمد حمدي، ومذ تعارفنا، فارغ البال غير مهموم بشأن أو قضية، ولكن في رباطة جأش وراحة ضمير. وهذا ما جعله في حركة دائمة وتنقل مستمر. وكان وقته من ذهب فعلا، فلا يضيّعه في الثّرثرات التي لا تفيد أو في السّجالات العقيمة. وأما مواعيده، فهي متلاحقة بلا انقطاع ومضبوطة انضباطا لا يرضى الإخلال بها.
وحتى عندما يمشي، فإنه يتحرك في خفة ورشاقة مسرع الخطوات إلى درجة أنه قد يُتعب من يسير إلى جانبه، وينهكه.
لما كنّا، وخاصة شبابنا، في حاجة ماسة إلى قدوات نتأسى بها ونسير على دربها، ونقطف من بساتينها باقات من قدرات معرفة حسن التّصرّف والتعامل وسلامة العيش، فإنني أرى في حياة الفقيد الدكتور محمد حمدي منوالا رائعا ومثالا رائقا يشدّ الانتباه ويصلح أن يزكّى للاقتداء. ويمكن أن يستفاد منه لما نوفّق في تفكيك مركبات شخصيته والوقوف على عناصرها التي منحته التميّز والانفراد.
يحس المتحدّث إلى الفقيد العزيز أنه يحمل في عقله وقلبه رسالة مجتمعية توجيهية سامية ذات أبعاد وظيفية وامتدادات في الحياة، وأنه مكلّف بتبليغها إلى أبناء وطنه تبليغا يتناسب مع مستوى وطاقة كل فرد حتى يجعل من كل واحد منهم مواطنا صالحا ونفّاعا لغيره في كل الظروف، وصانعا للخير وناشرا له، وطاردا للشر ومجتثا لشتلاته. ولهذا تصادفه يتحدّث بعدة مستويات منتقيا الكلمات والعبارات التي تناسب المخاطبين. ومثلما يتكلم مع الفئة النخبوية حديثا راقيا، فإنه لا يجد أدنى صعوبة أو حرج للنزول إلى عتبات العامّة مصغيا إلى ما يشغلهم ويقلقهم، ومساعدتهم على بلورة حلول لمشكلاتهم.
تجمّل الفقيد بكل صفات الرجال الاستثنائيين الذين يكال لهم الاحترام والتقدير بمقادير مضاعفة، وتحلّى بمزايا ذوي الفكر النيّر الذي يرسم مسارات الخلاص، ويخطط لمستقبل الأيام بنظرات تفضي إلى مرافئ النجاح والتفوق والسلامة. ولم يُعرف في كل المواقف التي وقفها إلا ناشرا للخير وجامعا للكلمة وموحدّا للصفوف وجابرا للخواطر ورابتا على الأكتاف وداعيا إلى نبذ الخلاف ومكفكفا للدموع ومواسيا في لحظات الحزن ومسليا مخففا عن الشاكين والباكين من عضّات الأيام.
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post الدّكتور محمد بن صالح حمدي.. الطّائر النّادر appeared first on الشروق أونلاين.