الفضاء الأزرق وصناعة الكائن الهجين

أ.د. أحمد محمود عيساوي لم أكن أعرف قبل خمس سنين مضت وبالتحديد شهر جوان 2020م ما يجول ويقع من خطايا وجرائم وموبقات في سماء الفضاء الأزرق وعلى سائر شبكات ومدارات الخلايا المعلوماتية الإلكترونية من حديث أو نشاط أو نشر أو نحوه.. إلاّ بالقدر الرصين الهادئ الذي أقرأه على صفحات الجرائد وأطالعه في المجلات والمنشورات وحوليات …

يونيو 30, 2025 - 20:16
 0
الفضاء الأزرق وصناعة الكائن الهجين

أ.د. أحمد محمود عيساوي

لم أكن أعرف قبل خمس سنين مضت وبالتحديد شهر جوان 2020م ما يجول ويقع من خطايا وجرائم وموبقات في سماء الفضاء الأزرق وعلى سائر شبكات ومدارات الخلايا المعلوماتية الإلكترونية من حديث أو نشاط أو نشر أو نحوه.. إلاّ بالقدر الرصين الهادئ الذي أقرأه على صفحات الجرائد وأطالعه في المجلات والمنشورات وحوليات المؤتمرات العلمية الورقية ونحوها التقليدي.. التي يتفضل الكتاب والباحثون والإعلاميون بنشرها بين الفينة والفينة.. لأنني من جيل نشأ على تقديس القلم واحترام الفكر وتقدير الكتابة وعالمها النبيل.. ومن جيل يؤمن بأن حق الكتابة للآخرين والتربع على عرش تعليم الناس والكتابة إليهم يحتاج إلى طريق طويل ومضنٍ وشاق من القراءة والمدارسة والبحث والتعلم والتدرب لسنين عديدة على فنون الكتابة وتدبيج الخطاب المناسب الذي يتضمن أبجديات وأساسيات الكتابة الرصينة التي تُقنع القارئ من أنه بصدد أن يصير كاتبا محترما وازن الفكر واللغة والأسلوب والطرح والعطاء والتصور والمشروع الرسالي..
وأن القارئ المطالع لما يقدمه هذا الكاتب أو غيره من إنتاج منشور سيجد فيه إن أتعب نفسه وصبر لمدة ربع أو نصف ساعة لقراءة هذا المقال أو البحث أو الدراسة فإنه لا محالة سيجد وسيستفيد أيّما فائدة منه. وأنه سيظفر في تلك السطور والصفحات ما لا يعرفه البتة من معارف وتراكمات وخبرات وخلاصات هذا الكاتب أو ذاك.. أي ما يسمى في أدبيات الكتابة التقليدية بالكتابة العمودية الفوقية التي يرتقي إليها صاحبها بعد جهاد وجهد طويل وعريض وعميق.. وكان هذا التصور هو اعتقادي وظني، ومازال حتى بعد أن ولجت هذا العالم الافتراضي ودخلته.. وقد تأكد لي حينئذ ذلك الظن اليقيني إلى أن دخلت بإلحاح من أبنائي الإلكترونيين الذين رأوا أن الوقت بات مناسبا لولوج هذا الفضاء السحري أسوة بغيري من الكتاب، الذين انقادوا إليه مرغمين مذعنين.. حتى الذين كانوا يصدحون بتحريمه وحظره وضرورة الابتعاد عنه لأنه رجس من أرجاس المدنية الغربية المادية الطاغية.. دخلوه مفتونين وفاتنين ومنزلقين، ثم أدمنوه حد الفظاظة..
وقد انقاد إليه هؤلاء وغيرهم لتحصيل جملة من المنافع والفوائد في الانتشار الإيديولوجي والذيوع الإعلامي والتمدد الفكري.. نحو الآخرين وغيرها من الفوائد والأهداف والغايات، ولاسيما من أبناء جيل الفضاء الأزرق الذي بات لا يعرف الكتاب الورقي ولا الصحيفة الورقية، ولا الكتابة الفوقية العمودية، ولا المكتبات.. وأمست حياته كلها تختزل عبر شاشة الهاتف الصغيرة.. بحيث حوّل حياته كلها بإرادته أو من دونها لتكون خاضعة وعابرة ومارة عبر تلك الزجاجة المضيئة.. ويالها من حياة بائسة؟ وحياة ضيقة تعيسة ومقرفة أيضا.. بالرغم من شعورهم السعيد بسعتها وثرائها وآفاقيتها الغامرة؟
ويالها من حياة برقية سريعة خاطفة لامعة عابرة غدارة حاضرة غائبة لماحة.. مليئة بالوهم والسحر والكذب والإحباط والكآبة.. وما إن أطللت على تلك الفضاءات الغائرة المتشعبة رويدا رويدا، ونزلت إليها وفيها شيئا فشيئا، واستطلعت بواباتها وفضاءاتها ومجموعاتها ومنشوراتها ومشاهيرها ومناكيرها وحقائقها وأباطيلها وأكاذيبها ومفترياتها وفظاعاتها.. حتى أُصبت بالذهول والارتخاء والاكتئاب واليأس.. وفزعت منها أيّما فزع، وفررت منها فرار الخائف المذعور من السقوط في أتون وأهوال حمم طوفان البركان ومغماه الحارق الزاحف على ما تبقى من فضائل في البشرية المدمنة الحائرة..

الكتاب والقراءة والكتابة:

ولعلمكم فقد نشأ جيلي ومن قبله ومن بعده -إلى غاية ابتكار هذا الفضاء الإلكتروني الأزرق ومشتقاته قبل عقدين خليا- يتلقى المعرفة التقليدية من مصادرها المعروفة والأصيلة المتمثلة في: المسجد والمدرسة والمكتبة والكتاب والصحيفة والمجلة والمطوية والشيخ والمعلم والأب والأم والجد والجدة والشارع والعائلة الصغيرة والكبيرة ووسائل الإعلام التقليدية (الإذاعة، التلفزيون، المسجلة، الفيديو).. فقرأ مئات بلهَ آلاف الكتب.. وارتاد وزار مئات المكتبات، وأنفق المال الكثير والوفير في سبيل تكوين مكتبة شخصية مازال يعتز بها كثروة وكنز خالد.. ودرس وسمع وأصغى وأنصت لمئات الأساتذة والشيوخ والعلماء والخبراء والمتخصصين والمعلمين والمدرسين.. وتدرج في أساليب الكتابة شيئا فشيئا ودرجة درجة حتى استقام عود الكتابة لديه، وصار ينتقل من موضوع لآخر، ومن قضية لأخرى.. ومن فن كتابي لآخر حتى أجازته منابر عصره ليصير كاتبا ومتحدثا ومعلما وموجها للآخرين وللجمهور المتواصل مع تلك الوسائل والوسائط المتعارف عليها.. فإن كتب في جريدة فلها قراؤها، وإن كتب في مجلة فلها أيضا قراؤها، وإن شارك في ندوة أو ملتقى أو مؤتمر فله أيضا رواده ومشاركوه.. وهكذا يتدرج رويدا رويدا ليصير كاتبا ذا مصداقية وقبول بين تلك الفئات والأصناف.. ويتلهف الجمهور لمتابعة مقالاته وأبحاثه ودراساته وكتبه ومحاضراته.. ويندر التفكير في أخذ الصور معه للذكرى، لصعوبة وتعسر التصوير يومها، ولغياب ثقافة الصورة من واقع الحياة وممارسات الناس والمجتمع.
وقد عرفت البشرية يومها عوالم الكتاب والصحفيين والباحثين والمفكرين والفلاسفة والأدباء والروائيين والشعراء والنقاد والاجتماعيين والنفسانيين وغيرهم من محترفي فنون البحث والكتابة الفوقية، ورضيت البشرية يومها هذا المسلك وعملت به دهرها.. وكان الفرد قانعا بما عنده من خبرات ومواهب وقدرات.. لا يتطلع لمكانة لا يستحقها أو لم يتدرب عليها أو لم يتقنها.. فلا يطمح أن يكون كاتبا ولم يتدرب على فنون الكتابة، ولا باحثا لم يتدرب على أصول البحث العلمي.. وهكذا مجرى الأمور كلها..

أوهام الفضاء الأزرق:

إلى أن طلعت علينا هذه الوسائط شيئا فشيئا منذ عقدين خليا.. حيث لم تؤثر الموجة الإلكترونية الأولى والثانية والثالثة التي صاحبت نهضة القطاعين السمعي البصري والإلكتروني الأولى، وترسخ الاعتقاد يومها أن المنجز الإلكتروني مجرد مختزل وجامع للمهارات الثلاث في جهاز حاسوبي واحد (الكتابة، السمع، الرؤية)، وسار الحال في إطار التعليمي والتربوي والتثقيفي.. حتى شاعت وسيطرت الشبكات المعلوماتية في غضون عقدين من الزمن، وعملت على تغيير عادات وسلوكيات وثقافة أجيال بأكملها وبأسرها.. فلم يعد اليوم أحد يلتفت إلى الأساليب التقليدية البتة من الكتاب والمكتبات ونحوها.. بما فيهم طلبة العلم والأساتذة الجامعيين والباحثين.. الذين خلت منهم المكتبات وأقفرت.. لأن الحاسوب الموصول بالشبكات الفضائية صار يوفر للباحث ما كان يكلفه جهدا وزمنا وإنفاقا كبيرا.. وليت الأمر توقف هنا، بل انتقل إلى ما يسمى بالفضاء الأزرق، وتحولت القيم العمودية لقيم ومفاهيم وممارسات أفقية.. وهو عين ومكمن الخطر كله..
فلم يعد الكاتب يتخرج من تلك المدرسة الأصيلة العريقة القوية التكوين والإعداد .. بل صار الكل يكتب، والكل ينشر، والكل يعلق ويعقب وينتقد، وليت الأمر توقف هنا فقط، بل صار الكل يفتخر ويعتز ويرائي وينفخ ويكذب ويسب ويشتم ويفتري ويحتال ويزور ويزيف ويحرف الحياة والكلم والقيم عن مواضعها..
وعاش المحرمون من المكانة وهما وحلما وأملا جديدا فوق أوهامهم السالفة، وظنوا أن ركوب ظهر المجن بات سهلا ميسرا، لا يكلف إلاّ الحصول على جهاز هاتف نقال أو نحوه وتعلم فنيات النشر في هذا الفضاء الأزرق.. وتهاطلت الرسائل والمضامين والمناشير والمكتوبات والصور من الماضي والحاضر ومن القديم والبعيد والقريب.. حتى دخل على الخط الذكاء الاصطناعي وخلط الصورة والمعرفة معا..
ودخل على خط الفضاء الأزرق جحافل الكسالى والبله والمحرومين والفاشلين والمعتوهين والمعطوبين والمُتخلى عنهم تربويا وتعليما واجتماعيا.. أيضا للنشر والكتابة.. من كلا الجنسين، ومن مختلف الأعمار، ومن مختلف الأعراق والأجناس والثقافات والأديان والملل والنحل والطوائف.. ومعهم اختلطت القيم وتميعت وترهلت وذابت.. فبعدما كانت الكتابة قيمة ومكانة لا تُنال إلا بجهد السنين المضنية، صار أي فاشل وهزيل وتافه وسطحي يمتلك جهاز حاسوب أو هاتفا نقالا حصل عليه بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة يكتب.. بل يعلق وينتقد ويحتقر ويوجه الكتاب والباحثين والمفكرين والفلاسفة وقادة الرأي لما يراه صوابا وحقا حسب تصوره الأرعن وفكره المعدم.. واخترق الخط طلاب الفتنة والأهواء والملل والنحل وفتحوا ثغرات في مليارات الكائنات البشرية الهزيلة علما ومعرفة وثقافة.. وصار الكل ينتقد الكل، والكل يدخل على خط الكل.. ودخل العالم كله مرحلة الفوضى القيمية الكبرى كما خطط لها منظرو نظرية الفوضى الخلاقة وغير الخلاقة؟؟

مرحلة الفوضى الإرادية:

وبات الجميع ينام في ساعات متأخرة من الليل.. ويستيقظ في ساعات متأخرة من النهار.. ويأكل والجهاز بيده، ويجلس والجهاز بيده، ويتكلم مع الآخرين ويمشي ويسير ويتحرك والهاتف بيده.. وإن ذهب للعمل فتراه نائما في القطار أو المترو، أو في مكان العمل، أو لا يؤدي عمله كما يجب.. بل حتى حراس الثكنات العسكرية من صغار العسكريين يحرسون في قمراتهم وأعينهم مسمرة في الهاتف النقال.. وانتشر هذا الداء العضال في الإدمان على الهواتف النقالة أثناء القيادة والسياقة ما أدى لكثير من الحوادث المميتة؟؟
وتحولت نعمة مرحلة عالم الإعلام والاتصال والتواصل والدعاية، ثم عالم المعرفة، ثم مرحلة عالم المعلومات، ثم تجاوز مرحلة عالم المعرفة إلى مرحلة ما بعد التسخير، ومرحلة السيطرة على الطبيعة والكون.. مجرد أوهام وخرافات.. لم تستفد منها البشرية البتة، بل غرقت في أوهام الفوضى والتداخل والتناحر والتطاحن القيمي والثقافي والسلوكي الأفقي والعمودي معا..
وصار استحضار التاريخ، والماضي القريب والبعيد.. واستجلاب الحاضر التعيس مع حرارة الماضي الجميل، مجرد خلطات يعدها مسيرو أحابيل وأذرع إدارات الفضاء الأزرق.. وبرز بمقابل الكتاب والصحفيين والإعلاميين والباحثين والمفكرين والفلاسفة والأدباء والروائيين والشعراء والنقاد والاجتماعيين والنفسانيين والمنشطين وغيرهم من محترفي فنون البحث والكتابة الفوقية جحافل من الفوضويين، الذين يسمون بمصطلح (المؤثرين- يوتيوبير)، الذين لم يتلقوا التكوين العلمي والمعرفي والثقافي والفكري والفلسفي والمنهجي والبحثي المطلوب.. ليتصدروا واجهة الفضاء الأزرق.. وصار لهم جمهور من التافهين والسطحيين والبله والمغفلين بالملايين.. ممن ينظرون لظاهر الأمور والصورة.. ولا ينظرون لما تختزله من قيم ومبادئ ومثل فاضلة..
ولم يعد الكتاب والفلاسفة والعلماء هم قبلة الجمهور التافه، بل صاروا موضع تهجم وسخرية واتهام.. وصرت ترى مؤثرا تافها يحصد المؤيدين بالملايين، وينال مقابل ذلك الملايين من الأموال.. فيما بات أهل الرأي وقادة الفكر والكتاب ونحوهم يستجدون العقلاء كي يقرأوا ما كتبوا، ويفهموه.. وهو ما أدخل البشرية جمعاء في أجواء العدمية واللاجدوى؟؟

أوهام العدمية واللاجدوى بين الجامعيين:

ولم يبق أمر الفوضى القيمية على شبكات الفضاء الأزرق مقصورا على فئات التافهين والعدميين وأوباش الآدميين فحسب، بل انتقل برذاذه العفن والمؤثر في وإلى مجال الأديان والمعتقدات والعلماء والمشايخ.. وانتشر بقوة شبح الجهل بقيم وتعاليم الدين، وانتشر الإلحاد والعدمية واللاجدوى.. بل ازدادت نسبة الجريمة والانتحار والفوضى واللاشيئية.. وعكف القائمون على هذه الفضاءات القاتلة لزيادة جرعات الفوضى التي حصدت الملايين من همل السطحانيين، لتنتقل بعدواها لجيل التحصين والترجيح المفترض كثرة سواده لدى الجامعيين طلبة وأساتذة وباحثين.. ولدى علماء الدين الإسلامي.. الذين ارتطموا بصخرة الفضاء الأزرق وركبوه من غير زاد فكري أو ثقافي أو علمي أو منهجي.. في مختلف تخصصات العلوم الدينية فقط، وانداحوا بفتات ما تعلموه من فقه وحديث وتلاوة ليناقشوا موضوعات الأمة المصيرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية.. ظانين أن بلحاهم الطويلة وعماماتهم الكبير يمكنهم إقناع الأجيال التي أفسدها صناع الوهم والخبل والأضواء الزاهية عبر شاشات وفضاءات الخيال والوهم الأزرق..
فلم تعد ترى جامعيا يقرأ، أو يدخل مكتبة الكلية، أو يقتني كتابا أو يحضر ندوة عرض وبيع كتاب، أو يزور معرضا للكتاب، أو نحوها من المناشط الورقية، كأن يحدثك عن آخر كتاب صدر في تخصصه فقط، أو نحو ذلك.. فيما انهارت نسبة المقروئية بل انعدمت البتة، ولم تعد تجد أحدا يقرأ بين الجامعيين ولاسيما الطلبة، وفي دراستين ميدانيتين أجريتهما على دفعة طلاب الكلية للعامين الدراسيين 2023-2024م و2024- 2025م للسنة الأولى حول قراءة الكتب، وللأسف الشديد كانت النتائج كارثية ومحبطة أيضا.. وانصبت الأسئلة مباشرة على من عندهم مكتبة في البيت؟ من قرأ كتابا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من قرأ كتابا في الفقه؟ كتابا في التاريخ الإسلامي؟ كتابا في تاريخ الثورة التحريرية المباركة؟ ونحوها من الأسئلة.. بل ذهبت الدراسة أبعد من ذلك لتكتشف أن الطلبة لا يعرفون دعاء الدخول لبيت الخلاء والخروج منه.. فضلا عن حفظ القرآن الكريم كله أو نصفه أو ربعه، عدا فردين أو ثلاث من كبار السن المشتغلين بالإمامة ممن حفظوا ودرسوا في الزوايا عند المشايخ التقليديين.
وصارت أطروحات الدكتوراة ومذكرات الماستر تنجز بالحواسيب وبالنسخ والنقل والقطع والقص والحشر والحشو والتدليس والتغيير والتبديل والاحتيال والسرقة المقنعة أيضا.. حتى بعد ضبط الأمور بواسطة جهاز كشف السرقات الذي تجاوزه هذا الفرد الحقير الوضيع بآليات الإضافة والحشر والمسح والمحو والتغيير والتبديل.. وغيرها من فنيات المتخلين عن ضمائرهم ودينهم وأخلاقهم.. وكان آخر ما ناقشت أطروحة دكتوراة سألت الطالب عن قائمة المصادر والمراجع أي: الكتب والمجلدات فلم يعرفها البتة، وقال: إنه اعتمد على شبكة المعلوماتية والمكتبة الشاملة، والأطروحة باهته مبتسرة لا روح فيها كالطالب والمشرف الذي لم يقرأ منذ ثلاثين سنة كتابا باعترافه الشخصي..
فلا طالب عاد يقرأ.. ولا أستاذ يقرأ.. ولا شيخ يقرأ.. وصارت خطب ودروس الجمعة تستل بفظاعة من شبكات المعلوماتية كما أخبرني الكثير من الأئمة والمشايخ المدلسين.. الذين حشروا أنفسهم في المجال السياسي والاستراتيجي وهم عطل منه.. ونتج خلال عقد من الزمن الفرد الهجين الممسوخ المسلوخ من روحانية آدميته وفطرته؟؟

مخاطر ومقاتل صناعة الفرد الهجين:

ومن هذه المساخر والمناكر والممارسات المخالفة للفطرة الآدمية فقد نشأ جيل يختلف عن نشأة جيلنا ومن قبله، الذي نشأ نشأة علمية ومعرفية ومنهجية تقليدية، يُحصّل المعارف عبر بواباتها ومآخذها التقليدية، وعبر المشايخ والكتب، ومن فنون العلوم التي كانت ومازالت تحتضنها الكتب، وموضوعات الكتب مرتبة ترتيبا منطقيا منهجيا معرفيا متدرجا، فينشأ معها عقل يكتمل بشكل تدريجي حتى ينمو ويشدو مكتملا.. بالحصول واكتناز معارف مرتبة وفق نظريات المرحلية والتدرج وسلم الأولويات والأبسط فالبسيط فالمعقد.. وهكذا تكتمل عقول الأجيال السابقة.. كل علم أو فن يأخذه عبر متخصصيه وعباقرته، عبر محاضن وفضاءات مقدسة تحترم المعايير والتقاليد والانضباط.. فنشأ جيلنا يقرأ مرتب العقل والفكر، إذا تحدث في علم من العلوم بدأه مرتبا وانتهى إلى كبريات مسائله وقضاياه.. وعاد به إلى أصوله ومدخلاته ومخرجاته..
أما جيل الفايسبوك وأجيال الفضاء الأزرق وجماهير الشبكة العنكبوتية فإنهم لا يحظون بنفس المساطر والضوابط والمداخل والمخارج التي درجت عليها أجيال ما قبل المرحلة الإلكترونية.. فعندما تفتح هاتفك أو حاسوبك تجد خليطا من موضوعات شتى ورسائل مختلفة في شتى المعارف.. فتجد خليطا هجينا من المعارف المبتسرة المختصرة غير المتجانسة، تجد على سبيل المثال رسائل: (طبخ، فنون، حرب، دعاية، أزياء، عري، جنس، سياحة، سباحة، دين، مواعظ، هندسة، أبنية، ناطحات سحاب، إشهارات، فكر، فلسفة، غناء، مسرح، تصريحات، مكتشفات، حيوانات، عالم البحار، جبال، طرق وعرة، رياضة، حركات بهلوانية، استطلاعات رأي.. و.)، والكل يتوجه لجهة مستقبلة واحدة، وهو الفرد الإنسان وعقله ومشاعره ونفسيته وروحه وتطلعاته ورؤاه وآماله، والسؤال المطروح ماذا سيصنع به هذا الكم الهائل واللامتجانس من المعارف والرسائل والخطابات؟ هل سيكونه تكوينا أصيلا وبانيا؟ ويعلمه ويثقفه؟ وهل سيخلق منه فردا وكائنا ناهضا صالحا؟ هل سيحيله إلى شخص واع يقظ بناء فاعل؟
حتما.. لا وألف لا.. سيصنع منه كائنا هجينا، مريضا، مستلبا، مريضا، مغرورا، تافها، وسطحيا، قليل المعرفة، ذُهانيا مستسهلا للأمور، كسولا ومعطوبا وخاملا وراكنا لبريق الزجاجة، بل مدمنا عليها حتى السقوط والعجز والخور.. يعتبر أنه قد حيزت له الدنيا بحذافيرها، في وهم مضروب بأوهام الضياع والتلاشي حين يسمر وجهه نحو لمعان الزجاجة..
فأي جيل هذا؟ وأي مستقبل لهذه الأمة المهزومة في ظل أجيال خائرة مهترئة مخدرة ومدمنة ومتهالكة على سلع الغرب اليهودي النصراني المسمومة.. فاللهم اشهد أني بلغت..