ديبلوماسية “تيك توك” و”إنستغرام” ومعركة الرأي العام
تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى مصانع غير تقليدية لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتغذيته بالمعلومات التي تأثر فيه وتضمن ولاءه، ومن ثمة فهي تتحكم في عملية رسم وتوجيه اهتمام المستخدمين نحو الموضوعات والقضايا التي تمثِّل أولوياتهم، مع قدرتها على فرض أجندة محددة على المواطن والمثقف والسياسي على حد سواء؛ إضافة إلى ذلك، فهي تنطوي على دور […] The post ديبلوماسية “تيك توك” و”إنستغرام” ومعركة الرأي العام appeared first on الشروق أونلاين.


تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى مصانع غير تقليدية لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتغذيته بالمعلومات التي تأثر فيه وتضمن ولاءه، ومن ثمة فهي تتحكم في عملية رسم وتوجيه اهتمام المستخدمين نحو الموضوعات والقضايا التي تمثِّل أولوياتهم، مع قدرتها على فرض أجندة محددة على المواطن والمثقف والسياسي على حد سواء؛ إضافة إلى ذلك، فهي تنطوي على دور بالغ الأهمية والفعالية في ترسيخ هُويات الدول والترويج لقيمها وسياساتها وكذا الدفاع عن مصالحها وتوجهاتها الاستراتيجية، في إطار ما يسمى بالديبلوماسية الرقمية التي باتت اليوم تتمفصل في الكون الرقمي وتُرسِّخ وجودها بقوة، مستهدفة بذلك الشعوب الأجنبية في سبيل خدمة الأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية وتعزيز مواقفها عالميا، بشكل بات يتماهى مع الديبلوماسية العامة ويندمج معها حد الذوبان، خاصة بعد أن انتقلنا إلى مجتمعات رقمية بالكامل، لها خصوصيتها وأدواتها التواصلية مع طرائق تلَقِّي جديدة عابرة للأوطان، ضمن نظام عالمي هجين يتم في بوتقته تكوين الرأي العام بشكل يصعب السيطرة عليه باستخدام الوسائل التقليدية التي كانت سائدة قبل تعاظم سطوة المنصات الاجتماعية والإعلام الجديد، ويرجع ذلك أساسا إلى تعقيده وسرعة التحولات التي يعرفها وتشعب الديناميات التي يسير بها، بحيث صار من العسير السيطرة على ثبات وتجذر السرديات والدعايات الموجهة للشعوب الأخرى وللرأي العام الأجنبي، بعد أن كانت تصنعها وسائل الإعلام التقليدية والنخب والديبلوماسية التقليدية لتحقيق القوة والنفوذ والتأثير، في نموذج الاتصال الأفقي، وفي إطار الاستخدام الذكي للقوة الناعمة، فعالم اليوم يعرف تضاعفا في عدد الفواعل التي تصنع السياسة الدولية حتى من غير الدول، كالمنظمات غير الحكومية، مع سقف حرية غير محدود يساعد على نشر المعلومات بسرعة كبيرة، تجوب الكوكب في ثوان قليلة، بغض النظر إن كانت صحيحة أو خاطئة، وهنا من الحمق أن يصدق المستخدم كل شيء يتم القذف به في وسائط التواصل الاجتماعي، من أخبار ومعلومات وصور وفيديوهات وتسجيلات صوتية، دون أن يتساءل عن مصداقيتها وصحتها ومعقوليتها وسياقاتها ومصدرها، فنحن نعيش اليوم في عصر ما بعد الحقيقة، حيث التضليل والتلاعب بالرأي العام سِمته الأساسية، تتناسل فيه الأكاذيب والحقائق البديلة بكثافة، وتنتشر بسرعة وبشكل فيروسي، بفضل الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، حتى أنه من الصعب على غير المتخصص أن يفرق بين الأصلي والمزيف، وبين الحقيقي والكاذب، بسبب التقدم الرهيب في نوعية التقنيات المستخدمة في إنتاج المحتوى، خصوصا تقنية الزيف العميق التي يقود بنا رصدها إلى القول بأنها ستتعملق مستقبلا وتطغى على المحتوى المنتشر على الشبكات والمنصات الاجتماعية، ويصير من الصعب مواجهة مضاعفاتها على جمهور المستخدمين والرأي العام الرقمي، لاسيما في إطار الحروب الهجينة من الجيلين الخامس والسادس التي يتزايد وهجها ويتثاير شررها.
وإذا كانت الديبلوماسية الرقمية تستخدم اليوم المنصات الاجتماعية لإدارة وبناء العلاقات مع الدول والشعوب الأخرى، وتحسين صورة الدولة أو تغيير الأنماط الذهنية المترسخة لدى الجمهور المستهدف، فإنها أيضا تستخدم راهنا كسلاح بالغ الضرر، لاسيما في حالة وجود صراعات ونزاعات بين الدول، يستقي أهميته وفعاليته من خلال قدرة الديبلوماسية الرقمية على إطلاق حملات موجهة ومدروسة لتشويه الأعداء وضرب صورتهم والسخرية منهم، أو من خلال مواجهة السياسة الثقافية الخارجية للخصوم ومكافحة الحملات الدعائية التي تستهدفها، وكذا الإمكانية الكبيرة لاختراق مناطق النفوذ البعيدة جغرافيا، وسهولة التغلغل الناعم وسط جماهير وشعوب الدول المعادية، لا سيما في عصر الاضطراب هذا، الذي يعرف تناميا ملحوظا للنزعات العدائية بين دول العالم، وانهيار السرديات الكبرى وتفكك سلاسل وشبكات العلاقات الدولية التي كانت تحفظ التوازن والهدوء، مما ينذر بمزيد من الصراعات ونشوب حروب جديدة مستقبلا، تندلع أغلبها بسبب رذائل الجيوسياسية، التي يأتي على رأسها الجوع الوجودي للهيمنة والسيطرة والنفوذ، تأججه طبقات كثيفة من الأحقاد التاريخية، وتنفث فيه البواعث الدينية التي تطل برأسها من خلف أستار القرون الماضية، فالدين ليس حضورا رمزيا في كل الحروب التي شهدها العالم إلى وقت قريب، وإنما كان المحرك الخفي والظاهر لها، فلا يوجد أخطر من الفكرة الدينية إذا اختطفتها الأيديولوجيا، واحتكر تأويلها الجاهلون و قننها الساسة، لأن هؤلاء جميعا، ينظرون إليها نظرة استعمالية، فيحولونها في نهاية المطاف، إلى مجرد أداة سالبة للحياة والحرية والفطرة والعقل، وآلة جبارة لصناعة القطيع و الأتباع والعبيد، ولا بأس هنا أن نذكر بأن ” لودفيغ فيتغنشتاين”، وهو أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين، وبالرغم من اعترافه بأنه ليس رجلا متدينا، إلا أنه اعترف أيضا، بأنه لا يملك سوى أن يرى كل مشكلة من منظور ديني؛ أما نحن فنتعامى عن تفسير مشكلاتنا تأسيسا على ما جاء به ديننا الحنيف، مخافة تهم واهية وجاهزة من حراس “العلمانية المزيفة” بتعبير “جون بوبيرو”، ورضوخا للمؤسسات والمنظمات الدولية التي تحتكر توزيع التصنيفات المعيارية على المخالفين للنظام العالمي، بناء على خلفياتهم الدينية، لاسيما المسلمين.
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post ديبلوماسية “تيك توك” و”إنستغرام” ومعركة الرأي العام appeared first on الشروق أونلاين.