في ذكرى خطيب العلماء الشيخ العلاّمة الطيب العقبي
أ. عبد الحميد عبدوس/ غالبا ما تمر ذكرى وفاة عالم كبير ومصلح جليل، وسط تجاهل إعلامي، خصوصا أنها تتزامن مع ذكريات شخصيات علمية، أو أحداث وطنية، اعتادت استقطاب الأضواء، والاستحواذ على اهتمامات وسائل الإعلام، مثل ذكرى وفاة الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فارس البيان، العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، أو ذكرى اليوم الوطني للطالب. …

أ. عبد الحميد عبدوس/
غالبا ما تمر ذكرى وفاة عالم كبير ومصلح جليل، وسط تجاهل إعلامي، خصوصا أنها تتزامن مع ذكريات شخصيات علمية، أو أحداث وطنية، اعتادت استقطاب الأضواء، والاستحواذ على اهتمامات وسائل الإعلام، مثل ذكرى وفاة الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فارس البيان، العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، أو ذكرى اليوم الوطني للطالب. إنها ذكرى خطيب العلماء، وفقيه المصلحين، العلامة الشيخ الطيب العقبي ـ عليه رحمة الله ـ . حلت الذكرى الرابعة والستون لرحيله يوم الأربعاء الماضي 21 ماي 2025 . كان الشيخ الطيب العقبي قد التحق بالرفيق الأعلى في21ماي 1961، عن عمر ناهز 71 سنة، بالتاريخ الميلادي. دفن في مقبرة «ميرامار» بالرايس حميدو، في جنازة مهيبة حضرها الآلاف من المشيعين.كان الشيخ الطيب العقبي من أعمدة الحركة الإصلاحية، ومن أبرز قيادات جمعية العلماء المسلمين..
ولد الطيب بن محمد بن إبراهيم العقبي (نسبة إلى بلدة سيدي عقبة) في 3 جوان 1890م بولاية بسكرة، هاجرت أسرته إلى الحجاز عام 1894 بقصد الحج ثم استقرت في المدينة النبوية في عام 1895م. تعلم الطيب العقبي بالحرم النبوي، على علماء كبار. بدأ مسيرته الإصلاحية بالكتابة في الصحف الحجازية داعياً للإصلاح. كان أول لقاء للشيخ الطيب العقبي بالإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس والعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، في سنة 1913 بالمدينة المنورة .بعد الحرب العالمية الأولى، عاد الشيخ العقبي إلى مكة المكرمة، وتولى رئاسة تحرير جريدة «القبلة» وإدارة «المطبعة الأميرية» في مكة، بتكليف من الأمير الشريف حسين. رجع الشيخ العقبي إلى الجزائر في 1920م بهدف حماية أملاك العائلة من اعتداء البعض عليها، وبسبب اضطراب الأوضاع في الحجاز بين الشريف حسين والملك عبد العزيز بن سعود، أقام الشيخ الطيب العقبي بمنطقة بسكرة، واشتهر بدروسه العلمية والدينية، كان يحضر دروسه أدباء ومثقفون كبار، أمثال الكاتب والصحفي الأمين العمودي، والشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة، وكان من ابرز تلاميذه العلامة أبو بكر جابر الجزائري، إمام المسجد النبوي.
قامت السلطة الفرنسية باعتقاله قرابة شهر، بسبب نشاطه الدعوي والإصلاحي. كان من بين مؤسسي جريدة «صدى الصحراء» في ديسمبر 1925، وبعد عامين، قام بتأسيس جريدة «الإصلاح» في 8 سبتمبر 1927م. التحق بنادي الترقي، بالجزائر العاصمة عام 1929. نال شهرة واسعة لدى سكان العاصمة بفضل دروسه الدينية في المسجد الجديد، ومحاضراته الثقافية في نادي الترقي. عند تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931، انتخب ضمن مجلس إدارة الجمعية، وعين نائبا للكاتب العام وممثلا للجمعية في عمالة الجزائر العاصمة، ومن نشاطاته في جمعية العلماء: إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية، وتولى رئاسة تحرير جميع صحف الجمعية «السنة» و«الشريعة» و«الصراط» ثم جريدة «البصائر» من أول عدد لها صدر في 27 سبتمبر 1935م إلى العدد 83 الصادر في 30 سبتمبر 1937م حيث انتقلت إدارتها إلى قسنطينة وترأس تحريرها العلامة المؤرخ الشيخ مبارك الميلي، ظل الشيخ الطيب العقبي محاضرا دائماً في نادي الترقي حتى أقعده المرض سنة 1958.
كان لنشاط الشيخ الطيب العقبي في العاصمة، وخصوصا في حي القصبة الشعبي، تأثيرا هائلا في نفوس المواطنين ، وأحدث تغيرا حاسما في سلوك فئات الشباب والعمال البسطاء الذين دفعهم الظلم والتجهيل الاستعماريين، وانتشار الدجل الطرقي والشعوذة، وغياب الأمل في حياتهم البائسة، إلى مهاوي الانحراف، وتعاطي الخمور، واقتراف المنكرات.استطاع الشيخ الطيب العقبي أن يكوٌن من الشباب المنحرفين، والعمال البائسين، جيشا من محبي جمعية العلماء المسلمين، ورواد المساجد، والمتطوعين في نشاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة الانحرافات الأخلاقية والآفات الاجتماعية، وقد أطلق الشيخ الطيب العقبي على هذه الفئة تسمية «الجيش الأزرق» بسبب لون لباسهم الأزرق.. وفي هذا يقول الشيخ الراحل العلامة، أحمد حماني، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأسبق: «فأقبل الناس عليه وأثّر في الوسط تأثيرا كبيرا، وقل الفساد والسكر والاعتداء، وكان مستشريا بالعاصمة، وانخفضت نسبة الجرائم، وتفتحت العقول والأذهان، وزالت منها كثير من الخرافات والبدع والأوهام، وصار للحركة جمهور غفير، خصوصا من العمال والشباب الذي سماه الشيخ العقبي (الجيش الأزرق) لما كان يمتاز به العمال من لباس البذل الزرقاء».
نتيجة لهذا النشاط الوطني الإسلامي التنويري، أصدر الوالي الفرنسي «ميشال» قراراً سنة 1933م يمنع بموجبه الشيخ العقبي من التدريس في الجامع الجديد. كما تسبب الدور الهام الذي قام به الشيخ الطيب العقبي في المؤتمر الإسلامي، الذي كان يهدف إلى توحيد القوى السياسية والاجتماعية الجزائرية لخدمة القضية الوطنية، وبهدف تعطيل نتائجه، في قيام إدارة الاحتلال الفرنسي بتدبير مؤامرة اغتيال مفتي العاصمة الشيخ عمر بن دالي المدعو الشيخ كحول في 2 أوت 1936، وألصقت تهمة حادثة الاغتيال بالشيخ الطيب العقبي، وتعمد الفرنسيون إهانته عند اعتقاله من نادي الترقي. عن هذه الحادثة الخطيرة يقول نجله الأستاذ شكيب العقبي: «إن الشرطة الفرنسية داست بأقدامها برنوس الشيخ أثناء خروجه من النَّادي، كما خاطبته بأسلوب جاف وشتمته أمام الملأ، وقد حزن الشيخ حزنا عميقا لذلك».
قضى الشيخ العقبي في سجن «بربروس» ستة أيام، قبل أن يقوم الشخص المدعو عكاشة، الذي اتهمه أما م القضاء الفرنسي بمسؤولية اغتيال المفتي كحول، بالتراجع عن أقواله، فأفرج عن الشيخ العقبي بصفة مؤقتة، بعد إمضاء تعهد بعدم مغادرة العاصمة ووُضِع تحت المراقبة، وبعد ثلاث سنوات صدر حكم نهائي ببراءة الشيخ العقبي. بلغ تعلق سكان العاصمة بالشيخ العقبي، وتقديرهم له مبلغا كبيرا. حتى أن المجاهد الراحل عمر عيشون الذي يتميز بقوة الشكيمة وشدة البأس، تعمد ضرب شرطي فرنسي لكي يتم إدخاله إلى السجن، وبمجرد دخوله سجن «بربروس» زأر في وجوه المحبوسين قائلا: «إنني أحذر كل واحد منكم من مغبة التعرض أو إساءة الأدب مع الشيخ الطيب العقبي، ومن يتجرأ منكم على الإساءة له، فإن حسابه سيكون معي». قضى الشيخ الطيب العقبي أيام حبسه تحت حماية المجاهد، عمر عيشون، وهو الرجل الذي طل محتفظا بمفاتيح نادي الترقي، الذي احتضن ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 ماي 1931، إلى أن سلمها إلى العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس الأسبق لجمعية العلماء المسلمين في 27 جانفي 2002..
في سنة 2008 سألت الشيخ عبد الرحمن شيبان عن سبب تخلي الشيخ الطيب العقبي عن رئاسة تحرير جريدة «البصائر»، وانسحابه من المكتب الإداري لجمعية العلماء، فقال: «نظرا لأهمية الشيخ الطيب العقبي في الحركة الإصلاحية وفي قيادة الجمعية تخلى الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس عن كل مشاغله في قسنطينة وحضر إلى العاصمة لمتابعة محاكمة الشيخ العقبي، لكن المكيدة الاستعمارية بإلصاق تهمة اغتيال المفتي كحول بالشيخ العقبي، وما نتج عنها من محنة السجن، أصابت معنويات الشيخ الطيب العقبي، وسببت له شيئا من الضعف، فعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، طلب الشيخ العقبي من قيادة الجمعية أن تبعث برقية باسم جمعية العلماء تعبر عن تأييدها لفرنسا ضد أعدائها الألمان، ولكن أغلب قادة جمعية العلماء وعلى رأسهم الإمام ابن باديس،رفضوا المقترح، وامتنعوا عن إرسال برقية تأييد لفرنسا. يبدو أن الشيخ الطيب العقبي، كان يعتقد أن توقيفه من طرف الشرطة الفرنسية بتلك الطريقة المهينة في نادي الترقي واقتياده ظلما إلى السجن، سيتسبب في اندلاع ثورة شعبية عارمة، ولكن عدم حدوث انتفاضة الشعب أدى إلى إقناع الشيخ الطيب العقبي بأن الشعب كان غير مستعد لمواجهة القوات الفرنسية بطريقة مباشرة، وأنه غير جاهز في تلك الأثناء (ثلاثينيات القرن العشرين) للقيام بالثورة، ولذلك طالب الجمعية بعدم الخوض في العمل السياسي وعدم استعداء فرنسا عليها في هذا الظرف. ويقال إن فرنسا طلبت من العقبي أن يرسل برقية باسمه بعد استقالته من إدارة جمعية العلماء، لكنه رفض، وفي ذلك دلالة على أنه كان مخلصاً في رأيه لمصلحة الجمعية، وليس لمصلحته الخاصة.»
وسمعت بعد ذلك، الشيخ عبد الرحمن شيبان، خلال نشاط ثقافي بنادي الترقي، يروي قصة واقعية لحقيقة موقف العقبي من تأييد فرنسا في الحرب العالمية، قال فيها: «في بداية الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) كنتُ مجندا في إحدى الثكنات العسكرية بالبليدة، فساروا بنا إلى حضور مهرجان إعلامي دعائي أقيم في قاعة سينمائية كبيرة، للتنويه بمحاربة الحلفاء للدولة الألمانية الباغية، وما هي إلا لحظات حتى رأيتُ مندهشا فيمن يرى المصلح الكبير الشيخ الطيب العقبي يصعد إلى المنصة، فإذا بالعالم المصلح الشيخ الطيب العقبي يفتتح خطبته بلمحة تاريخية للعالم العربي والإسلامي مع السياسة الاستعمارية الغاشمة، منددا بخيانة الحلفاء لوعودهم لمن ضحوا بدمائهم من الشعوب المستعمرة في سبيل انتصارهم سنة 1918م. فكانت مقدمة خطاب الشيخ العقبي خيبة مريرة للسلطة المدنية والعسكرية التي نظمت المهرجان الإعلامي والدعائي مما جعل منظمي المهرجان يقطعون التيار الكهربائي فانطفأت الأضواء وانقطع صوت الشيخ الجليل وتفرق الجمع، بابتهاج الجزائريين وحسرة من الاستعماريين مدنيين وعسكريين».